تبرز مسؤوليتنا تجاه أطفالنا وفلذات أكبادنا، منذ الصغر في سن الطفولة المبكرة، في الحضانة ورياض الأطفال، لتمتد في طالع الأيام للصفوف الابتدائية والثانوية إلى ما لا نهاية، ومن الطبيعي أن تقوم على مبدأ الاحترام المتبادل والمحبة الصادقة، في مرافقة الأهل لأبنائهم وإرشادهم نحو المستقبل الأفضل، وزرع البسمة على محياهم لتنمية الشعور بالمسؤولية تجاه البيت والجيران ومن يحيط من حولهم. وفي اعتقادي المتواضع من الخطأ تلبية كل المطالب لأبنائنا دفعة واحدة، وإنما بالقطارة مع درجة نموه وما يتمتع به من قدرات ذهنية وجسدية وحركية، تجعلنا نفكر لنصحو من غفلة تبعدهم وتمنع عنهم الضرر من إقدامهم على استعمال الأدوات ووسائل اللهو الخطرة، والتي من الممكن أن تجعل منهم أطفالًا عنيفين مشاغبين وخطرين. فالجلوس مع الأبناء يوميًا في البيت أمر ضروري وهام في بناء برنامج تعليمي تربوي أخلاقي، مرهون بالوقت الذي يلهو به الإبن لوحده أو مع الآخرين في مثل جيله. كلنا يصيبنا هوس النشوة والافتخار أمام أنفسنا والآخرين، ونحن نتباهى أمام المجموع، بعدم حرماننا لأبنائنا من أي شيء، والبعض يصر مع ذاته أنه سيجلب لابنه (لبن العصفور إذ طلب)، وهذه المقولة تعني درجة الدلال العالية وهي دارجة في مجتمعنا العربي، من أنني أعيش من أجل أولادي، وأن حالتي المادية جيدة جدًا. فلماذا لا أقدم المستحيل لهم؟ مع نمو الطفل وكبر سنه نحيطه بالدلع المفرط غير المبرر مع وجبة من (لبن العصفور) الموعود به.
نغفو عنه قليلًا وإذ به يصبح في جيل الرشد وأحلام الشباب الأولى وقد خرج من الشرنقة وقد أدرك معنى الدلال وفحوى الكلام الذي سمعه من الأهل والوالدين، وقد تسرب إلى عقله المتفتح ومسامعه وحفظه عن ظهر قلب، وبدأ يردد في ذاته، بأنه طالما تتحقق الرغبات والطلبات في البذخ والحياة الرغيدة، يكون الابن أو الشاب قد خرج من قمقم الخضوع لنفوذ الأهل والسيطرة الأسرية، إلى حالة التمرد العكسي على الأهل. عندها يكون قد عصف به التمرد ليتحول تدريجيًا إلى التلذذ والإدمان على وجبات من العنف والتعنيف، وعدم انصياعه لطاعة الأهل والوالدين، ولأنه نما وترعرع في بيئة جعلت منه إنسانًا يحقق كل رغباته دون عناء. في مثل هذه الحالة يكون الأهل قد أدمنوا وأصبحوا غير مكترثين لتصرفاته الهوجاء والتزاماته الدراسية والتعليمية، ولا لسلوكياته الأخلاقية وقد تجاوز الخطوط الحمراء والأساليب الصالحة للتربية التي لا تقوم على المال الوفير، بقدر ما تقوم على الأخلاق والتربية الصالحة وحسن التصرف والانضباط العائلي والأسري والمجتمعي.
إن ما تزرعه وترويه من حكايا وقيم تربوية وأخلاقية، لطفلك/ابنك في صغره، من المفروض أن يساعدك في تنشأته ونموه في الكبر، على أن يتجاوز المحن والمشكلات المستعصية التي تقذفها وتنتجها حكومات رأس المال والاضطهاد في بلادنا، من تقديس للقوة والمال والفتوة لتخريب وتدمير كل القيم والأخلاق الجميلة في مجتمعنا العربي، والتي جاءت بالتوارث القومي والوطني والإنساني. هذه السياسات من هكذا حكومات، هي تراهن على جيل الطفولة والشباب، في محاولة لجعله جيلًا فارغًا وفاسدًا اجتماعيًا عديم الأخلاق والانضباط، عديم الإحساس والمسؤولية، غريبًا عن الانتماء الوطني تجاه شعبه وقضاياه اليومية والمطلبية والقومية. إن التربية البيتية الراسخة حضاريًا، تكون نابعة من الثقافة التربوية والوطنية الصادقة، إذ تعتبر المفتاح الأساسي في الهرم والسلم التربوي الصادق، الذي من المفروض أن يكون بعيدًا عن ثقافة التشويه المبرمج من قبل وسائل الإعلام السلطوية وأذرعها، والتي تهدف إلى تغير الطينة النقية والملامح الكفاحية والاخلاق المتوارثة لجماهيرنا العربية، وذلك من خلال إظهارها صورة وحشية شيطانية غير مكتملة وطنيًا وحضاريًّا منقوصة الإرادة ومسلوبة الشخصية القومية والانسانية، وهذا بإظهار أبنائنا من جلدتنا على أنهم أناس متوحشون بعيدون عن الحضارة والرقي، وبالتالي لا يجيدون سوى لغة القتل والعنف التي ينشرونها في مجتمعهم العربي وداخل بيوتهم وعائلاتهم التي لا تعرف إلا أن تعيش على الجريمة والدم، لأنهم لا يحسنون مفاهيم التربية السليمة، إذ تلعب الأحداث المتتالية على الساحتين السياسية والأمنية دورًا هامًّا في تعقيد وتكبيل مفهوم التربية، يقابلها سياسة نقيض لها، قائمة على التحدي والمواجهة، وطرح مخارج للأزمة المركبة التي يعيشها المجتمع الاسرائيلي. ويكون جواب المؤسسة السياسية والأمنية، المزيد من النفوذ والتغلغل في تحطيم وتخريب المجتمع العربي من الداخل، عن طريق تنمية ورعاية وحراسة العنف الموجهة وانتشار التجارة السوداء في القرى والمدن العربية وبين العائلات لزرع الأحقاد وضرب النسيج الذي يتشكل منه المجتمع العربي، وذلك بهدف تغيير منهج السلوك والتصرف إلى الأسوأ، بعد أن تسربت وتسللت الجريمة إلى عتبات بيوتنا وأصبحنا نعاني الويلات على مدار الساعة، وهو أننا نعيش في مجتمع فاسد عنصري فاشي يصدر الأزمات على أنواعها، نتيجة لسياسات الفقر والتجويع القائمة على العنجهية في تعظيم وتقديس مبدأ القوة وتخليد الاحتلال والاستيطان والتوسع والبطش وما يرافقها من اعتداءات يومية متكررة على القدس والأقصى وكنيسة القيامة وغيرها من الأماكن والرموز الدينية المقدسة.
إن إقامة "المليشيات المسلحة" بقيادة المدعو بن غفير، هي عمليًا تشريع للقوة والإرهاب ضد العرب والفلسطينيين، وتحطيم ما تبقى من هامش "الديمقراطية". هذه الخطوات تأتي على حساب الطبقات المسحوقة، في سد الفجوات الاجتماعية والفوارق المعيشية وتباطؤ النمو الاقتصادي. إزاء مثل هذه الأوضاع غير المستقرة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، يتطلب الأمر المزيد من اليقظة والاهتمام بأساليب التربية الصحيحة داخل بيوتنا. فعندما نربي أولادنا وأبناءنا على محاربة الجريمة والعنف وعدم التسامح في معرفة منبتها ونشأتها، علينا إذن أن نحصن المناعة والتربية داخل بيوتنا، ليكونوا مسلحين بمفاهيم التربية السليمة القائمة على النهوض القومي والشعور الوطني والإنساني. عندها نكون قادرين أن نؤثر إيجابيًّا على مفاهيم المجتمع الذي نعيش فيه، وخفض منسوب العنف والجريمة إلى أدنى مستوياته. وهكذا فالتربية البيتية هي الأساس الذي تقوم عليه التربية المجتمعية، وليس العكس.
**
أبو سنان
إضافة تعقيب