news-details

عادل سمارة – بين عقدة أوديب وعقدة راكح!| عصام مخول

نوع من الود غلب على العلاقة التي ربطتني بالدكتور عادل سمارة، "المثقف المشتبك"، كما يحب أن يعرّف نفسه والمستند الى الفكر الماركسي. وكانت قد جمعتني معه غير مرة منصات الحوار والنقاش في الفكر والسياسة والاقتصاد، كان آخرها في بلدة المعصرة قرب بيت لحم والتي استضافت قبل سنوات قليلة ندوة واسعة تناولت العدوان الإرهابي المعولم على سوريا، وكانت اولى هذه الحوارات على منصة المؤتمر السنوي لمعهد ماس في رام الله – "الاقتصاد الفلسطيني – أربعون عاما على الاحتلال" في نوفمبر 2007.

وكان د. سمارة قد شارك في المؤتمر معقّباً على الورقة التي قدمتها. وعند دخولي الى قاعة المؤتمر بادر أحد الأصدقاء الى تقديمنا أحدنا للآخر، فرد عادل سمارة: "نعم أعرفه، إننا متحدّرون (فكريا –ع.م) من جدٍّ واحدٍ".. وقد أعجبتني فكرة الجد الواحد، لأنها تترك مساحة كافية للاختلاف في الرأي والتحليل من جهة، وللالتقاء والبحث عن شرش فكري مشترك تمتد جذوره الى كارل ماركس من الجهة الأخرى، ولكنها بالمقابل تفتح مسربا للغوص في تقليب منابع العداء غير المبرر الذي يكنه عادل سمارة للحركة الشيوعية في بلادنا، ورغبته الجامحة في "الانتقام" من "راكح"*، انتقام أوديب من "أبيه"، وإن شئتم من ابن جده في حالتنا ما دمنا نتحدّر من الجَدّ نفسه!..

وبالرغم مما كنت أعتقد دائما، من أن المواقف الفكرية والسياسية المتزمتة من شأنها أن تشل السياسة وأن تشل قدرة السياسي و"المثقف المشتبك" على التعامل مع الواقع والتأثير عليه، وأن تحد من قدرة "المثقف المشتبك" على التعامل مع من يفترض أن يكونوا نزلاء الخندق الواحد، إلا أنني بقيت متابعا لتحليلات عادل سمارة وكتاباته بما فيها تلك المتجنية، بحثاً عن عظام "جدنا المشترك" وهي مهمة ليست سلسة ولا منعشة دائما في أقل تعبير.

 

كيف صارت مناقشة تصريحات عودة حرباً شاملة على راكح؟!

وعلى الرغم من أن راكح لا هو في العير ولا في النفير من حيث موضوع النقد الذي يوجهه عادل سمارة الى تصريحات النائب أيمن عودة في ندوة "مسارات" موضوع مقالته في "نشرة كنعان" الالكترونية (29.8.2020) ، الا أن مقالة سمارة في جوهرها تشكّل قبل أي شيء آخر، هجوما شاملا ومنفلتا على راكح وافتراء غير مبرر لا يمت الى فكر الحزب ومفاهيمه وسياسته بشيء، خاصة وأن أعلى هيئات الحزب الشيوعي (راكح) كانت قد سبقت عادل سمارة الى مناقشة تصريحات النائب عودة مباشرة في لقاء مع نواب الجبهة في الكنيست، وتحفظت على ما نسب اليه من تصريحات بشأن التوصية على غانتس، وكان رد النائب عودة بأن أقواله قد "نقلت محرّفة ومشوّهة وخارج سياقها وأنه سيطالب بتصحيحها".

وقد يكون عادل سمارة يعرف، أو لا يعرف أن أيمن عودة لم يكن في يوم من الأيام منظما في راكح او الحزب الشيوعي لا في قيادته ولا في كوادره، وهو ليس منظما اليوم أيضا في هذا الاطار. لكن عادل سمارة لا يسمح لحقيقة كهذه أن تحرمه من رغبته الجامحة التي لا يستطيع التحكم بها، في استغلال ما يعتقده فرصة لكيل التهم الممجوجة بحق راكح والحركة الشيوعية في بلادنا، ورميها بنعوت نحتفظ بها عادة لمقارعة عملاء الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية في الماضي كما اليوم تماما في هذا العصر "الاماراتي" الموبوء، وكان حريا بـ"بمثقف مشتبك" من منطلق الحرص على مصداقيته الفكرية، أن يعرض بأمانة مواقف راكح والوثائق التاريخية المؤسسة فيما يخص دور راكح وعصبة التحرر الوطني في أعقد الظروف وفي أعتى الساحات السياسية، وكان حرياً به أن يميّز، وهو "المثقف المشتبك" بين صنّاع معركة البقاء الفلسطيني الشامخ في هذا الجزء الذي قامت فيه إسرائيل، وبين من يساومون على هذا البقاء ويطعنون القضية الفلسطينية في الظهر وفي القلب، بين بناة آليات المواجهة مع الامبريالية والصهيونية في عقر بيتها، وبين مجموعات "العرب الصالحين" (أمريكيا وصهيونيا) على الساحتين العربية والفلسطينية وعلى ساحة الجماهير العربية في إسرائيل سواء بسواء.

كان حرياً بـ"مثقف مشتبك" أن يتروى قليلا قبل أن ينفلت على راكح، وقبل ان يصور راكح وقادته العرب ورفاقهم اليهود الامميين عدوا للشعب الفلسطيني. ولو أنه تروّى، كان سيكتشف أن هؤلاء الشيوعيين هم بناة عصبة التحرر الوطني منذ العام 1943، ومفجرو أدب المقاومة، وقادة معركة البقاء في الوطن، وممزقو القناع عن مجزرة كفر قاسم الرهيبة، ومفجرو اول انتفاضة فلسطينية في وجه مؤسسة التدجين الإسرائيلية، التي حاولت ان تفرض على جماهيرنا الاحتفال بـ"العاشور" لاستقلال إسرائيل** في أول أيار 1958، فما لبثت أن تحولت الى حرب شوارع في الناصرة وأم الفحم وحواريها مخلفة مئات الجرحى من جماهير شعبنا المنتفضين بقيادة "راكح" ومئات المعتقلين.

 إن قادة "راكح" العرب، الذين يستهدفهم "المثقف المشتبك" هم وليس غيرهم، من خطط وقاد الانتقال بهذا الجزء من شعبنا الفلسطيني من نفسية النكبة، الى نفسية الصمود والتصدي، من نفسية الإحباط والعجز الى نفسية المواجهة مع الفكر والممارسة الصهيونية والحكم العسكري حتى إسقاطه، وهم قادة ومجترحو مأثرة يوم الأرض الخالد في الثلاثين آذار 1976، وهم مجترحو مخيمات العمل التطوعي في ناصرة توفيق زياد، التي صقلت نموذجا لوحدة فلسطينية شاملة، مجبولة بالعطاء والتحدي وكنس عملاء السلطة كما تكنس شوارع الناصرة، مطعّمة بالفكر الثوري والنهج التقدمي من أعالي الجليل الى كروم الخليل ومخيمات غزة..

 إن هذا الجزء المتميز من الشعب الفلسطيني الباقي في وطنه، والذي يصر عادل سمارة على انهم "عرب الـ 48" هم في الحقيقة ليسوا "عرب النكبة" المتخلفين عن ركب التشرد بل نقيضها، إنهم عرب 30 آذر 1976، الذين بالتفافهم حول استراتيجية راكح في الصراع القومي داخل إسرائيل، جعلوا من استراتيجية الحزب استراتيجية شعب يبني وعيه ويدافع عن كرامته وعن أرضه وبقائه الشامخ.

وإن كان سمارة يصر على أن يعرّفنا بـ"التواريخ والأحداث المفصلية" التي يلصقها بنا، فنحن عرب وثيقة السادس من حزيران 1980 التي أطلقها راكح وليس غيره، لتكون قاعدة ومنطلقا للفكر السياسي (المشتبك حقيقة) لهذه الجماهير، يتعمّق تمسك الناس بها كلما تعمّق تصعيد المؤسسة الحاكمة في إسرائيل لسياسة القمع والترهيب بهدف سلخ الجماهير العربية المواطنة في إسرائيل عن معركة شعبها الوطنية التحررية الكبرى وعن انتمائها لشعبها ووطنها، وفي القلب من هذه الوثيقة صاغ الحزب الشيوعي الموقف الراسخ: "نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا غير هذا الوطن".. "حتى لو جوبهنا بالموت نفسه فلن ننسى أصلنا العريق.. نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني".. وجزء من المعركة على تحرره واستقلاله الوطني.. وتلقفت الجماهير هذه الوثيقة والتفت من حولها بشكل شامل أرعب المؤسسة الإسرائيلية، فقام رئيس حكومة الليكود الأولى ووزير امنها مناحيم بيغن بإصدار امر عسكري يحظر انعقاد المؤتمر، ويحظر تداول هذه الوثيقة ويخرج اللجنة التحضيرية للمؤتمر برئاسة إميل توما خارج القانون ويفرض على قادتها أوامر الإقامة الجبرية لأشهر طويلة.

 

الخلط بين الطبيعي والتطبيعي!

إن من حق عادل سمارة ألا يقبل بطروحات راكح، ومن حقه أن يرفض استراتيجية النضال السياسي الذي قاده هذا الحزب، تماما كما أن من حقي أن أرفض نهج عادل سمارة واستراتيجيته باعتبارها استراتيجية عبثية، تعرقل النضال الفلسطيني وتلبي لليمين الفاشي في إسرائيل كل ما يصبو اليه. ولكن ليس من حق وطني فلسطيني أي كان أن يشكك في دور الشيوعيين ويقعقع بالشنان لمواقفهم من القضية الوطنية ونهجهم الكفاحي الاممي المناهض للإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية وموقعهم من الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة حين صمت الآخرون أو عجزوا.

من حق عادل سمارة ان يعارض المشاركة في الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، ولكن ليس من حقه أن ينعت الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل الذين يشاركون في الانتخابات بنسبة 70 بالمئة ويستعملون البرلمان الإسرائيلي ساحة مركزية للصراع وتفجير التناقضات مع النظام الحاكم، بأنهم "يطبّعون مع إسرائيل" بما يوحي به ذلك من خلط للمفاهيم، وافتراء بائس على وطنية هذه الجماهير.. ويصبح هذا الخلط في جوهره تبريرا لخيانة المطبّعين الحقيقيين الذين يعج بهم سوق النخاسة العربي في هذا العصر.

بطبيعة الأمر، الجماهير العربية الفلسطينية المواطنة في إسرائيل وقواها السياسية وفي طليعتها راكح ليست مرشّحة "للتطبيع" مع إسرائيل ولا ينطبق عليها هذا المفهوم، ولو من باب أن وجودها في وطنها الذي لا وطن لها سواه هو أكثر الأمور "طبيعية" في المشهد القائم في إسرائيل. هذه الجماهير مواطنة في إسرائيل بفعل علاقتها بوطنها. مواطنتها ليست مكتسبة من إسرائيل، وانما متأصلة في انتمائها الى وطنها وفي بقائها فيه وتشبثها بحقها بالتطور فوق أرضه. وعلى نقيض مسار النكبة فإن مواطنتها مشتقة من بقائها.. فما الذي يأخذه علينا عادل سمارة؟!، هل يأخذ علينا أننا "طبّعنا" حياتنا في إسرائيل بدلا من أن نحرر فلسطين!؟ ألا يرى صديقي المثقف المشتبك أن إسرائيل ليست معنية أصلا بالتطبيع مع مواطنيها الفلسطينيين العرب، بل تخطط لتدجينهم ولتنفيذ ترانسفير سياسي وربما جسدي، يخرجهم خارج دوائر التأثير والمواطنة تماما كما يريد عادل سمارة؟!

لقد لفت د. سمارة الى النموذج الذي يدعونا الى السير في ركبه فيقول: "هذا الحزب (راكح ) هو من جر مختلف القوى السياسية الفلسطينية داخل المحتل 48 إلى موقفه السياسي من الإقرار بأن المحتل 1948 هي أرض إسرائيل وبها رعايا عربا وذلك باستثناء حركة ابناء البلد ومؤخرا حركة كفاح".. ويضيف: "كل هذه المقدمات كانت وستبقى ليؤكد هذا الحزب (راكح ع.م) موقفه ضد تحرير فلسطين ومن ثم تسهيل زج القضية في مسرب ضيق باهت هو: حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، وهما مُجانبة واضحة لتحرير الوطن المغتصب، اي تثبيت وشرعنة الكيان الاستيطاني"..

فهل يريد عادل سمارة ان يقول، إن إسرائيل هي المعنية بالمسرب الباهت الضيق الذي يؤدي الى حل الدولتين، أو حل الدولة الواحدة لولا ان حركة البلد المدعّمة بـ"حركة كفاح" تمنعان هذا المنزلق؟! أليس في هذا تبرير لسياسة الرفض والتعنت الإسرائيلي وإيهام بأن إسرائيل "صفقة القرن" و"إسرائيل قانون القومية" هي المعنية بحل الدولة او حل الدولتين؟!..

وهل هو يريد أن يقول بذلك،إن موقف "راكح" هو الذي يعيق تحرير الوطن المغتصب؟ وهل يوحي عادل سمارة هنا، أنه لو تحركت جحافل أبناء البلد، وعلى الأخص لو تحركت جحافل حركة "كفاح" التي يكاد لا يسمع بها أحد، لتحرير فلسطين، فإن فرق الشبيبة الشيوعية ستنتظرهم على الحدود لتعيدهم أدراج الرياح مهيضي الجناح؟!

كيف يمكن ان يصل النقاش اليوم في ظل أخطر هجمة على قضية الشعب الفلسطيني منذ النكبة الى هذا الدرك، والى تحميل راكح المسؤولية عن تعثر تحرير فلسطين؟

هل انتهى الأعداء والمتآمرون الحقيقيون على الشعب الفلسطيني؟

قليلا من التروي قد يحفظ ماء الوجه وقد يمنع الانزلاق!

//هوامش

*(راكح: القائمة الشيوعية الجديدة، هو اسم حزبنا الشيوعي بعد انقسام الحزب الشيوعي الإسرائيلي عام 1965)

**(العاشور- الذكرى العاشرة لنكبة الشعب الفلسطيني وإقامة إسرائيل)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب