news-details

كيف كان لماو أن يرتقي بحركة السترات الصفراء

//سلافوي جيجك          

ترجمة خاصة بـ"الاتحاد":حسن مصاروة

تكشف لنا حركة السترات الصفر الفرنسية اليوم عن معضلة في صلب سياسة هذا العصر. تمسّك زائد بـ"الرأي" الشعبي والرائج وقليل من الابتكار والأفكار الحديثة.

ان القاء نظرة سريعة على الفوضى الحاصلة تُنبئنا بشكل واضح أننا عالقون في صلب صراعات اجتماعية متعددة. التوتّر بين المؤسسة الّليبرالية والشعبوية الجديدة، الصراع البيئي، جهود من أجل دعم  النسوية والتحرر الجنسي، المعارك العرقية والدينية والتوق الى حقوق انسان كونية. هذا بِالإضَافَةِ إلى محاولة مقاومة السيطرة الرقمية على حياتنا.

اذاً كيف نجمع بين كل هذه النضالات معاً بدون أن نُفضل نضالاً معيناً بكونه "الأولوية الحقيقية" ؟ لأن هذا التوازن يمنحنا المُفتاح لكل النضالات الأخرى.

أفكار قديمة

قبل نصف قرن، حينما كانت الموجة الماوية في أوج قوتها، كان تمييز ماو تسي تونغ بين التناقض "الرئيسي" والتناقض "الثانوي" عملة رائجة في المناظارات السياسية. ربما يستحق هذا التمييز إعادة لإحيائه من جديد اليوم.

لنبدأ بمثال بسيط: أزمة اسم جمهورية مقدونيا- قبل عدة أشهر توصلت حكومتا كُل من اليونان ومقدونيا إلى إتفاق يحل أزمة الاسم التاريخية بواسطة التزام مقدونيا بتغيير اسمها إلى "مقدونيا الشمالية".

هذا الحل هوجم من قبل الراديكاليين في كلا البلديّن. المعارضون في اليونان ادعوا أن "مقدونيا" هو اسم يوناني قديم، والمعارضون في "مقدونيا" شعروا بالاهانة من انتقاص اسم بلدهم الى "مقدونيا الشمالية"، بما أنهم الشعب الوحيد الذي يُطلق على نفسه مسمى المقدونيين. وبالرغم من أن هذا الحل لا يُمكن وصفه بـ"المثالي"، الا أنه يقدم بارقة أمل لنهاية صراع طويل وعقيم بواسطة تسوية معقولة.

لكن المسألة هنا تقاطعت مع تناقض وصراع آخر- الصراع بين القوى العظمى (بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي من جانب وبين روسيا من الجانب الاخر). الغرب مارس ضغطاً على كلا الجانبين من أجل قبول التسوية حتى تستطيع مقدونيا الانضمام سريعاً الى الاتحاد الاوربي وحلف شمال الأطلسي، بينما، لذات الأسباب، عارضت روسيا هذا الحل (لما قد يؤديه دخول مقدونيا الى الاتحاد الاوربي وحلف شمال الأطلسي من فقدان لتأثيرها في البلقان) ودعمت قوى قومية محافظة في كلا البلدين، بشكل متفاوت.

اذاً، في أي جانب علينا أن نقف هنا؟ أعتقد أن علينا اتخاذ جانب التسوية، لسبب بسيط، أن هذا هو الحل الواقعي الوحيد لهذه المعضلة. روسيا عارضت هذا الحل لأنه يهدد مصالحها الجيو-سياسية، دون أن تعرض حلاً آخر. لذا سيكون أخذ جانب روسيا في هذه المسالة يعني "التضحية" بالحل الواقعي لمشكلة العلاقات المقدونية اليونانية على مذبج المصالح الجيو-سياسية الدولية.

ألعاب القوة

لنتكلم عن اعتقال مينغ وانزو، المديرة المالية لشركة هواوي الصينية وابنة المؤسس، في فانكوفير بكندا. هي الآن متهمة بخرق العقوبات الامريكية على ايران، وتواجه التهديد بتسليمها الى الولايات المُتحدة حيث من الممكن أن تعاقب بالسجن هناك لمدة تقارب الـ30 سنة اذا أقر أنها مُذنبة.

ما الذي يحدث حقًا هنا؟ في الغالب الأعم، بطريقة أو باخرى، كل الشركات الكبرى تخرق القوانين بشكل حذر. لكن من البديهي أن هذا مجرد "تناقض ثانوي" وأن هناك معركة اخرى تخاض هنا. المسألة ليست متعلقة بالتجارة مع ايران، المسألة متعلقة بالاساس بالصراع المحتدم  للسيطرة على انتاج البرمجيات الرقمية (الهاردويير والسوفتوير).

ما تمثله شركة "هاواوي" هو دولة الصين، والتي لم تعد اليوم صين الـ"فوكسكون"، أي لم تعد المكان الذي تتوافر فيه عمالة رخيصة تُصنع آلات طورت في مكان آخر، بل أضحت المكان الذي تُبتكر فيه البرمجيات الرقمية ايضاً. الصين لديها الامكانية لأن تصبح وكيلا للسوق الرقمي أقوى بمراحل من اليابان وشركة سوني ومن كوريا الجنوبية وشركة سامسونج، من خلال الثقل النوعي والرقمي الاقتصادي.

لكن يكفينا الآن أمثلة عينية. الأمور تصبح معقدة أكثر حينما يتعلق الموضوع بالصراع من أجل حقوق انسان "عالمية". نفهم هنا "التناقض" بين المؤيدين لتعميم هذه الحقوق وبين اولئك الذين يحذرون أن حقوق الانسان "العالمية" ليست حقاً "عالمية" بل هي ضمنياً امتيازات خاصة بالقيم الغربية. وبذلك هي شكل من أشكال الايديولوجيا النيوليرالية. ولذلك ليس غريبًا أن استخدام ذريعة "حقوق الانسان" شكل مبرراً لكثير من الغزو العسكري الغربي، من العراق الى ليبيا.

من جهة أخرى فان المناضلين من أجل حقوق انسان "عالمية" يحاججون بأن رفض تعميم هذه الحقوق الكونية من الممكن أن يبرر أشكالا من الأنظمة الفاشية والشمولية والقمع على انها نمط معين للحياة. لكن كيف نُقرر هنا ؟

ان القبول بتسوية معتدلة بين الطرحين ليس كافياً هنا، لذلك على المرء أن ينحاز الى حقوق الانسان "العالمية" لسبب عيني جداً. البعد الكوني يجب أن يعمل هنا كوسيط من أجل أن يوفر تعايشاً بين أنماط حياة مختلفة، والتصور الغربي لحقوق الانسان "العالمية" ينطوي على بُعد النقد الذاتي الذي يجعل نواقصها ومحدودياتها بادية للعيان. حينما تُنتقد الافكار الغربية الرائدة بسبب انحياز عيني، فهذا النقد عليه أن يعتمد على تصور حقيقي أُكثر للكونية يجعلنا نرى التشوه بالكونية الغربية المطروحة.

لكن، صيغة من الكونية موجودة هنا في كل الاحوال، حتى لو كان تصوراً متواضعاً للتعايش بين انماط حياة مختلفة ومتعارضة جوهرياً. باختصار، هذا يعني أن "التناقض الاساسي" هو ليس الصراع بين انماط حياة مختلفة، بل التناقض الذي ينطوي عليه كل نمط حياة مٌعين، التناقض بين خاصية نمط الحياة هذا وبين سعيه للكونية.

واذا اردنا استخدام مصطلح تقني، فان كل نمط حياة هو بتعريفه اصلاً  عالق في "تناقض براغماتي"، وفي سعيه نحو الشرعية لا يتم تقويضه عبر وجود انماط اخرى للحياة بل بالاساس بواسط تناقضه الداخلي.

إنقسامات اجتماعية

الامور تزداد تعقيداَ عند الكلام عن "التناقض" بين انحدار اليمين الجديد نحو العنصرية المبتذلة وبين الصوابية السياسية الأخلاقية. إذ ان من الجوهري من وجهة نظر النضال التقدمي عدم قبول هذا التناقض كأساسي بل الكشف عن الترددات الطبقية المشوهة والمنحرفة الكامنة في داخله.

وبأسلوبه الفاشي، فان صورة العدو التي يرسمها اليمين الشعبوي -دمج بين النخب الاقتصادية والمهاجرين- تجمع بين طرفي التراتبية الاجتماعية. أي تساهم في تشويه الصراع الطبقي.

في الجهة المقابلة وبصورة متشابهة تقريباً فان نضالات "الصوابية السياسية" المناهضة للعنصرية والتمييز الجنسي، بصورة معينة، فان صراعها الاساس هو مع العنصرية والتحيز الجنسي الذي تبثه الطبقة العاملة البيضاء. فهي ايضاً تُشوه الصراع الطبقي.

لهذا بالذات فإن تعريف "الصوابية السياسية" على انها "ماركسية ثقافية" هو تعريف يجانب الصواب. بل بالعكس فإن "الصوابية السياسية" بكل راديكاليتها المُزيفة هي خط الدفاع الأخير لليبرالية البرجوازية أمام الماركسية، هي حرف للصراع الطبقي ومحاولة تمويه كونه "تناقضاً رئيسياً".

الأمر ذاته ينطبق على نضال المتحولين جنسياً  ونضال حركة "انا ايضاً" metoo. والتي يتم تحديدها وفقاً للتناقض الرئيسي للصراع الطبقي الذي يقدم تنافراً داخلياً في صلبها. 

تارانا بروك، التي خلقت حملة "أنا ايضاً " قبل أكثر من عقد مضى، كشفت في رسالة نقدية لها، أنه على مر السنوات منذ أن بدأت الحملة، نشرت هوساً صارماً بمقترفي الأفعال (التحرش، والاغتصاب)-سيرك دوري من الاتهامات والقاء اللوم والمحاكمات الميدانية.

وقد قالت بروك:"نحن نعمل بجدية لتحويل الرواية الرائجة عن حركة "انا ايضاً" عّما هي عليه اليوم. يجب أن نحول الرواية عن كونها حرباً جندرية، إن الموضوع هو النساء ضد الرجال، وأن الحملة هي لنوع معين من الناس-من أجل النساء، البيض المغايرات والشهيرات."

باختصار، علينا أن نناضل من أجل اعادة تركيز حملة وانا ايضاً على المعاناة اليومية لملايين النساء العاملات العاديات وربات المنازل. وهذا يُمكن فعله بالتأكيد. فعلى سبيل المثال، في كوريا الجنوبية، حركة وانا ايضاً تفجرت مع عشرات الآلاف من النساء العاملات العاديات المتظاهرات ضد الإستغلال الجنسي.

احتجاجات السترات الصفر الجارية الآن تختصر كل ما تحدثنا عنه، محدوديتها القاتلة تكمن في الشكل منقوص القيادة الذي تتخذه، تنظيمها العفوي الذاتي والفوضوي.

فالحركة بطريقة شعبوية معينة، تواجه الدولة بسلسلة من المطالب من المستحيل فعلياً تحقيقها في ظل المنظومة الاقتصادية القائمة. ما تحتاجه الحركة فعلاً هو "قائد"، لا يستمع فقط للناس ومطالبهم، بل يترجم إحتجاجاتهم الى رؤية جديدة ومتينة لمجتمع جديد.

"التناقض" بين مطالب السترات الصفر والدولة هو "تناقض ثانوي": فان مطالبهم عالقة في ظل النظام القائم نفسه. "التناقض" الحقيقي هو بين كل نظامنا الاجتماعي-السياسي القائم وبين رؤية لمجتمع جديد. الرؤية التي لم تعد المطالب المصاغة من قبل المحتجين تبرزها وترفعها. كيف ؟

العجوز هنري فورد كان محقاً حينما أشار أنه حينما أنتج أول سيارة له، لم يتبع ما "أراده" الناس. أو كما صاغ الأمر، اذا سألت الناس ماذا يريدون، لأجابوا:" نريد حصانا أقوى وأفضل لجر العربة".

هذا هو ايضاً نفس المنطق الذي تحدث به ستيف حوبز مؤسس ابل: " في الكثير من الأحيان، الناس لا يعرفون ماذا يرغبون بالضبط، حتى تريهم إياه".

ستيف جوبز كان أقرب الى "السيد التقليدي" في فهمه لهذا الشعار. فحينما سئل عن كيف تستثمر شركة ابل ردود أفعال الزبائن، رد قائلاَ: "ليست مهمة الزبون أن يعرف ما يريد، نحن نعرف وحدنا ما نريد".

المفاجئ هنا أن ستيف جوبز بعد أن ينكر كون الزبون يعرف ما يريد، لا يذهب الى قول المخرج المتوقع: "انها مهمتنا نحن (مهمه الرأسمالية الخلاقة) أن نعرف ماذا يريد الزبون ونعرضه عليه في السوق". بدلاً من ذلك يُكمل جوبز: "نحن نعرف ماذا نريد"-هكذا يفعل "السيد" الحقيقي. هو لا يحاول تخمين ماذا يريد الناس. هو ببساطة يطيع رغباته الخاصة ويترك للناس أن يقرروا اذا كانوا يريدون اتباعه واتباع رغباته. أي بكلمات اخرى، قوته تنبع من كونه مخلصاً لرؤيته، من عدم استعداده لوضع رؤيته في محل المفاوضة.

وهذا الأمر نفسه ينطبق على "القائد السياسي" الذي نحتاجه اليوم. المحتجون في فرنسا يريدون "حصاناً" أفضل وأقوى وأرخص- في هذه الحالة بالذات، وبصورة ساخرة، المحتجون في فرنسا يطالبون بوقود أرخص.

ما يحتاجونه فعلاً هو رؤية جديدة لمجتمع يكون فيه سعر الوقود ليس مهماً بعد الآن، بالقدر الذي أصبح فيه سعر طعام الأحصنة غير مهم بعد إختراع السيارات.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب