news-details

البيان الختامي للمؤتمر الثقافي الأول في عرابة

لقد حقّق المؤتمر الثقافي الأول الذي أقيم في قاعة بلدية عرابة يومي 11 – 12/10/2019 نجاحًا بارزا في كلّ مرحلة من مراحله: في الإعداد والتخطيط، في جلساته المحسوبة، في محاضريه الأفذاذ ومداخلاتهم القيّمةوفي الجمهور الواعي والراقي الذي رافق المؤتمر بكثير من التحفّز والترقّب على امتداد يومين كاملين. كان المؤتمر الذي ارتفع على كتفي الإتحاد العام للكتاب الفلسطينيين قد حدّد جملة من الأهداف الكبرى والصغرى، سعى إليها بالتصريح والتلويح، رغم إدراكنا أنّ المؤتمر ينحصر في جزئية واحدة هي وضعية الأدب الفلسطيني في الداخل. لا يستطيع مؤتمر كهذا أن يصلح كلّ آفاتنا الثقافية والنقدية والتعليمية وهي كثيرة لأسفنا الشديد. سجّلنا أمامنا الكثير من الملاحظات التي وصلتنا في هذه الاتجاهات وأنصتنا بتأنٍّ وصدق لنبض الأخوات والإخوة وهم يشكون بحرقة ممّا آلت إليه حركتنا النقدية وممّا وصلت إليه مكانة اللغة العربية وآدابها في مدارسنا. سنتدارس بعمق هذا الاستصراخ الصادق المسحوب من عمق القلب والوجدان لعلّنا نهتدي إلى خريطة طريق أو خطة عمل للمستقبل القريب والبعيد.

من جملة الأهداف الكبرى التي وضعناها نصب أعيننا هي متابعة الحالة الأدبية الفلسطينية في تفاعلاتها مع بعض الأنساق الثقافية والإبداعية الأخرى. هذا هو المؤتمر الأول. ولأنه أول فقد أردناه شموليًا، يبدأ من البدايات ويظلّ في العموميات. ومن هنا أكّدنا على توجّهه الشمولي في الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، على أن ننتقل في السنوات القادمة من العموم إلى الخصوص على مستويين: الأفراد والظواهر. وكانت فكرة الاحتفاء والاحتفال ببعض أدبائنا كلّ عام ضمن الأهداف السامية التي حدّدناه. رأينا من الواجب هذا العام أن نلتقي بنخبة من أدباء الرعيل الأول، بهم نسمع نبض التاريخ فيهم وفي عطائهم الجميل: حنا أبو حنا، مصطفي مرار، حنا إبراهيم وسعاد قرمان. 

أدبنا الفلسطيني جميل وصادق وإنساني يصدّر للعالم قيمًا إنسانية وأخلاقية وجمالية عالية. ولهذا الأدب عمق تاريخي طويل يعود إلى قرونٍ طويلة. ولم يبدأ من حالة صفرية. لم يبدأ بالنكبة وإنما يمتدّ في عمق التاريخ.وله عمق جغرافي واسع. المفارقة المؤلمة أنّ العمق الجغرافي هو من ارتجاجات الحالة السياسية ومن تبعات النكبة: فصار عندنا أدبٌ فلسطيني في الداخل 1948، وأدبٌ فلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967، وأدبٌ فلسطيني في المنافي والشتات. لم يكن هذا الأدبُ، أو أيُّ نشاط ثقافي آخر، عندنا نحن الفلسطينيين، ترفًا نتنعّم به في أوقات فراغنا. وهل هناك فراغ في وجودنا أصلا؟!  مثلما لم يكن أدبنا من الترف لم يكن أيضًا تعبيرًا عن وجود لأنّ وجودَنا على أرضنا ما زال غير منجز أو محسوم إلى الآن، وهو لذلك يحتاج إلى أدب يساهم في صياغته باستمرار. فالأدب هو فعل صياغة وترسيم. 

ولأنه مسألة وجود فلا بدّ أن يرتقي هذا الأدب بأدواته الجمالية والشكلية والأسلوبية إلى درجة يستطيع  عندها أن ينفذ إلى جماهيرنا بكل قطاعاتها وقدراتها ومستوياتها. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاهتمام الأكاديمي العالمي بهذا الأدب بدأ يعظم باطراد واستمرار منذ عقدين تقريبًا أو أكثر قليلا.  وهكذا صرنا نشهد منظومة متكاملة من الاهتمام بهذا الأدب في كثير من جامعات العالم ومعاهد الأبحاث العالمية الكبرى. فصارت دور النشر العالمية المتخصّصة في الآداب تُعنى بنشر كتب كاملة بالإنجليزية، وبلغات أوروبية أخرى، عن أدبنا الفلسطيني. علاوة على الكتب، تخصّص الكثير من الدوريات الأكاديمية المحكّمة والموسوعات المختصّة والكتب الأكاديمية مساحات واسعة على صفحاتها لنشر مقالات وفصول خاصة حول أدبنا الفلسطيني. وصرنا نرى مساقات جامعية تُعنى بهذا الأدب في الجامعات العالمية الكبرى. يُضاف إلى هذا بدأنا نشهد حركة يقظة من الترجمات العالمية لكثير من نصوصنا الأدبية ضمن مشروع بروتا الذي ترعاه سلمى الجيوسي وابنتها وبجهود فردية محمودة كثيرة. أما في مجال الدرس فقد أخذت الأكاديميا الغربية، بالإضافة إلى الجامعات الإسرائيلية طبعًا، تشجّع طلابها على كتابة أطروحات ماجستير ودكتوراة عن هذا الأدب. وأنا بصفة شخصية رافقت عن قرب أربع أطروحات دكتوراة كتبت في الخارج في السويد واسكتلندا وآيرلندا وإيطاليا عن الأدب الفلسطيني.

كان المؤتمر الثقافي الأول قد انعقد تحت العنوان "الأدب الفلسطيني من منظور ثلاثي الأبعاد: الطول والعرض والعمق". وكانت مداخلات المؤتمر قد توزّعت على عدّة جلسات خلال يومين شارك فيها نخبة من باحثينا الكبار والمعتمدين والمعروفين في مختلف المجالات والاهتمامات الأدبية. وكلّ واحد منهم قدّم مداخلة عميقة ودقيقة مثلما يليق بمكانتهم العلمية.

كانت مداخلة بروفيسور محمود غنايم شاملة أعادتنا إلى بدايات السرد الفلسطيني. ربط فيها بروفيسور غنايم بين السابق واللاحق وقارن وفاضل وعاين ووصّف. لتأتي مداخلة الدكتور نبيه القاسم بعدها لتفعل الشيء نفسه في مجال الشعر. فقارن بين المرحلتين، قبل 48 وبعدها، على مستويي المضامين والجماليات. وهكذا يمكن القول إنّ هاتين المداخلتين المسهبتين قد حقّقتا البعد "الطولي" والامتداد الذي حرصنا عليه حتى لا يثبت الاعتقاد بين الأجيال الشابّة أنّ أدبنا بدأ من حالة عدمية بعد 1948.

أما البعد "العرضي" فقد أردنا من خلاله أن نمثّل بجزئيات أو بمقاطع جزئية بارزة لتطوّر هذا الأدب والاتجاهات التي بدأ يسير فيها في العقود الثلاثة الأخيرة. فكانت مداخلة الدكتور محمد صفوري في الأدب النسوي الفلسطيني خير تمثيل لهذا الانفتاح والتطوّر على مستوى المضامين والأساليب. وهذا المقطع الذي أجاد الدكتور صفوري في توصيفه وترسيم حدوده يذكّر بأنّ أدبنا مركّب ومتعدّد الاهتمامات وهو يجاري التطوّرات الاجتماعية والفكرية الحاصلة في مجتمعنا. وفي هذا البعد "العرضي" يدخل الشعر الشعبي والزجل الذي ظلّ يتمتّع، حتى وقت قريب، بحاضنة جماهيرية واسعة منذ عقود طويلة. هذا المقطع الأدبي يعكس بقوّة أمرين اثنين: التفاف الجماهير حول هذه النماذج من الشعر، الأمر الذي يؤكّد التفاعلات القوية بينالإنسان الفلسطيني ومنتوجه الأدبي.وتأكيد الموقف الرسمي من هذا الشعر. وهو، مثلما نرى، اعتراف صادق بجمال هذا الشعر وحقّه في أن يصير جزءًا من المركز الأدبي. وهنا استمعنا إلى محاضرة أدبية سوسيولوجية عميقة من الأستاذ علي حبيب الله حول أشكال الشعر الشعبي وتبدّلاته النوعية والشكلية والجمالية على ضوء المتغيّرات الاجتماعية المتلاحقة.وبعده أتحفنا الشاعر الزجال شحادة خوري بنماذج رائعة من زجليّاته. وتجدر الإشارة إلى أنّ الشاعر شحادة خوري قد أكّد في مقدّمة كلامه على ضرورة الاعتراف بمركزية هذا النوع من الشعر.

البعد العرضي الذي عنيناه لا يقتصر على الأشكال والأنواع الأدبية بل يتّسع ليشمل بعض الظواهر المميّزة التي تُعنى بمسألة الربط بين الأدب والواقع خارجه. من هنا دخلت ثلاث محاضرات للدكتور رياض كامل والدكتورة لينا الشيخ حشمة والدكتور محمد هيبي. عُنيت مداخلة الدكتور رياض بالعلاقات المركّبة بين الأدب والآيديولوجيا، وهي قضية عالجها الأولون وما زال المتأخرون يُشغلون بها من زوايا مختلفة. إنّ انعكاس الآيديولوجيا في الأدب هو من ملازمات الأدب عمومًا والفلسطيني خصوصًا. قدّم الدكتور رياض أمثلة عديدة على هذه التعالقات المركّبة بين الأدب والآيديولوجيا في السرد والشعر. وفي السياق نفسه تندرج مداخلة الدكتورة لينا التي تحدّثت عن فعل الرقابة، وهو شكل من أشكال العلاقات المعقّدة بين الأدب والواقع الخارجي، وأظهرت التموّجات التي حصلت في هذه العلاقات في المراحل الثلاث الكبرى التي مرّ بها أدبنا حتى الآن. وبيّنت تنقّل الأديب الفلسطيني بين الرقابة الخارجية والداخلية وفقًا للتبدّلات السياسية والاجتماعية التي يشهدها مجتمعنا. وقد قدّمت أيضًا نماذج تمثيلية من أدبنا توضّح بدقّة التمايزات بين نوعي الرقابة على النحو الذي حدّدته. محاضرة الدكتور محمد هيبي دارت في نفس الدائرة. وكان الدكتور محمد قد قسّم محاضرته الأكاديمية بصفة متساوية إلى شقين: الرقابة الخارجية والداخلية، تلك التي تمارسها السلطة والمؤسّسة الرسمية في البلاد ضدّ الأقلية الفلسطينية ونشاطها الأدبي والثقافي، وتلك التي نمارسها نحن ضدّ أنفسنا. قارن بجرأة بين النوعين بأمثلة حيّة ومباشرة أثارت جدلا حميدًا.    

أما "العمق" في هذا المنظور الثلاثي الأبعاد فخصّصناه لجماليّة هذا الأدب بكلّ أنواعه، علمًا أنّ الفصل التامّ بين المضمون والشكل أمر يتعذّر تحقيقه في الدراسات الأدبية العميقة، لأنهما لا يكونان على انفصال أصلا. رغم ذلك كانت المداخلات في هذا الاتجاه "العمقي" تميل أكثر إلى توصيف الأساليب والجماليات المهيمنة في أدبنا. فكانت مداخلة الدكتورة كوثر جابر قسوم قد انهمكت في بيان التشكيلات المكانية المتعدّدة في السرد الفلسطيني ورسم حدودها وأبعادها وتفاصيلها في علاقاتها المركّبة مع فعل الانتماء. وبيّن عبر الأمثلة أنّ المكان كتشكيل بنيوي لا يخلو من قول آيديولوجي. وبنفس القدر عالج الدكتور فياض هيبي مظاهر السخرية بكلّ اشكالها المركزية، والتي يتقنها الكثير من أدبائنا بالفطرة السليمة،وبيّن قتامة الواقع الذي يكتبون من داخله والذي أجاء الكتّاب إلى توظيف السخرية كأداة دفاعية وهجومية فاعلة. وبالإضافة إلى ذلك أكّد الدكتور فياض حاجة السخرية إلى بعض الأساليب المرافقة. ولعلّ من أبرز المستلزمات التقنيّة والأسلوبية في أدبنا الفلسطيني هو اللغة. في هذا المجال تحدّثت الدكتورة رباب سرحان بإسهاب،نظريًا وتطبيقيًا، عن خصوصية اللغة بمستوياتها وطبقاتها ولهجاتها، ثمّ أشارت إلى حاجة الهموم التي يعرضها أدبنا إلى مثل هذه الحساسية اللغوية عبر الأمثلة النصّية التي قدّمتها. كلّ المداخلات في هذا البعد أجادت في الربط الجميل بين الشكل والمضمون في النصّ الأدب الفللسطيني.

تحيّة لاتحاد الكتاب وأمينه العام، الأديب سعيد نفاع، على هذا الجهد المبارك في عقد هذا المؤتمر وتحويله إلى نهج حولي، يرسّخ ثقافتنا وأدبنا في ذاكرتنا الجمعية خير ترسيخ. تحيّة لبلدية عرابة ورئيسها الأستاذ القدير عمر نصّار على كرم الضيافة وعلى استعداده لاستضافة المؤتمر كلّ عام. تحيّة لكلّ الجنود "المجهولين" المحفوظين في القلب على ما بذلوه من جهد وعرق ووقت، على امتداد أشهر طويلة،لعقد المؤتمر على النحو المشرّف الذي يليق بنا. تحيّة لكلّ عريفة أو عريف اجتهدوا في تقديمهم للجلسات وضبطهم لسيرها الصحيح. وتحيّة لكلّ الجمهور الراقي الذي جاء من الشمال حتى الجنوب. ولولا حرصهم الصادق على هذا الأدب لما تحمّلوا تعب السفر.  

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب