news-details

تراجيديا الثقافة العربية ولغز المثقف المزيف

 // حسن العاصي

منذ الخليقة برزت متطلبات الفرد واحتياجاته، وتبلورت تدريجيًا بتعاقب الحضارات، ثم تعددت واتسعت وتزايدت باطراد مع نشوء الحياة المدنية، ثم تفرعت هذه الاحتياجات وتشابكت وامتدت إلى كافة القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، فظهرت المنفعة الشخصية وارتباطها بمصالح العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، وأصبحت المصلحة عاملًا جوهريًا في حركة البشر وعلاقاتهم فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم والمؤسسة والسلطة من جهة أخرى.

تطورت هذه البنية تاريخيًا واتخذت أبعادًا شاملة، بحيث أصبح الأفراد والجماعات في صراع لتحقيق المكاسب والحفاظ على المصالح، ثم دخلت الدولة كمؤسسة طرفًا في الصراع مع الدول الأخرى لصيانة حقوق أفراد المجتمع. وظهر داخل هذه المؤسسة الجمعية صراع خفي بداية يهدف إلى تحقيق مصالح خاصة وليست عامة، ما لبثت أن برزت هذه الصراعات للعلن حين تطور المجتمع وبدأ بعملية الإنتاج التي أوجدت ثروات مالية في المجتمع، مما أثار لعاب مجموعة من الأفراد الذين تتفوق لديهم مصالحهم الشخصية والأنانية وحب الذات على القيم الأخلاقية، وبات هؤلاء الناس يشكلون مرضًا اجتماعيًا وسياسيًا خطيرًا على المجتمع والدولة.

إنهم الانتهازيون الوصوليون الكسَبة الذين حولوا بمكرهم وجشعهم الذي لا يتوقف، المجتمع وهيئاته إلى مصدر نفعي مصلحي، يتغولون إن لم تردعهم الضوابط الأخلاقية والدينية والقانونية. الانتهازية ظاهرة خطيرة في المجتمعات، تقوض تماسك الناس، وتجعلهم يفقدون القدرة على التمييز بين الحقيقة والأصيل، والزيف والخداع والادعاء، وتؤدي الانتهازية إلى تمييع المعايير وتغييب الضوابط وتسطيح المعايير، مما يجعل المجتمعات تنزلق إلى قاع لا أخلاقي.

 الانتهازية كمصطلح ومعنى

في قواميس اللغة فإن الشخص الانتهازي هو من يقوم باقتناص الفرص، ويستغل أي وسيلة لتحقيق المنفعة الشخصية، ويقوم باستغلال كل ظروف ممكنة بطريقة غير أخلاقية لجلب المصلحة الخاصة. الانتهاز هو الاغتنام والمبادرة إلى اقتناص الفرص لجني العوائد الشخصية.

في المصطلح السياسي، الانتهازية هي السلوك الواعي الأناني الذي يهدف تحقيق المصالح، وعدم الالتفات إلى المبادئ والعواقب التي ستعود على الآخرين. إن الأفعال الانتهازية هي تصرفات نفعية بدوافع المصلحة الذاتية.

في البعد الاجتماعي فالانتهازية كظاهرة تعني أن يقدم الفرد على مواقف وتصرفات اجتماعية أو فكرية أو سياسية غير مقتنع بها، بهدف الحصول على المكاسب أو الحفاظ على مصالح محددة ذات طبيعة شخصية أو عائلية.

الانتهازيون أولئك الأفراد الذين يكونون عادة قرب أصحاب النفوذ والشهرة والسلطة والمال، يتسلقون رقاب العباد كي ينالوا ما يصبون له. عادة هم خبراء في فنون الرياء والمداهنة والتملق، لا مبدأ لهم ولا عقيدة ولا أفكار ينحازون لها، كل ما يسعون إليه هو توظيف كل ما يمكنهم لتحقيق المكاسب الشخصية بأقل الجهود والتكاليف، وما إن تتحقق مصالحهم حتى يختفون وسط الازدحام، ويبحثون عن منافع أخرى في أماكن أخرى.

تجد الانتهازيين في كل مكان، ينتشرون ويتكاثرون كالفطر السام ينتهكون القيم الاجتماعية والأخلاق الإنسانية. إنهم وباء معد قد ينتقل للآخرين بالمخالطة، حيث إن الانتهازية تفتك بالثقة الفطرية بين أفراد المجتمع، وتجعل الناس في حالة من الحذر والتشكيك الدائمين في نية الآخرين. في القديم كانت العلاقات الإنسانية بين البشر تدوم حتى يواري الصديق صديقه التراب ويبكيه، فيما أضحينا أشباه بشر تزدحم فينا العربة، ويبدأ سفرنا بإلقاء التحية والسلام ثم التملق فالرياء ثم المغادرة بلا وداع.

الإنسان الانتهازي ذكي وحاذق يتقن التلون والخداع، يتخلى عن مواقفه بسرعة في سبيل المصلحة، فهو إنسان متعدد المواقف والأفكار، يتنكر لماضيه ولحاضره، وان اضطر حتى ينكر نفسه ليتمكن من الوصول لمبتغاه، بالرغم من ذلك هو إنسان شقي وتائه ويؤمن بالميكافيلية التي تبرر الوسائل للوصول إلى الغايات.

الفرد الانتهازي هو من يسقط في قاع الأنانية حتى ينسى أخلاقه وإنسانيته، فلا يدع فرصة إلا والتقطها بحذق واستخدمها ووظفها بمكر مستعملًا كافة مهاراته الدنيئة، لإشباع غروره ونزواته وأطماعه. الانتهازي شخص يتميز بالغدر والخيانة والتقلب وعدم الثبات، منافق كاذب أفّاك دجّال.

 انتهاز الفرص والانتهازية

إقدام الإنسان على انتهاز الفرص ليس رذيلة بحد ذاته، إن كانت الغاية الوصول إلى منفعة شخصية أو عامة، بشرط ألا تكون على حساب استغلال الآخرين أو استغفالهم، ودون أن تتسبب بأية مضرة لهم، والأهم أن تتحقق المصلحة دون تنازل عن القيم والأخلاق، ودون الإساءة للمجتمع، وبدون خرق القانون العام. إن اصطياد الفرص حق لجميع الأفراد، على أن يراعي التنافس الشريف بين البشر، من غير اللجوء إلى الاحتيال والخداع، وكافة أشكال المكر والإضرار بالآخرين.

لكن الانتهازية هي صفة مذمومة ونقيصة أخلاقية ومفسدة اجتماعية. إن الإنسان الانتهازي هو ذاك الشخص الذي يتحرك ويضع الخطط في العتمة، خشية أن يلاحظه الآخرون ويكتشفوا تصرفاته الدنيئة وعيوبه وغاياته القبيحة، فهو يرمي رماحه من خلف السور ويختفي بسبب طبعه الجبان، لتصيب رماح غدره الأبرياء. الانتهازي فرد لديه شعور بالنقص والدونية، فاشل لم يعرف النجاح يومًا، محبط لا يمتلك مقدرة المضي، ليس لديه كفاءة تمكنه من تحقيق غاياته بطرق اعتيادية شريفة، لذلك هو يتبع أساليب الطعن والحقد والذم والتعريض، يسلك درب النقاصة لإشباع طمعه ورغباته وجشعه، يستخدم المكر والخداع والدهاء وسيلة كي يصل إلى أهدافه، يرتدي ثوب الطيبة والعفة، ويُظهر الترفع والنزاهة، ويلجأ إلى التملق والتزلف والرياء كي يحصل على مراده، يحيك الدسائس بدهاء للانقضاض، وبمجرد تمكنه من تحقيق مصالحه، يرمي ثوب الشرف ويتحول إلى وحشٍ وغد يطعن وينهش دون رأفة.

الانتهازية آفة اجتماعية ووباء إنساني وداء عضال ينتشر مثل بقعة الزيت، ينمو ويتسع ويتعذر اجتثاثه إن وجد بيئة تحتضنه وتبرره، ثم يتضخم هذا الداء ليبدأ النهش والنخر في مفاصل المجتمع، ولا يتوقف حتى يحطم وثاق القيم والأخلاق للأفراد، ويهتك بنية وتماسك المجتمع، مما يسهل خرابه ودماره.

 الانتهازية السياسية

على الدوام شكلت العلاقة مع السلطة السياسية إبحارًا في ثقافة جلب المنفعة لأصحابها، من نفوذ أو جاه أو مال أو منصب أو رفاهية، مما يحدث مناخًا لنمو الانتهازية التي تفتك بالمجتمعات. وإذ كان النفوذ في معظم البلاد العربية هو نفوذ الأجهزة الأمنية وأدواتها، فإن أي ارتباط بها من أي نوع ما هو إلا عمالة مدفوعة الأجر، غايتها ترميم وتجميل وجه السلطة القبيح.

المثقفون يستمدون سطوتهم من الفكر والأيديولوجيا والثقافة، والمثقفون اليساريون تحديدًا، لم يعرف عنهم يومًا سعيهم خلف إغراء المال، فهم أصحاب مبادئ سامية وأهداف كبرى وقيم إنسانية، فهذه كانت ضريبة الثقافة الملتزمة بقضايا الإنسان والعدالة الاجتماعية والحريات، وابتعد هؤلاء اليساريون المثقفون فيما مضى عن كل رفاهية قد تفسد انتماءهم، لكن القيم والمبادئ لا تطعم خبزًا ولا تكسو ثوبًا.

فكيف تقاطعت مواقف المثقفين اليساريين الليبراليين مع أشباه المثقفين والمشتغلين بالحقل الثقافي في الكثير من الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين؟ كيف تحالف المثقف الحداثي مع المثقف الرجعي؟ وتحالف المبدئي مع الوصولي؟

إذا كان أشباه المثقفين الانتهازيين يسعون خلف المكاسب والمنافع، فما هي الأسباب التي تدفع المثقفين الذين ادعوا انحيازهم للحق وللجماهير طوال العقود المنصرمة، لكي تلتقي مواقفهم مع أجراء الثقافة الذي يشكلون بطانة السلطة العربية؟

هل هو صراع الأيديولوجيات الذي تسبب في تحالف المثقفين الثوريين العلمانيين، مع المثقفين الانتهازيين المتلونين، وبالتالي توحّد الطرفان في جبهة واحدة لمحاربة الفكر الديني، ودعم الأنظمة التي تواجه هذا الفكر بأساليب أكثر وحشية، من تلك التي يقدم عليها من يدعي أنه يخوض معركته ضدهم وضد أفكارهم الظلامية، لكن هذه الأنظمة وفي سياق هذه "الحرب" استقطبت معظم المثقفين اليساريين والليبراليين والقوميين الفاشلين الانتهازيين، الذين تنكروا لماضيهم ولمصالح الجماهير، وأنكروا الشعارات التي رفعوها والأهداف التي كانوا يناضلون لتحقيقها.

  لغز المثقف العربي

أظهرت الألفية الثالثة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالًا من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعًا في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.

أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعيًا تاريخيًا، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.

 في هذا الشقاء انقسم المثقفون بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.

لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيرًا المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسة معتمدة في علاقتها مع المواطنين.

لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفون المناضلون العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفون فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفون ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.

أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.

 الانتهازي المثقف

عادة ما يكون المثقفون الانتهازيون أناسًا على قدر من الذكاء، يتميزون بمرونة مطواعة فريدة. براغماتيين لا وجود للمبادئ في حساباتهم. يلعبون في الساحة الثقافية والسياسية بمهارة وحرفة. لا يصعب عليهم تقمص أي دور. يتلونون ويتقلبون في المواقف والرؤى والاصطفافات والمذاهب والأيديولوجيات. يمتطون أقلامهم للوصول إلى المكاسب الشخصية. يوظفون أفكارهم وثقافتهم ومهاراتهم اللغوية في مخاطبة الجماهير، وإثارة مشاعرهم وحماسهم وتوجيههم لغايات محددة.

المثقفون الانتهازيون يخططون ويتحركون وفق رؤية واضحة الملامح، استنادًا إلى أيديولوجية محددة، وبالطبع هم أكثر فئة لديها إمكانية تزييف الوقائع وتزوير الحقائق، ودورهم خطير جدًا من خلال خداع الناس وتضليل المؤسسة السياسية، لأنهم يفترون على الحقيقة ويشوشون الواقع، ويخلطون الحقيقة مع الوهم لأجل المصالح الشخصية.

يعبثون بمصالح المجتمع والوطن في سبيل المنفعة الذاتية. لأجل ذلك لا يتورعون عن التقلب، فمرة نراهم يساريين ومرة يمينيين، مرة ليبراليين ومرة سلفيين، مرة واقعيين وأخرى مثاليين، المهم هو تحقيق الفائدة. هم مجردون من أية مبادئ أو عقائد أو أفكار أو مذاهب أو أخلاق، يتصفون بالغدر والخيانة، وسرعان ما ينقلبون على فريقهم إن انتهت مصلحتهم. ولا تتفاجأ إن أخبرتك أن الانتهازيين - خاصة المثقفين منهم- غالبا ما يكونون شخصيات مرموقة ذائعة الصيت، بعضهم يمتلك سلطة ونفوذًا تجعل الآخرين يتقربون منهم ويتملقون، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج الانتهازية مرة أخرى.

 

المثقف الجوكر

إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يمينًا ويسارًا عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.

إنهم المثقفون الذين يؤدون دور "الجوكر" المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية، وينتقلون بين مذهب وآخر، بين أيديولوجيا وأخرى، بين فلسفة وفلسفة، بين موقف ونقيضه. تراه مرة تقدميًا ومرة أخرى رجعيًا. يدافع مرة عن مصالح الناس، ومرة يجمل وجه الأنظمة. اللافت أن تحول المثقفين غالبًا يحصل من أصحاب الأفكار اليسارية الليبرالية نحو الأفكار اليمينية المحافظة، ولم نشهد إلا نادرًا تحول مثقف يميني نحو اليسار. هم هكذا لا أصالة لهم ولا يقفون على أرض صلبة، يتحولون ويدورون كيفما دارت الريح.

غالبًا يكون المثقف الجوكر يعاني من عقد متعددة مركبة، يعمل على اصطناع الرصانة والشرف، وحين يشعر بالعجز الذاتي وفقدان الحيلة والمبرر، أو إن فقد جدوى الأسلوب، تراه يستخرج كل عقده وينقلب على الآخرين، يرميهم بالشتائم بصورة هستيرية، تصل نوبة الغضب لديه إلى ذروتها فيكيل السباب للأشخاص والمجتمع ويتوعدهم بالويل.

ولأن المثقف الانتهازي لا مبدأ له ولا معيار، لذلك يلجأ دومًا إلى نشر الثقافة التبريرية في الوسط الذي يعمل ويتحرك فيه، حتى يتاح له تبرير وتفسير سلوكه الوصولي.

إن كان الفرد الانتهازي عبارة عن إمّعة خاوية بعقل فارغ، همه إشباع غرائزه على حساب الرأي والفكر والموقف، لا يرى في أي مشهد سوى مصالحه، ولا يرضى عن تحقيقها بديلًا. إلا أن الأمر يصبح خطرًا إن كان الانتهازي سياسيًا، ومأساويًا إن كان مثقفًا، وكارثة إن كان رجل دين، حيث تصبح الانتهازية تدريجيًا مكونًا ليس غريبًا عن ثقافة المجتمع.

المثقفون الانتهازيون كانوا دومًا السبب خلف الانتكاسات التي أصابت الثقافة والمشهد الثقافي العربي، وهم أبطال الخراب الذي طال المجتمعات العربية، وشركاء في الهزائم التي منيت بها الأمة العربية، لأنهم لم يكونوا يومًا ينتمون للشعب، بل عملوا على تفتيت مواقف الناس وتمييعها ونشر البلبلة والتبرير، وخداع الجماهير وخيانة مصالحهم وحقوقهم، وتضييع الأهداف وخلط الأصلي بالمزيف، وتزوير الواقع وممارسة الكذب والنفاق، في مجتمعات عربية ما زالت تتفشى فيها الأمية والجهل، ويختلط على عامة الناس المقياس والمعيار.

الفاجعة حين ترى الكثير من المثقفين الانتهازيين وهم يدعون الوطنية والانتماء، ويتبجحون بالشعارات القومية ومصالح الأمة، ويتظاهرون بالوقار والحصافة والرأي السديد، ويبدون الحرص على مصالح الوطن والدولة والشعب، فيما هم أصحاب قلوب خاوية وعقول بائرة، منحرفين سريعي الانزلاق، يرمون بكل شيء في مقابل تحقيق مصالحهم. والأمر المثير أن يصل العبث درجة تدفع ببعض هؤلاء المرضى إلى كيل الاتهامات للمثقف النزيه الشريف صاحب المبادئ، وذلك بغية إحداث أجواء مائعة غائمة، وتعكير نقاء الماء ليتمكنوا من التمويه والتخفي في وسط غير واضح، ومن ثم التصيد لاقتناص المنفعة.

من سمات المثقف الجوكر الكذب ثم الكذب، على نفسه وعلى المجتمع، بحيث لم يعد يعرف سواه. وكلكم تعلمون أن الكذب رأس الخطايا وبدايتها، لذلك فإن جميع المظاهر المقيتة التي يُظهرها المثقف الانتهازي بصفة عامة إنما هي بسبب كذبه ونفاقه وغدره الذي يعتبره ذكاء وفطنة ونباهة منه، فيما هو إنسان يقوم بوضع المفاهيم الأخلاقية والقيم الإنسانية رأسًا على عقب، حيث يصبح الحق باطلًا والزيف فخرًا، وهنا يكمن جوهر الخطر الحقيقي لهؤلاء.

 

الشرق المفجوع

هناك مثل غربي يقول "من لا يكون ليبراليًا في العشرينيات من عمره يكون بلا قلب، والذي لا يصبح محافظًا في الأربعينيات يكون بلا عقل". إن الاستنتاج المصلحي من فحوى هذا المثال لا يحتاج إلى كثير من التفسير، فهو يشير إلى أن الإنسان يكون مقدامًا مندفعًا صاحب مبادئ ومواقف كبرى وأحلام شاسعة، لكن إن ظل يتمسك بالأفكار الكبرى واندفاع الشباب، يكون عديم الحكمة.

هذا في الغرب حيث المجتمعات حققت الكثير في طريق الديمقراطية، ماذا عن الشرق المفجوع بالقهر والاستبداد، حين يتعمد بعض المثقفين أن يلجأ لصياغة مواقفه بلغة مواربة تحتمل التأويل والتفسير على أكثر من معنى، وبذلك يتمكنون من التملص إن تم إخضاعهم لمحاسبة أو مساءلة، أو توظيف المعنى لمصلحة تحقيق مآرب محددة، ذلك لأنهم لا يستطيعون التصريح تماما بأفكارهم كما هي، لأن الضوابط التي حددتها السلطة السياسية أو الدينية أو المجتمعية لا تتيح للمثقفين حرية أن يقولوا ما يؤمنون به ويكتبون ما يعتقدون. الأمر السيئ هنا أنه قد تنشأ نتيجة هذه الأوضاع، شريحة من الانتهازيين تقدم على هذا الخطاب غير الواضح، وبالتالي تسهم في خلق حالة من عدم احترام الفكر لذاته، وأجواء ثقافية غير صحية تعزز الرأي الواحد وتقمع الموقف المستقل.

لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين "إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل". وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.

ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.

 ماذا نحتاج

منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثمانًا فادحة لمواقفهم بدءًا من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبورًا بقتل الشاعر الشهير الضرير "بشار بن برد العقيلي" بيتين من الشعر، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.

مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر بمقاربات التجديد الديني، فإن الراهن العربي بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب