news-details

رحلة عذاب| عمر سعدي

وجدتني وزوجتي في مدينة لم تطأها اقدامنا قبل اليوم، مدينة جميلة على النسق الشرقي والعربي سرنا في الشارع على غير هدى واخذنا نمتع انظارنا بمناظر بنايتها الشاهقة الجميلة متعددة الطوابق، ونتبادل النظرات مع المارة والعساكر ينظرون إليهم شزرا بنظرات حاقدة. كان الجو معتدلا ربيعيا تهب نسمات عليلة والشمس تدغدغ وجوهنا وهي في كبد السماء ترسل اشعتها الدافئة. تفرّست وجه زوجتي فوجدت الرضا في عينيها وهي ترفل بالغبطة وابتسامة عريضة أشرقت على شفتيها.

 واصلنا سيرنا فشاهدنا امامنا يافطة انتصبت على عامود من حديد، نقش عليها بخط عريض اسود اللون (مطعم الشعب بمأكولاته الفاخرة الشرقية والغربية الشهية). نظرت الى زوجتي فقرأت في عينيها رغبة في الدخول الى المطعم لتناول وجبة الغداء، يممنا شطر المطعم حسب السهم الذي كان يشيرالى موقعه صعدنا الدرج ودفعنا الباب، ولجنا الى داخل المطعم، فوجدنا ردهة رحبة وجميلة، وفيما نحن نتمتع بالقاعة وبأناقتها، تقدم منا شاب يتهلل وجهه بابتسامه رهيفة، وهو المسئول عن الاستقبال اسمر اللون نحيف متوسط القامة انيق يتجلبب بلباس رسمي ببزّة سوداء مع قميص ابيض فاخر ناصع البياض. وبعد ان غمرنا بالترحيب واستقباله اللطيف طلب منا ان نتبعه، اختار لنا ركنا شغلته منضدة حولها مقعدان يطلان على الشارع العام ومنه نلاحظ حركة الداخل والخارج من الزبائن، بينما نحن نمتع انظارنا بالقناديل الكهربائية البلورية الجميلة بألوانها المختلفة الساحرة التي تشع ببهائها وتغطي سماء الردهة، وبالجداريات والصور والرسومات الجميلة الجذابة لفنانين ورسامين عظام.

تقدم منا النادل وقدم لنا دليلا للوجبات والمشروبات وعاد ينتظر اختيارنا للوجبة. اخذت اتفحص قائمة الوجبات وبعد ان تمّ اختياري، نظرت الى زوجتي فوجدتها تغادر القاعة وعلى وشك الخروج فذهلت ووجدته تصرفا شاذّا لم، يسبق لها تصرف كهذا طيلة حياتنا الزوجية الخمسين سنة ونيّف. وبعد ان خرجنا سألتها اذا كانت تشعر بألم او ان المطعم لا يروق لها او هل النادل تصرف بغير لياقة، فاستنكفت في ردها واكتفت بهزة من رأسها. آثرت الصمت وكظمت غيظي وقلت في نفسي كما قال المثل الشعبي (غُلب وسترة ولا غُلب وفضيحة) وسرت وتناثرت في راسي شتى الهواجس والأفكار. واصلنا طريقنا حتى وصلنا الى نصب تذكاري عند تقاطع عدد من الشوارع يتوسط ساحة واسعة فيها عامود من المرمر الابيض يزهو ببهاء وجمال وفي ذروته امتدت يافطة نقش عليها شعار وكتبت كلمات. جلسنا على حافة القاعدة مع بعض السواح والمواطنين، اشعلت سيجارة واخذت امج منها بنهم، وانفث الدخان الذي يتصاعد بكثافة. شعرت أني اثرت حفيظة بعض الجلساء فتجاهلت ذلك، أطرقت قليلا، ثم نظرت الى زوجتي لننتقل الى مطعم آخر، فلم اجدها. نهضتُ واخذت اتطلع بين الحضور من الناس فلم اجدها، جال في ذهني لربما أنها دخلت أحد الحوانيت القريبة لشراء ما تحتاجه من لباس وأحذية. دخلت الدكان الاول والثاني وتواصل دخولي لجميع الحوانيت في الشارع، وأخذ قلبي يخفق. رجعت الى صف الدكاكين المقابل ثم الى الشارع الموازي للشارع الاول فلم اعثر لها على أثر. عدت الى ساحة النصب عسى ان تكون قد عادت فخاب ظني. ومن ساحة النصب سرت في الشارع الذي ينطلق من النصب واتجهت جهة الجنوب..

 كان يغص بالزائرين والمواطنين، وسرت بين الناس وقلت عسى ان تكون قد ضلت المكان وسارت مع السائرين، صعدنا ادراجا كثيرة من الرخام الفاخر فوجدتني أقف في ساحة رحبة انيقة وجميلة ونظيفة وعلى الحائط جدارية للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ومن الناحية الاخرى انتصبت يافطة بمساحة عدة أمتار كتب عليها المركز الثقافي للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. هبطت من هناك مسرعا لأرجع الى النصب التذكاري عسى ان تكون قد عادت الى هناك، وفي الطريق حدث لي لم أكن اتوقعه، انخلع نعل حذائي وسقط على الارض، فقلت مصيبة جديدة حلت بي، ماذا افعل؟ وقعت بين خيارين ان ارمي الحذاء واسير حافيا او اسير في فردة واحدة. وفي غمرة حيرتي اهتديت الى نصف حل تناولت منديلي من جيبي وعصبت النعل مع الجزء العلوي من الحذاء وسرت، وفي الطريق وانا اتحرق على زوجتي وفي عجلة من امري، وجدت عساكر غصّ الشارع بهم وكانوا في سجال مع الشباب الذين يمطرونهم بالحجارة، والعسكر يردون عليهم بإطلاق الرصاص المطاطي وبالقنابل المسيلة للدموع. فاعترضني جنديان واستوقفاني وراحا يحققان معي. أسعفني من ثبورهم عندما شاهدا الحذاء فضحكا هُزءا، لكنهما منعاني من مواصلة طريقي فتراجعت وسلكت طريقا اخرى اوصلتني الى حيث النصب التذكاري.

كنت اسير وقد سيطر عليّ الغم والهم، وفجأة تغير الجو وهبّت رياح واخذت غيوم سوداء تتلبد في السماء فاحتجبت الشمس وخيمّ ظلام خفيف فعصفت الرياح وزمجرت وكنت قد وصلت النصب مع اشتداد موجة من الرعد والبرق، فأخذ المطر يتساقط وهطل غزيرا واشتدت العاصفة وتساقط البَرَد بحجم بيضة الحمام فدخلت مع المارَّة أحد الحوانيت اتقاءً من المطر والجو العاصف، فشعرت في اضطراب في نفسي، وتملّكني صداع، وتوترت اعصابي وشعرت بغثيان ودوار في راسي. انحسر المطر ومع تراكم التوجس والهواجس خرجت عن طوري استشعرت بهوس انتابني فانطلقت كالمجنون الى الشارع اركض واصرخ انادي (ولك يا.. مريم... وينك ولك يا مريم... وينك..) صرخت وصرخت بلا انقطاع غير آبه للناس ودون أن اعيرهم اهتماما. وفي حين كنت اناديها وانا في هذا المشهد الحزين والدموع تسح ساخنة من عينّي، شعرت بوخزة بخاصرتي، وفركة في انفي، فتحت عينيّ فوجدتها في السرير بجانبي، فراحت تسألني (عزا شو مالك بتصرخ وتلجلج) فأجبتها والكرى يغالبني وقلت (كلّو منّك).

(عرابة)

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب