news-details

اختيار فضاء اللوحة | فاطمة العبادي

 

فضاء اللوحة هي فلسفة الفن الحديث العملاقة في الوصول الى مفهوم اندماج روح اللوحة بجسدها. فلو قلنا إن مكونات اللوحة هي، فكرة محصورة، وهي التي تمثل عقل اللوحة واحساسها والتي هي بالمحصلة روح اللوحة؛ وشكل، وهو الشكل الموجب الذي ستظهر عليه علامات التأثر بالفكرة؛ وارض اللوحة او ثقل الاشياء على الارض وليس بالضرورة ان نراها بل يمكن ان نشعر بها او نحسها ضمنيا؛ فإن فضاء اللوحة هو المادة المحيطة بالشكل والمشبعة بالفكرة والتي ستظهر تجلى الروح والفكر من خلال الرؤية البصرية وستؤثر بالشكل لانها ستكون بمثابة البيئة المحيطة المؤثرة.

 

ماهي اهمية فضاء اللوحة؟

لقد قلنا ان فضاء اللوحة فعليا هو المادة المتشبعة بفكرة الفنان والتي تخلق جو اللوحة وتؤثر على الاشكال البارزة في اللوحة او الموجبة ويتجلي او يظهر هذا التأثير (التشويه) على الاشكال في اللوحة وينعكس هذا التأثير على الفضاء نفسه فيتشوه وبنفس طريقه تأثيره وتشويهه للأشكال. كل فنان له ميزات تحدد الفضاء الخاص به.. وهذا الفضاء سيميز الاشياء داخل لوحته (بتأثير التشوه) والمقصود بالتشوه اي تشوه الشكل الحقيقي بفكرة الفنان الممزوجة بمشاعره واحاسيسه، و يسقطها على لوحته.. وسيظهر تأثير هذه الافكار على اللوحة بتشوهات معينه يخلقها الفنان بخصائص جديدة، فيختلف ميزان التشوه من فنان لاخر اذ هناك ضوابط تتحكم في المعايير التي ستفضي بمخرجات داخل اطر ثنائية الابعاد، وهي عبارة عن مسرح العناصر اما العمل الفني فهو المسرحة الحاصلة بين هذه العناصر.

 

كيف يخلق الفنانون تشوهات فضائهم؟

فضاء لوحاتهم هو انعكاس لتشوهات افكارهم وانعكاسها داخل العمل بنظراتهم الخاصة، وليس المقصود هنا بالتشوه انه شيء سلبي ولكن هو عبارة عن تحوير الاشكال واعطائها صفات ليست موجودة فيها أو ليست بالطبيعة الفيزيائية الموجودة فيها، وهذا يخدم مقاصد الفنان واختزالاته الروحية المنطلقة عن منطقة اللاوعي، اذ ان هذه المنطقة تصبح مدربة قادرة على التحقيق والتحقق من صحة المخرجات بما يخدم تعبيراته عن الفكرة.

هناك ايضا الجو المصاحب للتشوه اذا ان قوانين هذا التشوه المسؤول عنها بالدرجة الاولى هو العقل، ولكن ذلك لا يخلو من الاحساس المصاحب لهذه الفكرة كما ان اثر التشوه يكون اكثر تأثيرا على الاشكال، اما الجو المصاحب فيكون جنبا الى جنب مترافقا مع الفكرة، وهو نابع من التفاعلات الاحساسية والتي تنقل بطريقة حسية نستطيع ملامستها بأعيننا.

اذن نستطيع القول ان التشوه يقع على الشكل نفسه بوضوح ويقع على الجو المحيط بطريقة سحرية تكون ظاهرة ولكن ممزوجة بحس عالٍ يضفي جو التحكم ببيئة المحيط ،وكأنها العصا السحرية التي تعمل على التحكم بمقابس جو اللوحة من خلف الكواليس.

تجدر الاشارة هنا الى انه بشأن الشكل، اذا احتسبنا اي نقطة او خط او شكل على مسرح اللوحة داخل فضاء مبرم الاتفاق عليه من قبل الفنان وذاته بفكرة وخصوصية وقوانين، فيجب الكلام ايضا عن ارض اللوحة.. او بمعنى اخر هي الاستقرار او الرسوخ.. وهو ما يشعِر المتلقي بنوع من الامان ويمكن ان يكون لونا داكنا يوحي بثقل واسقرار ويمكن ان يكون كرسيا تم الجلوس عليه من قبل الشكل حتى لو لم تظهر خطوطه العرضية ويمكن ان يكون حواف الاقدام او اواخر الاثواب المختفية بتلك اللوحات. ونستطيع القول ان الشكل وخط الارض كلاهما مترابط وكلاهم الشكل البارز الموجب الموجود في اللوحة الخاضع لقوانين التشويه.

لخلق فضاء يفهمه المتلقي يجب ان نفهم اولا تأثير فضاء اللوحة على كل شيء داخلها، كيف يؤثر على الاشكال، كيف يشوهها، يجملها، يطولها، يتفاعل معها، ينفصل عنها، ويحدد مزايا الفضاء الخاص بالفنان، ويميز كل الاشياء داخل اللوحة بتأثير هذا التشوه هو شيء مستعار لان تأثيره في الأشكال هو رسم الفنان له.

عادة ما يكون المتناظران اكثر فهما لبعضهما من اي شيء اخر، ولذلك نحن نسوق امثلة التشابة لتقريب المعنى، والمقصود هنا ان الفنان عادة تتآزر كل هذه العناصر عنده لإخراج عمل مميز، ولكن الاحساس يخاطب الاحساس، فلو قلنا ان اول ما يتلقى به المشاهد هو الإحساس، فهناك شيء ما يجذبني تجاه هذه اللوحة، هناك شيء ما يسوقني تجاهها بلا وعي مني و يجذبني ولكن لماذا؟

هنا نسأل انفسنا سؤالا.. لم هذه اللوحة جميلة؟ لم وصلت للعالمية دونا عن غيرها؟ لم هي جميلة بالاجماع؟ يمكننا الاجابة هنا على ذلك، بأنه لو حكمنا على هذه الفتاة (او الشاب) بانها جميلة فالكل يجمع بانها جميلة لان هناك مقاييس نسبيّة للجمال تستطيع قياسها، فجمال الجسد والروح والعقل لو اجتمعت باي فتاة، وفقا لمقاييس مكانها وزمانها، استطيع القول انها ملكة جمال ولا يختلف عليها اثنان ولكن استطيع القول ان هذه الفتاة اجمل من هذه، وتقول لي لا بل هذه اجمل ولكن الاثنتين جميلتان، ولكن تآلف صفات هذه كانت اقرب الى روحي وذائقتي. وكذلك الأمر اللوحة فمقدار التآلف والتوافق والتناسق في جسد الشكل لديها والفكرة التي تقف خلفها وفضائها الذي يجعلني ألآمس احساس الفكرة الخاصة بها، لأننا اول ما نخاطب نخاطب الاحساس وفضاء اللوحة هو مكان تقديم الاحساس الخاص باللوحة ومكان بث الروح الخاصة بها، وكلما كان الفنان موهوبا ومبدعًا كان موفقا في ان تتوافق فكرته مع الجسد الذي سيبث الاحساس منه.. ويخرج ذلك بسلاسة للمتلقي فيشعر بعذوبة الموسيقى التي تجذبه الى هذه اللوحة كي يقول جميلة.

هنا يحضرنا سؤال: هل كل فنان سيوفق في توفيق ذلك؟ سنقول هنا الاتي: ان اي فنان وصل الى هذه المرحلة قد كلفه ذلك تجارب كثيرة، تمكن فيها من اتقان ادواته وتمكنت ذائقته وتدربت، كما اصبح اكثر قدرة على امتلاك ادوات التعبير عن احاسيسه وافكاره واصبح متمكنا من خطوطه والوانه واشكاله، وحصل على نضوج في ميول أفكاره، وبذلك نستطيع القول انه حصل على ملامح واضحة لتشويه فضائه  واستطاع ان يمتلك مقاييس لبث فكرته من خلال ألوانه وخطوطه واشكاله وجعلها تتكلم عن الروح التي بثها في هذه اللوحة، وفي فضاء اللوحة نقول انه اندماج حسي للفكرة مع الشكل او للروح مع الجسد للقيام ببث هذا الجو الى المتلقي.

 

كيف يرسم التشوه

لو سألنا أنفسنا سؤالا كيف ارسم مجالات القوى المختلفة؟ مثل القوى المغناطيسية…او قوى الجاذبية؟

كيف ارسم الهواء الذي لا يمكن رؤيته؟ نستطيع ان نقول انه يمكننا ان نعطيه كنها لونيا وحركة معينة واتجاها. أي رسم هذا التأثير وصيغ المبالغة اللونية المقصودة.

فلو كان الشكل مثلا زجاجا متكسرا سيكون صداه الحسي موجودا في فضاء اللوحة، لكي نبث هذا الإحساس.

ولو كان الشكل فيه ماء فلا بد لفضاء اللوحة ان يحمل اثار رذاذ الماء. ولو كانت الفكرة الغباء مثلا فسنبحث عن شكل يجسدها وصدى لها ينعكس في فضائها.

ولو كانت الطول مثلا ستتطاول الاشكال عندي وسينعكس صدى يخبرني عن الطول وشعوري تجاه جماله او قبحه مثلا، انا ابث فكرتي انا وليست الفكرة الموجودة عن الطول، فكرة مشوهة بمشاعري كفنان، مر بتجربة معينه ربما موقف كره الاشياء الطويلة او الاشخاص الطوال مثلا او احبهم ربما، فهو سيضمن هذه التجربة ضمن لوحته داخل اللاوعي الخاص به، لانه هذه التجربة تخرج ضمن مزج هذه العناصر والتمكن منها بلحظة إبداعية، تحضر فجأة في لحظة امتزاج تتلامس فيه اقطاب هذا المثلث، لحظة لاوعي وهي ما نسميها لحظة ابداع الفكرة.

كيف ستتشوه الاشكال؟ هذا التأثير، والمقصود به تأثير الفكرة التي خلقت فضاء اللوحة - سيشوه الشكل ثم ينعكس تأثيره على تشويه نفسه. ويجب الحذر من ان تأثير الفكرة احيانا يشوه الشكل ولا يصل تأثيره الى تشويه الفضاء، وهنا يعمل على انسلاخ الشكل من محيطه وحدوث غربة في عين الرائي او بالإحساس الذي يصل اليه من موجات التناغم الخاصة بانسجام او اندماج جسد اللوحة بروحها.

وهذا الخطأ لا يقع فيه الفنانون المحترفون العالميون لانهم يدركون هذه الثغرة بإحساسهم المدرب، لأن نفس الفنان او المتلقي ذو الحس العالي في الفن يستطيع ان يحرز هذا الاحساس بلحظة.

،الصورة: "فتاة نائمة"، بيكاسو 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب