news-details

الأعرج والبيت| يوسف جمّال

أمس التقيت بنادر الأعرج. كما فارقته آخر مرة، كان واقفًا على رجليه، اللتين داهمهما الشلل في طفولته المبكرة، ويتكئ براحتيه على مقابض عكازتيه، تاركًا لساعديه الاستعانة بأنصاف الحلقتين المعدنتين اللتين تتوجانها.

لم ألتقِ به منذ ان التقينا في جنازة أم سرحان. رأيته مرات قليلة من بعيد. في البنك أو في مكتب البريد.

  كان واقفًا أمام بيته ينتظر شيئًا ما، أوقفت السيارة بجانبه، فتحت شباكها، وتبادلنا تحيات مجاملة عادية. ولكن هذا اللقاء الخاطف، أرجعني إلى ذكريات ماض بعيد لن أنساها.

    ما زلت أذكر عينيه في جنازة أم سرحان، لقد كانتا كأنهما جمرتان، أخذتا من نار مستعرة، ووضعتا تحت حاجبين كثيفين. كتبت بالدم على صفحات بياضهما، قصة بكائه على أم سرحان، زادتها الدموع اشتعالًا وتشظِّيًا.

تركته أمه وراحت تبحث عن لقيمات لأولادها السَّبع، في مزارع الآخرين، "فنسته" يعيش على فتافيت مائدة أم سرحان، فألف الحرمان والجوع والضياع. فتح عينيه فلم يجد له أبًا.

سأل "أم سرحان" مرة:

أين أبي؟ 

 فأجابت وهي تشير بسبابتها إلى أعلى: "انه فوق!".

أين!؟ سأله باستغراب تائه.

فوق في السماء!

أجابت بلهجة تفهمه بها أنها لا تريد الخوض، في هذا الموضوع.

 فسكت، ولم يسأل عنه ثانية!

  فكانت هي الحضن الذي لم يجد غيره، ليحميه من كيِّ نيران طفولته الحارقة، والحب لم يجده عند أحد، فبحث عن الشفقة وأدمنها في حضنها.

 ولكن سرعان ما تحولت شفقتها عليه إلى حبٍّ جارف. فبادلها حبًّا ملك كل كيانه، عاشت في بلدنا وحيدة، حتى دخل حياتها نادر، فخفف من وحدتها، وأطلق فيض أحاسيسها المحبوسة.

 وأم سرحان لاجئة دخلت إلى حياة بلدنا، بعد ان فقدت كل شيء تملكه في بلدها "أم الشوف"... ولم تنس ذلك اليوم..

أعدت زوادة الثوار، وجلست بجانبها، تنتظر أبا سرحان لينزل عن الجبل، ليحملها لهم.

رجع متخفِّيًا، توضأ وصلى، وودَّعها وداعًا لم تعهده من قبل، ترك في نفسها سيلًا من أحاسيس الخوف من المجهول.

فجاءها الخبر..

 لقد وجدوه مقتولًا ومرميًّا في الوادي، رماه اليهود بالرصاص ورموه في الوادي وتركوه.

 هذا ما رواه الراعي، الذي كان شاهدًا على ما جرى.

ولما "سقطت "أم الشوف"، اختارت بلدنا كي تسكن فيها، اتخذت من بيت فارس العلي مأوى لها، بعد ان ترك البلد وتاه في بلاد الشتات، مستغلة معارفها فيها، حيث كانت تأتي إليها في أيام الشتاء، التي لا يوجد فيها "لا زرع ولا قلع"، لتشد لنسائها الفرشات واللحف والوسائد والمساند. وأصبحت هذه مهنتها التي تيسِّر لها معيشتها.

حتى جاء يوم..  

  كنا نجلس على مقاعدنا في غرفة الصف. وإذ بأم سرحان تقتحمه فجأة، وتنزل من بين يديها، طفلًا نعرفه جميعًا، انه نادر "الأعرج".

  هذا الولد بدو "يقرأ مثله مثل غيره! هو مش خِلقِة الله!؟" صرخت بالمعلمة، بعد ان ناولتها كيسًا من القماش، كان يحوي على دفتر وقلم، وقطعة من الخبز مدهونة بالزيت.

 وغادرت غرفة الصف، تاركة المعلمة غارقة في دوامة من الجمود والذهول.

اما نحن، طلاب صف الأول، فقد انصبت عيوننا على نادر، تحاول ان تعرف شيئًا منه، كي تخفف من هذا العطش الجارف، لمحاولة تفسير هذا الحدث الغريب، الذي يحدث أمامنا، ولما عجزنا، انتقلت عيوننا إلى المعلمة، منتظرين منها، ان تفسِّر لنا الغاز ما يحدث أمامنا!

  كنا نجلس ثلاثة على المقعد الواحد، فطلبت منا الالتصاق ببعضنا، حتى نخلي له مكانًا يجلس فيه، فحبا على رجليه ويديه، حتى وصل المقعد وجلس بجانبنا.

 كان يكبرنا بثلاث سنوات، ولكن لم "يفطن" له أحد كي يلحقه بالمدرسة. انقسمنا -نحن طلاب الصف-إلى قسمين: قسم له يحاول مساعدته وحمايته من المعتدين، والآخرون فعليه، فقد حاولوا مضايقته والاعتداء عليه.

في البداية تلقّى "الضربات" بصمت، واعتمد علينا -نحن جماعته- في الدفاع عنه، ولكنه سرعان ما خرج من ثوب ضعفه، وبدأ يرد الصّاع صاعين، لكل من يحاول ان يعتدي عليه.

كانت له طريقة غريبة، في معاقبة من يعتدون عليه. كان يتلقّى إهاناتهم وضرباتهم بصمت، ويتصرف كأنها ليست موجهة له، ولكنه كان ينتظر لحظة عدم انتباههم او نسيانهم، فيحبو بخفة باتجاههم حتى تطول يده احدى أرجلهم، فيشدُّها باتجاهه، فيقع الولد على ظهره، فينقضُّ سابحًا عليه، وعندما يصبح فوقه، يجمع يداه في يده الكبيرة، وبيده الأخرى يبدأ بكيل الضربات على وجه الولد، حتى يعتقد أنه كال له من العقاب ما يستحقه، فيقوم عنه ويطلق سراحه. كان يقوم بهذا العمل في ساحة المدرسة، في الطريق التي تربطها بالبيت، في أزقة القرية.

ولم تمضِ سوى أسابيع قليلة، حتى أصبح نادرًا مسيطرًا على طلاب الصف بلا منازع، يخافه الجميع بعدما رأوا بأم عينهم، ما سيحدث لكل ما تسول له نفسه، أن يعتدي عليه، أو حتى يعصي أوامره، فكنا نتقاتل على "شرف" من سيحمل له كيسه من وإلى المدرسة، ومن يكتب له الوظيفة البيتية في ساحة المدرسة، ومن يعطيه شيئًا لذيذا من زوادته. أو من يطيع أوامره، في مشاركته سرقة ثمار حواكير القرية.

انتقى له جنودًا من بيننا، كنا رهن اشارته، اعتدنا ان نكون حوله، يأمر فنطيعه، يطلب فيجاب. وكلما مرت السنون ازداد قوة وسيطرة.

والغريب في الأمر، أنه كان يسير على أربع، ونقطع المسافات الطويلة فيسبقنا، فيصيبنا التعب الشديد فتنهار أجسامنا، أما هو فلا يكلُّ ولا يملُّ.

 لم نترك مزرعة او بستانًا او متجرًا، إلا وأصابها منا جانبًا من الأذى والخراب، كل شيء كان بتخطيطه وأوامره، وكان دائما يسير في أول "جيشه"، وكان أحيانًا لا تسعفه رجلاه، فيُقبض عليه من قبل ضحاياه، ولكنه كان يخلِّص نفسه دون أذى، كما تُسحب الشعرة من العجين، مستخدمًا لسانه الذي كان كالحرباء، يتلوَّن طبقًا للظروف والمواقف التي يقع بها، فهو يتشكَّل من أقصى حالات المسكنة والانكسار، إلى حالات التهديد والوعيد.

  إلى أن جاء يوم..

     رجعنا من "سرحة" نحمل كيسًا من حبّات اللوز أنهكنا حمله، فما ان وصلنا أوَّل الحارة، حتى سمعنا صراخًا وزعيقًا وصيحات، وكان كلما اقتربنا من بيت ام سرحان، علا الصوت في آذاننا. واذ بنادر يصيح: "هذا صوت أم سرحان !".

ويطير مسرعًا على أربع رجليه، حيث لم نستطع اللحاق به.

  وعندما وصلنا رأينا منظرًا رهيبًا، حطم صوابنا.

رأينا اثنين من رجال الشرطة، يجرون أم سرحان على الأرض، لا يهمهم ما ستصاب من أذى، من جراء هذا الجرِّ، كانوا يقومون بإخلاء بيتها وقبعها منه، بذريعة أنه مال غائب، وهو الآن ملك للدولة!

وما ان اصطدمت عينا نادر بهذا المشهد، حتى تقدَّم من رجل الشرطة، وأمسك برجله وسحبها إلى الأمام، كما كان يفعل دائمًا، فسقط الشرطي على الأرض، محررًا يد ام سرحان، فاعتلاه وقبض على يديه بيده، وبدأ يكيل له الضربات الموجعة بكل قوته على وجهه، وصار الشرطي يصيح من تحته: أنقذوني.. دخيلكم أنقذوني.. سيقتلني هذا الوحش! فأفلت الشرطي الثاني يد أم سرحان، وتوجه لإنقاذ صاحبه من قبضة نادر، فلما اقترب منهم، مسك نادر رجله وسحبها باتجاهه، فوقع الشرطي الآخر على الأرض، فقفز نادر من فوق الشرطي الأول، إلى الشرطي الثاني، وبدأ يعطيه نصيبه من الضربات القاتلة، وصار كلما حاول الواحد منهم، رفع ظهره محاولًا الوقوف، كان نادر يقفز فوقه تاركًا الآخر، حتى حولهما إلى أشباه جثث!

كان كل هذا على مشهد ومسمع من أهل البلد جميعهم، وماهي الا لحظات، حتى بدأوا شيئا فشيئا يفيقون من ذهولهم، وشرعوا بإطلاق صيحات الإعجاب والتشجيع والهتاف والتصفيق لنادر الأعرج.

ولم يتركهم إلا بعد ان قدمت سيارة أخرى من الشرطة، ولما عرف أنهم يقتربون من ساحة المعركة، انتحى جانبًا وبدأ يبكي بكاء مرًا.      

ولما وصلوا، حبا باتجاههم، وعندما اقترب منهم، مدَّ يده باتجاههم، طالبا الصدقة منهم فلم يلتفتوا إليه.

وبعد تحقيقات دامت مدة طويلة، قيِّدت القضية تحت بند "الفاعل مجهول"، اذ لم يصدِّق أحد الشرطيين، ان نادر هذا الفتى الأعرج، هو الذي اعتدى عليهم، وسبب لهم كل هذا الأذى! حتى هم أنفسهم بدأوا يتشككون فيما حدث لهم.

وأقسمت أم سرحان قبل وفاتها، من جراء الضربات التي تلقتها، عندما جروها ليخرجوها من بيتها، ان فارس العلي قال لها قبل ان يغادر بيته لاجئا إلى الأردن: "الدار الك اسكني فيها، ان رجعنا هي إلنا.. وان ما رجعنا هي إلك".

     وبعد الجنازة، نزل نادر الأعرج من المقبرة، ودخل إلى بيت أم سرحان.

 وما زال يسكن هناك.

 

(عرعرة)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب