news-details

مجلس التعليم العالي والسقوط في المكارثيّة الكارثيّة| إبراهيم طه

مجلس التعليم العالي في إسرائيل هو الجهة العليا المسؤولة عن الأكاديميا كلّها من جامعات وكلّيّات. أدخل باستمرار إلى موقعه في الشبكة. أتابع ما يحدث فيه وألاحق ما يصدر عنه. وما يصدر عنه في بعض الأحايين مرهب ومرعب. وزير المعارف، يوآف كيش، يحوّله إلى جهاز مكارثيّ كارثيّ. لو طلع جوزيف مكارثي من قبره ورأى ما يفعله الوزير والمجلس لاطمأنّ قلبه وقرّت عينه وسكن. يوآف كيش يمسخ المجلس جاهدًا جاهلًا ما تعنيه الأكاديميا في الأصل. والغريب أنّ هذا المجلس قد انقاد للوزير واستجاب لرسالته من يوم الخميس 12/10/2023 وأقرّها بالإجماع. الرسالة من تسعة بنود يلتّ فيها الوزير ويعجن. حقّه أن يلتّ ويعجن كيفما شاء. واجبنا أن نلخّصها في كلمتين اثنتين "مكارثيّة كارثيّة". في الرسالة أربع أفكار مركزيّة موزّعة على تسعة بنود: (1) مطاردة كلّ من يُضبط متلبّسًا بتهمة "التحريض أو التماهي مع عدوّ" من أساتذة وموظّفين وطلبة، (2) إنزال أقصى العقوبات بالمخالفين الجناة، (3) التيقّن من تنفيذ العقوبات والتحقّق من فاعليّتها وتحقيقها لغايتها، (4) تقديم سجلّ مفصّل بأسماء المخالفين الخارجين على القانون ومخالفاتهم إلى مجلس التعليم العالي.. الأفكار الثلاث الأولى ليست جديدة على الأكاديميا. الفكرة الأخيرة جديدة، جديدة ومفاجئة ومخيفة، مخيفة إلى حدّ يستعصي على العقل أن يعقلها. أقصد تحويل الأكاديميا إلى زمرة من العملاء المتعاونين الأذناب. لا يكفيهم أن صارت الأكاديميا الحَكَم والجلّاد في الوقت ذاته قبل فرمانات الوزير ومجلسه. يريدونها فوق ذلك أن تصير مؤسّسة تجسّس في خدمة أجندات سياسيّة. الأكاديميا في العالم رأس أيّها المجلس الموقّر. وأنتم تصرّون على نقلها من رأس إلى ذَنَب، بكلّ ما تعنيه لفظة ذنب من معانٍ وظلال معانٍ.  

لأسفي الشديد وحزني العميق، سقط مجلس التعليم العالي في امتحان الواقع. فهو ساقط. وتظلّ للّغة حدودها أمام الواقع. إنّ مجلس التعليم العالي في إسرائيل قد سقط سقوطًا مدوّيًا مخزيًا في ثلاث موادّ هي موجب قيامه ومسوّغ بقائه أصلًا:

 

  1. أقيم المجلس كي يكون منارة تهدي المجتمع إلى برّ الأمان، إلى واقع أفضل وأجمل. أقيم لتكريس قيم الأكاديميا وتثبيت أخلاقيّاتها التنويريّة: الدرس المتأنّي والسؤال والتمحيص والفكر والاختلاف والحوار والتعدّد واحتواء الآخر وملاحقة المعلومة والبحث الدائب عن معنى جديد وتعميم النفع.. سقط مجلس التعليم العالي في توجيه الأكاديميا إلى قيادة المجتمع نحو قيم الفكر والحوار والاختلاف والتعدّد. سقط المجلس وصار كأيّ ورشة عمل أو مصنع أو مؤسّسة على رصيف المجتمع تلاحق العاملين فيها وتحاسبهم على الكلمة. والغريب أنّ المجلس كان أسبقهم وأكثرهم حدّة وتطرّفًا وصخبًا.. يا له من ارتطام مخزٍ!

 

  1. أقيم المجلس كي يصير مظلّة أخلاقيّة ورقيبًا ضميريًّا. لم يكتف المجلس بالجلوس فوق الجدار. لم يكتف بالحياد، وليته فعل، بل تبنّى دور السلطة الشُرطيّة القضائيّة التنفيذيّة المجنّدة. كان المجلس مستنفرًا في حالة تعبئة عامّة حين أقرّ رسالة الوزير. وعند التعبئة تختفي الأسئلة الأخلاقيّة وتنتفي بالتالي الحاجة إلى إجابات عنها. هكذا صارت تهمة "التحريض والتماهي مع عدوّ" سهلة جاهزة معلّبة مستنفرة في حالة مناوبة مستمرّة. لم يسأل المجلس نفسه "هل التعاطف مع ضحايا الحرب من أطفال وأشياخ هو تحريض أو تماهٍ مع عدوّ، بصرف النظر عن مواقعهم شمال السياج الحدوديّ أو جنوبه؟!" لم يشغل باله بالسؤال المبدئيّ "هل الأخلاق حالة جغرافيّة أو ظرفيّة؟! هل التماهي الإنسانيّ مع ضحايا كْفار عزّة هو فعل خلقيّ والتماهي مع ضحايا غزّة منافٍ لكلّ خلق؟!" لم يحاسب نفسه المجلس "كيف صار الموقف السياسيّ القانونيّ جريمة يُعاقب عليه صاحبه بعيدًا عن القانون؟!" هذا المجلس لم يسأل أسئلة صعبة قد تضغط على ضميره وترهقه. سار خلف التيّار الشعبويّ الانفعاليّ الجارف هذا المجلس. وضع رأسه بين الرؤوس وسبّل عينيه وضلّ.. هذا المجلس.  

 

  1. أقيم المجلس كي يعمّق الإحساس بالحريّة ويجذّر مفهوم الاستقلاليّة. من المفارقات القاسية العنيفة إقامة مجلس التعليم العالي في إسرائيل، قبل خمسة وستّين عامًا، ليكون جسمًا فاصلًا بين النظام السياسيّ وجهاز الأكاديميا. أقيم ليكون سدًّا منيعًا يحمي الجامعات والكلّيّات من شره النظام ويضمن لها حرّيتها الأكاديميّة. لكنْ، أين هذا الكلام من الواقع والحقيقة الآن؟! من أقسى المفارقات، التي نشهدها في الأسابيع الأخيرة، وأعنفها وأخطرها أن يصير المجلس ختمًا مطّاطيًّا لهذا الوزير أو ذاك! كيف صار المجلس حاميها حراميها؟! كيف صار يبصم بكعب رجله بالإجماع على رسالة وزير ضدّ الأكاديميا وهو الذي أقيم أصلًا حتى يردّ الوزير ويلجمه؟! كيف صار المجلس أداة تستعجل اقتحام النظام السياسيّ للأكاديميا، تمهّد له الطريق وتسوّيها حتى يخترقها في الصميم ويصيبها في مقتل؟! مفارقة مخيفة تشهد على ارتجاف المجلس وارتباك بوصلته.

 

سقط مجلس التعليم العالي في أول امتحاناته الصعبة أمام احتقان الواقع فرسب. وزير المعارف جاهل لمعنى الأكاديميا. والجاهل عذره معه لا حساب عليه. لكنّ المجلس قد فاجأني بسقوطه! والسقوط غير الرسوب. في لغتنا لفظتان للدلالة على معنى الفشل في امتحان: سقط ورسب. واللفظتان مختلفتان، قد يجمع بينهما منطق التعليل. السقوط علّة والرسوب معلول. وقد ينفصلان، أعني قد يسقط المجلس في الامتحان ثمّ ينهض من سقطته ولا يرسب. لكنّ مجلس التعليم العالي قد سقط من علوّه فرسب في القاع. وفي السقوط ارتطام. وعلى قدر الارتطام يكون الرسوب والاستقرار في الحضيض. وهكذا رسب المجلس في قاع المجتمع لأنه سقط سقوطًا زلزل الأرض. إقرار المجلس للأفكار الثلاث الأولى سقوطٌ مدوٍّ. الفكرة الرابعة جعلته يرسّخ رسوبه في وحل القاع.. في فعل غير مسبوق جمع المجلس بين السقوط والرسوب في تصديقه لرسالة الوزير وتوقيعها وتشريعها وإتاحتها. والجمع بينهما مصيبة. يعرف المجلس واجبه حتى يكفّر عن سقوط. ويعرف واجبه حتى ينتزع نفسه من رسوب. لكنّي لا أعرف إن كان سيقوم بالواجب! ما أعرفه أنّ الظرف المحتقن سيتبدّل يومًا ما وستهدأ النفوس العاصفة، وقتها سيبدأ حساب النفس للنفس، أو ينبغي له أن يبدأ.. وإن بدأ أرجو أن يكون ثاقبًا نافذًا وعسيرًا!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب