news

صفحات من تاريخ شفاعمرو: معركة الفوّار

وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 ووضعت أوزارها حتى بدأت الاضطرابات في فلسطين، وكانت قد أخمدت طيلة سنوات هذه الحرب، وابتدأ التوتر السياسي يسود البلاد من جديد وخصوصا بعد أن صدر قرار التقسيم بتاريخ 29/11/1947 وقررت بريطانيا على إثره إنهاء انتدابها على فلسطين... وما أن بدأت تسحب قواتها من البلاد تدريجيا حتى بدأت القوات العربية (!!) تتهيأ لدخول فلسطين...
وفي تلك الأثناء من أوائل شهر آذار من عام 1948 تصل إلى شفاعمرو حامية عربية صغيرة كان الغموض يكتنفها ويكتنف وصولها من كل جانب ولم نكن في البداية نعرف من أرسلها (ربما كانت الهيئة العربية العليا) ولماذا تم اختيار شفاعمرو لتتمركز فيها، ولكننا علمنا فيما بعد أن هذه القوة وصلت إلى حيفا أولا ثم انتقلت إلى شفاعمرو لأن قائدها اشترط أن يتولى هو بنفسه قيادة المدينة ورفض بشكل قاطع أن يكون تحت إمرة آمر حامية حيفا محمد حمد الحنيطي ولكنه بعد أن رفضت اللجنة القومية طلبه هذا وهددته بتجريده من سلاحه بالقوة إن لم يذعن لطلباتهم، وتفاديا لوقوع صدام بين القائدين، اختار أن يغادر حيفا إلى شفاعمرو لتكون مقرا بديلا له لأنه أصر أن يعمل هو ورجاله باستقلالية تامة وقد تم له ما أراد... وربما يكون اختياره لها لكونها مدينة كبيرة كانت تلعب دورا مركزيا هاما في حياة المنطقة منذ الاحتلال التركي للبلاد (حيث كانت مركز ناحية) وحتى رحيل الانكليز عنها، ولربما كان موقعها الاستراتيجي المميز الجديد كبوابة الجليل الغربي ووقوعها كمدينة عربية كبيرة داخل المنطقة العربية من التقسيم وتقع على الحدود الفاصلة بين المنطقتين، وقد أعطاها هذا الموقع أهمية خاصة وجعل الحاجة إلى تحصينها وحمايتها ضرورية وللدلالة على ذلك تم إرسال فرقة كبيرة تعدادها أكثر من 500 رجل بقيادة شكيب بك وهاب بعد انسحاب هذه الحامية منها لتحل محلها... وربما يكون قد اتصل كل من رشيد الحاج إبراهيم والشيخ نمر الخطيب (من لجنة حيفا القومية) مع المرحوم والدي، كونه رئيسا للجنة القومية، لاتخاذ الترتيبات اللازمة لاستقبال هذه الفرقة في شفاعمرو... هكذا كانت الخلافات والانقسامات تضعف الموقف الفلسطيني وربما تكون هذه الحادثة عيّنة من عينات النكبة التي لا تعد ولا تحصى!!...  
وكل ما عرفناه عن هذه الفرقة في البداية أنها كانت بقيادة قائد عراقي، من خيرة الضباط العسكريين العرب، يدعى (عبد الحق العزاوي) ولا نعرف له أصلا غير هذا الاسم ولكنه حسبما قال عنه  والدي، الذي تعرف عليه جيدا من خلال لقاءاته به، بأنه كان قائدا شجاعا قوي الشخصية صارما واثقا من نفسه ويتمتع باستقلالية تامة وخصوصا باتخاذ القرار وقليل الاختلاط بالناس... باختصار كان رجلا عسكريا بكل معنى الكلمة!!... وكان هناك من قدر أن قوام هذه القوة بـ 25 رجلا بينما أكد والدي أن عددهم كان يتراوح بين 40 إلى 50 جنديا مدربين تدريبا عسكريا عاليا... وان كنا لا نعرف بالضبط جنسيات هؤلاء الجنود ولكننا كنا نعرف على وجه التأكيد أنه كان بينهم جندي أو جنديان من المتطوعين من أصل يوغوسلافي (ربما من البوسنة والهرسك) لعبا دورا قتاليا شجاعا كما سيظهر فيما بعد...
وتتمركز هذه الحامية في ضاحية منعزلة من ضواحي شفاعمرو وتقع إلى الشمال منها تدعى "الفوّار" (وسميت بهذا الاسم نسبة إلى نبع ماء فوار يقع فيها) وتبعد عن وسط المدينة بحوالي كيلومتر واحد وكانت خالية من السكان اللهّم إلا من بيت منفرد واسع الأرجاء مبني من الحجر اليابس كان يملكه شخص من سكان البلدة يدعى حنا اسطفان بحوث (كان قد نزح إلى حيفا فيما قبل) ولم يكن يسكنه بنفسه على ما أعلم بل كان يسكنه شخص آخر يدعى أبو احمد الجمال ولعله كان أحد الفلاحين الذين يعملون عنده إذ كان صاحب هذا البيت يملك مساحة واسعة من الأرض المحيطة به وقد اتخذته الفرقة ثكنة لها وتمركزت فيه...
كانت هذه الكتيبة على مستوى عال من التدريب العسكري وعلى جانب عظيم من النظام والانضباط، فعلا وليس قولا، كما أثبتت ذلك وقائع الأحداث التي تلت... ومن الجدير بالذكر أنهم لم يتدخلوا في شؤون البلدة إطلاقا ولم يسمحوا لأحد من أهل البلدة أن يتدخل في شؤونهم وخصوصا العسكرية منها كما هي الحال في الجيوش النظامية، ومما يذكر أنهم أحاطوا تحركاتهم وخططهم العسكرية بالسرية التامة... كان لديهم قدر كبير من الاكتفاء الذاتي ولذا لم يطلبوا أية نجدة أو أية مساعدة كانت من أي  كائن كان وبهذا لم يشكلوا عبئا على السكان ولم يكونوا عالة على أحد!!... وقد غضب هذا القائد غضبا شديدا عندما حاول نفر من الشباب المتحمس من أهل البلدة أن يهب لنجدته بشكل عشوائي في المعركة التي سيأتي وصفها في هذا السياق وقد صرح لوالدي بذلك عند مقابلته له بعد المعركة ( والذي كان يلتقي به كوسيلة الاتصال مع أهل البلدة)، متسائلا: "من طلب منهم ذلك"؟!... ومما قاله أيضا بأنهم كادوا يفسدون عليه خطته العسكرية إذ كان رصاصهم الطائش يتساقط على رؤوس جنوده وكاد يقتلهم!!... 
وكانت هذه الفرقة تقوم في بداية مجيئها بدوريات عسكرية استكشافية حول المنطقة المحيطة بالبلدة دون أن يدري بها أحد... وذات يوم وبينما كانت تقوم بأعمال الدورية هذه اصطدمت مع مجموعة يهودية في موقع يدعى "السلمون" يقع على الحدود التي تفصل أراضي شفاعمرو عن الأراضي اليهودية ويبعد حوالي خمسة كيلومترات عن البلدة من جهة الغرب، دار على إثرها قتال بين الطرفين أظهرت فيه هذه الفرقة كفاءة قتالية عالية وتفوقا عسكريا ولربما تكون قد قتلت أو جرحت عددا من الجنود اليهود لتعود بعدها سالمة إلى ثكنتها العسكرية التي أقامتها لها في ذلك البيت في الموقع الذي يدعى "الفوّار"...
ولم تمض أيام قلائل على هذا الصدام، ربما أسبوع أو أسبوعان،  حتى قامت  القوات اليهودية بهجوم مباغت على هذه الحامية العربية ولربما ردا على الإصابات البالغة التي منيت بها، إذ استفقنا في الساعات الأخيرة من هزيع تلك الليلة على صوت أزيز الرصاص، يتطاير كزخات المطر، يلعلع في كل أرجاء البلدة ويقطع سكون الليل!!...
ولم نكن ندري ما الذي حدث إلا بعد انتهاء المعركة التي لم تدم سوى ساعات قلائل لنعرف فيما بعد بأن القوات اليهودية قد قررت الانتقام لنفسها بإرسالها كتيبة "كوماندوز" حملت معها كمية كبيرة من المتفجرات وزحفت تحت جنح الظلام لتنسف العمارة التي كانوا يتمركزون فيها عن بكرة أبيها وعلى من فيها من العساكر إلا أن يقظة أحد الحراس قد فوتت عليهم هذه الفرصة وأفشلت عمليتهم فشلا  ذريعا ... فقد كان هذا الحارس المناوب مرابطا في موقع متقدم من مكان الثكنة حين شعر بشيء "يحبو" بجانبه وعندما التفت حوله شاهد حبلا يتحرك فما كان من هذا الحارس السريع الخاطر والذي أدرك بفطنته أن شيئا ما يدبر ضدهم بالخفاء، إلاّ أن تسلل وبسرعة البرق إلى الثكنة وبكل هدوء ورباطة جأش أيقظ الجنود النيام الذين أسرعوا إلى أخذ مواقعهم على سطح تلك العمارة وحملوا سلاحهم وأمطروا القوة المهاجمة بوابل من الرصاص الغزير كان يسمع على شكل زخّات متواصلة... ومن أطرف ما يتحدثون عنه في هذه المعركة أن هذا الجندي اليوغوسلافي قد أبلى فيها البلاء الحسن وكان يتفنن في إطلاق الرصاص فقد كان ينتقل بمدفعه الرشاش من زاوية إلى زاوية وكان صوت رصاصه يسمع كوقع الموسيقى وقد سمعه البعض وهو يصرخ في لغته الأصلية "لاغويرا فانطازيا" أي أن "الحرب فانطازيا"، ولا يزال الكثيرون من الذين عايشوا تلك الفترة يذكرون هذه الواقعة وهذا الجندي اليوغوسلافي بكل تفاصيلها...
ولقد صادف أن ذهبت مع والدي في ساعات الصباح وبعد انتهاء المعركة لزيارة هذا القائد الشجاع وجنوده البواسل في الموقع الذي جرت فيه المعركة ولا زلت أذكر حتى اليوم ذلك الحارس وهو يحدثنا عن الذي جرى بعدما اكتشف أمر هؤلاء "الكوماندوز" المربوطين بالحبال وقد تم جرهم بعد إصابتهم وسحبهم من أرض المعركة دون أن يحققوا هدفهم مخلفين وراءهم بقعا من الدم كانت آثارها لا تزال بادية على أرض المعركة... وان اختلفت الروايات عن عدد القتلى اليهود الذين سقطوا في هذه المعركة، إلا أن المؤرخ الكبير عارف العارف قد ذكر هذه المعركة في كتابه: "النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود" ومما قاله: "بعد مرور أسبوعين على مجيء هذه الفرقة (إلى شفاعمرو) هاجمها اليهود وكان الوقت ليلا فصدهم المقاتلون وقتلوا منهم ثلاثة وجرحوا آخرين كما جرح منهم (من المقاتلين) اثنان بجراح بالغة"...
وتبقى هذه الحامية في شفاعمرو بعد هذه المعركة بعض الوقت ثم ترحل بنفس الغموض الذي جاءت به دون أن ندري لها سببا لانسحابها رغم أنه لم يكن قد مضى على وجودها سوى وقت قصير... إلا أننا علمنا فيما بعد مما أورده عارف العارف في كتابه المذكور بأن هذا القائد قد انتقل مع فرقته بعد هذه المعركة إلى قطاع الناصرة وراح يعسكر في كفركنا ويحارب مع المناضلين (الفلسطينيين) الذي كان يقودهم (بحسب عارف العارف) دياب الفاهوم وابن عمه عبد اللطيف...ولم نسمع عنه خبرا بعد ذلك...
ولعل هذه الحامية الصغيرة، كانت تختلف عن غيرها كونها الفرقة العسكرية الأكثر نظاما وتدريبا من بين كل الفرق العشوائية والبدائية التي دخلت فلسطين، أو هكذا كان يبدو لي، باستثناء جيوش بعض الدول العربية "النظامية" والتي تبين لنا فيما بعد، أنها هي أيضا مع كل ذلك، كانت هزيلة في ذلك الوقت ولا تزال هزيلة إلى هذا اليوم رغم التطور والتكنولوجيا!!... "وكأننا يا عمرو لا رحنا ولا جينا"!!... وان أسباب هذا الهزال يطول شرحها إلاّ  أننا لا بد أن نذكر في هذه العجالة وباختصار شديد، ونترك الباقي للمؤرخين والباحثين، بأن الجيشين السوري واللبناني كانا حديثي العهد ولم يكن قد مضى على استقلال دولتيهما سوى عامين اثنين والجيش الأردني "المدرب جيدا" كان يقع تحت إمرة غلوب باشا!!... والجيش العراقي "الباسل" كان عاجزا عن الحركة مكبلا  بالجملة الشهيرة "ما أكو أوامر" والجيش المصري تتآكله الأسلحة الفاسدة والكل منا يعلم أن هذه الجيوش لا تزال ضعيفة حتى الآن رغم مرور كل هذا الوقت!!...
ومن الجدير بالذكر أن القوات اليهودية قامت، أول ما قامت به، بعد احتلالهم شفاعمرو مباشرة، بنسف هذه العمارة الكبيرة عن بكرة أبيها وجعلتها أثرا بعد عين!!...