news-details

شبلي الشميّـل، من أوائل الداروينيين الشجعان في العالم العربي| رشيد عبد الرحمن النجاب

ولد شبلي الشميّـل في لبنان عام 1853، ودرس الطب في الكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأمريكية حاليا) في بيروت، ثم سافر إلى باريس عام 1875 للاختصاص، و تعرف في تلك المرحلة من حياته إلى نظرية التطور الداروينية التي بدأت في الاندياح في أوروبا بعد أن نشر دارون كتابه "أصل الأنواع" عام 1859، تأثــّر شبلي الشميّـل بنظريات بوخنر وجهد في شرحها ونشرها في العالم العربي، وجعلها جزءَاً من مشروعه المادي الاشتراكي. وشرع في هذا السياق في تفسير الديانات تفسيراً ماديا مستندا إلى نظرية التطور

حوكم الشميل بالإعدام غيابيا لمناداته بالإصلاح في العهد العثماني، ثم هاجر  إلى مصر وقضى فيها نحو نصف عمره. وهناك أصدر مجلة طبية هي "الشفاء" (1886 – 1891)، وكتب في صحف ومجلات كثيرة، منها المصرية واللبنانية. وكان من مؤسسي "حزب اللامركزية الإدارية العثمانية" الذي تأسس في القاهرة من قبل محمّد رشيد رضا، ورفيق العظم وغيرهما. ويُعد الطبيب شبلي الشميّـل رائدا للفكر العلمي في مصر،  وفقا لما رآه كل من رفعت السعيد، وغالي شكري، ولا شك في أنه كان رائدا للفكر العلمي العربي الحديث في العالم العربي دون منازع.

تأثر الشميّل بالطبيب والفيلسوف الألماني لودفيغ بوخنر الذي مزج بين المادية والداروينيةكما ذكرنا، وكان كل من "سبنسر" في إنجلترا، و"بوخنر" في ألمانيا قد أقاما منظومة معرفية على أساس فرضيات "داروين" في النشوء والارتقاء، وكان أساس هذه المنظومة فكرة وحدة الكائنات؛ التي تقوم على قاعدة أن الأشياء في هذا الكون قاطبة تتكوّن من المادة الطبيعية المحسوسةالتي وجدت منذ الأزل، وتشكـّـلت بطبيعة عفوية، وستبقى كذلك إلى الأبد لا تفنى، ولكنها ستظل تتحوّل من شكل إلى آخر. وقد تطوّرت هذه المادة البدائية وتدرّجت في الارتقاء حتى بلغت ما بلغه الإنسان العاقل من رقيّ جسديّ وعقليّ وانفعاليّ. وما زال الإنسان ساعياً نحو بلوغ كماله الذاتي، والاستعاضة عن النزاع  والصراع بالتعاون، سعياً وراء سعادة الجميع. ويشوب هذه الأفكار قدر من المثالية في عالمنا المعاصر، فالحروب والنزاعات التي يشهدها العالم في أجزاء متعددة منه مافتئت تزداد ضراوة، حدا يدفعنا للتساؤل عن واقعية هذه المقولات.

رأى الشميّل أن الإنسان بدأ بعبادة الطبيعة، لاعتقاده أن الأرواح تقبع في كل مكان في أرجاء الطبيعة. ثم نظر إلى السماء، وشرع في عبادة النجوم التي أذهلته ولم يجد لها تفسيراً يصل إليه عقله. ثم تطور فكره ليعبد إلهاً واحداً أراحه من عناء البحث عن الآلهة المتعددة وحملها معه متى ارتحل. وخاصة في المجتمعات البدوية، كالقبائل اليهودية، وفي الصحارى العربية.

ورأى شبلي الشميّل أن الديانات رغم أنها تستند إلى الوحي، إلا أن دواعي وجودها المادية تنبع من حب الرئاسة والهيمنة من قبل الرؤساء، ومنبع ذلك حب الذات.  والمنافع الشخصية، والمتع الحياتية، وقد أدى حب الذات إلى الاعتقاد بالبعث، في مقابل فكرة فناء الإنسان، وفقدان كل ما يملك.

حمل الشميّـل على المؤسسة الدّينيّة حملة شعواء، لأنها أدت إلى الحروب، والقتل، والدمار، وأسهمت في تجميد العقل وإرهابه وقمعه. ورأى أن الأمة الإسلامية لم تضعف بسبب الإسلام أو القرآن، بل بسبب سلطة رجال الدين الإسلامي، ودعم السلطة السياسية لهم، وتأويلهم للنصوص الدينية وفق أهوائهم  بينما لم تتمدن أوروبا وتتقدّم إلا بتفكيك سلطة الإكليروس على المجتمع، بدءاً من الإصلاح اللوثري في القرن السادس عشر،  الذي كان سبباً من أسباب الثورة الفرنسية الكبرى.

اتخذ الشميِّل نظرة مادية واضحة ترد الأشياء كلها إلى المادة، كالماركسية : فليس هناك إلا المادة وتجلياتها. ومن وجهة نظره فإن التطور أمر ذاتي في المادة، كما كانت الحركة عند الفلاسفة الطبيعيين الأوائل في أيونيا مثل طاليس وأنكسمندر، وأنكسيمانيس، وذلك قبل أن يأتي أنكسوفان، وسقراط، وغيرهما الذين بدأوا بالتمييز ما هو مادي وما هو روحي. وتتوج ذلك بأفكار أفلاطون التي خلقت عالما مثاليا هو العالم الذي يشبه فكرة السماء والجنة

كما رأى الطبيب الشميل أن لا عيب في تطور الإنسان من حيوان،  إذ اعتقد أن الإنسان صورة أكمل تطورا عن الحيوان، وأن الإنسان يشترك مع الحيوانات في كثير من الصفات، بل وتعيش كثير من الحيوانات في مجتمعات معقدة كالبشر، ولديها بطولات وشجاعات كما لدينا نحن تماماً. ولكن الشميّـل اعتقد أن داروين لم يستنتج كل ما ترتب على مذهبه في النشوء والارتقاء من نتائج صريحة وواضحة ومباشرة، إمّا لأنه لم يستطع، وإمّا لأنه لم يجسر، لشدة تأثره بالمذاهب الشائعة وبالخوف من الثقافة السائدة، وسلطة الكنيسة،وإمّا لأنه لم يرغب بذلك لصعوبة إقامة الدليل العلمي على التوالد الذاتي الذي لم يكن قد أثبت علميا بعد. ولكن، يرد الشميّـل: إذا لم ير أصحاب النشوء حياً نبت من غير حي، فهل رأى أصحاب الخلق إنساناً خلق من غير إنسان؟

هدف الشميّل إلى إيقاظ الأفكار العربية من تخلفها وسباتها، على غرار ما سعى إليه المفكرون من قبله كالطهطاوي، والأفغاني، ومحمّد عبده،  غير أنه اتخذ نمطا جديداً، ثوري الأصل في جذوره، مادياً تاريخياً في بنيانه. ولم يكتف بسلوك الأساليب المستترة، بل عمد إلى الهجوم الشرس المباشر،  ليصيب بدارونيته الإنسان العربي في أعماقه، حيث يقبع إيمانه المهلهل الممتلئ بالخرافات والأوهام. فربما أسهم ذلك في تحريكه وتحرير فكره من الخرافات والأوهام لينهض نحو التقدّم ويشرع في مبارزة الغرب في علومهم فيتقدم إلى الأمام بدلا من التقهقر إلى الخلف.

 

ختاما  نقول، كان الشميّـل من أوائل الداروينيين الشجعان في العالم العربي، ربما بعد فرنسيس مرّاش، وكان شجاعاً في طرحه للفلسفة المادية، جريئاً في الدفاع عنها، ولكنه اضطر إلى تقديم تنازلات في مرحلة ما، فسعى إلى التوفيق بين العلم والدين، كما في قوله: « مذهب داروين لا ينقض مذهب المؤمنين». ولكنه كان صاحب نظرة اشتراكية،  إذ توقــّع أن تقوم ثورة اشتراكية من شأنها أن تمحو التعصب إلى الأوطان والأعراق، وبالمقابل تتعصب للطبقات المسحوقة، وأنها سوف تسهم بمرور الوقت في إزالة العاطفة الدّينيّة، والعاطفة الوطنية، وفي انفصال الدين عن الدولة. وهذه نظرة أممية علمانية مبكرة في الشرق العربي مازلنا نحلم بها حتى يومنا هذا.

عمان

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب