news-details

رسالة إلى ابنتي يوم تخرّجها..| فريد نصار

حبيبتي وصغيرتي وجميلتي..

 

دعيني بداية أبارك لك تخرّجك وتخرّج زملائك وأصدقائك ليس في البطوف والبخاري وابن خلدون فقط، بل لجميع الطلاب في هذا الوطن الصغير الكبير، وكلّ عام وأنتم جميعًا بألف خير.. ولا أخفي عليكِ أني حزينٌ على قدَرٍ جعل من حفل تخرّجكم غير عاديّ، وليس كما تتمنّين ويتمنّى الجميع من المعلمين والأهل والطلاب.

 

كم كنت أتمنى أن ترتدي الأبيض والأسود وعباءة وطاقيّة التخرج، وتعتلي المنصّة لتسلّم الشهادة أمام الحاضرين من أهل وضيوف ومعلمين وطلاب.. فيصفّق لك الحاضرون وتأخذي الصور والورد، وتفرحي كما يفرح الناجح، ويفرح الأهل ويفرح الطير ويفرح البلد ويفرح الوطن. ولا أجد أبلغ من قول جبران في هذا السياق حيث قال:

 

و للتقادير سبلٌ لا تغيرها والناس         في عجزهم عن قصدهم قصروا

 

أمّا قبل،

 

فإنّك اليوم لا تودّعين معلّمين وطلّابًا ومدرسةً فحسب، بل تودّعين محطّة من محطّات عمرك الذي لا أتمناه إلّا مديدًا سعيدًا رغيدًا، وأن أغادر هذه الحياة الجميلة بك ومعك قبل أن يصيبك أي سوء وأيّ أذى. تُرى، كم حملت هذه المرحلة بين ثناياها من غثّ وسمين، من حلو ومرّ؟ كم من دمع حلو ودمع مالح سالت مقلتيك؟ كم من المرات جلست صباحًا إلى جانبي في السيارة راغبة متلهّفة للوصول إلى المدرسة، وأخرى كنت فيها كارهةً فاترةً تودّين العودة إلى فراشك الدافئ ومتابعة النوم ومعانقة الأحلام؟

 

وبعد،

 

حبيبتي وصغيرتي،

 

إنّ الحياة حلوة جميلة، وما عليك إلّا أن تثقي بحسنها وجمالها، لا كما يصفها بعض السوداويّين بأنّها "تافهة"، و" فارغة"، و"عابرة" وما إلى ذلك من أوصاف في غير مكانها، ذلك أنّ الله لم يخلق شيئًا إلّا وكان في منتهى الحسن والجمال، فخذي معك جميع تلك الأوقات والتجارب، الحلوة والمرّة، السعيدة والحزينة، لتضيء لك بعضًا من الطريق نحو المستقبل، فلا أريدك أن تندمي على أي شيء قمت به خلال هذه المرحلة، واعلمي أنّ هناك رسالات كثيرة عليك الآن أن تؤدّيها؛ بداية نحو نفسك، ثم نحو مجتمعك، ثمّ نحو الإنسانيّة جمعاء، وإلّا فلماذا جعل الله أعزّ مخلوق على وجه الأرض، وجعل المخلوقات الأخرى كلّها في خدمته، ولماذا منحك هذا العمر للعيش فوق هذا الكوكب؟ فكيف لنا أن نعرف طعم الحلو ما لم نتذوّق المرّ؟ وكيف لنا أن نشعر بلحظات السعادة، ما لم نتألّم ونحزن ونبكي؟ فمن رحم المعاناة يولد الأبطال، ومن عمق الظلام يولد النور.. فلا شيء يجعلنا عظامًا أو كبارًا إلّا الألم.

 

ولأنّك لا زلت في عمر الورد، ولم تعرفي مذاق الألم بعد، وطعم المعاناة، ونكهة الحزن، فقد أصبح من الواجب والضروريّ أن تتعرّفي إلى الوجه الآخر للحياة، غير ذلك الوجه الذي طالما تعوّدت عليه، خاصّة وأن الدّنيا بجبالها الشاهقة وصخورها الصلبة ودروبها الوعرة وعواصفها الشديدة وبرقها الخُلّب ورعدها الهادر غالبًا ما تتكشّف لك عن عدوًّ في ثياب صديقِ، وحتى تكون الصديق والرفيق، عليكِ أن تتقني فنّ العيش وفن الحياة، فإيّاك والانحناء أمام عواصف الحياة، فلا تزدادي إلّا صمودًا وشموخًا أمامها، عندها فقط ستنحني الأيام احترامًا لك، وإجلالًا. ولمّا كان الله محبّة، فإنّ سرّ نجاحك وتفوّقك على الدنيا هو أن تجعلي من حبّ الحياة، وحبّ الطبيعة، وحبّ الأرض، وحب الوطن، وحبّ الخير، وحب العمل، وحبّ العطاء، وحبّ الإنسان للإنسان مهنة ودينًا وديدنًا، عندها فقط تخلع الدنيا ثوب العداء لتصبح الصديق الصدوق، والخلّ الوفيّ.

 

صغيرتي الجميلة،

 

إنّك تودّعين اليوم ولدنات لذيذة بطعم الطفولة، وتتركين في المدرسة ذكريات حلوة بطعم السكّر.. ومعها تتركين رحلتنا الصباحيّة من البيت إلى المدرسة، ترى؛ كيف سأحمل وحدي كلّ أغراضي من حاسوب وحقيبة وكتب وزوّادة وفنجان القهوة وهاتفي المحمول ومفاتيحي؟ كيف سأرتّب وحدي كلّ هذه الفوضى الصباحيّة؟ ومن سأكلّم في الطريق القصير الطويل حين نعلق في الازدحامات المروريّة وفوضى السيارات والطلاب المتثائبين الذين يعبرون الشارع كل صباح؟ هل تذكرين تعليقاتي العصبيّة على المارّة أحيانًا، والهادئة أحيانًا أخرى؟ الساخرة أحيانا والهادفة أحيانًا أخرى؟ هل تذكرين عباراتي البذيئة ومسبّاتي المرتّبة أحيانًا، وكلامي المهذّب والأنيق أحيانًا أخرى؟ وفي كلّ الأحوال، كنّا ننظر كلانا إلى الآخر.. فنضحك.. ونتابع الرحلة نسابق الدقائق قبل قرع الجرس، وتحسّبًا من نظرات المدير سمير وبهدلاته اللاذعة لكلّ من يتأخّر من الطلاب.

 

إنّك تودّعين اليوم فترة من التعليم دامت أكثر من اثني عشر عامًا، وستأخذين قسطًا من الراحة مسافة سنة كاملة، تستريحين فيها استراحة المحارب، وتعيدين ترتيب أوراقك وأفكارك، وتعانقين الحريّة من سجن الكتب والدفاتر والامتحانات وجرس الصباح وصراخ المناوبين وتوبيخات المعلمين وتكرار العبارات المنهوكة (انتبه يا ولد، واسكتي يا بنت).

 

إنّك تودّعين اليوم عالمًا لتستقبلي عالمًا آخر، ذا لونٍ وطبيعةٍ ومعالم مختلفة، فيه يجب أن تعتمدي على نفسك، وتحققي استقلاليّتك شيئًا فشيئًا، فكريًّا وماديًّا، لأن ذلك معناه السعي نحو الحريّة بمعناها الحقيقيّ كما ورد في المعاجم وبطون الكتب، وكما عرّفها الفلاسفة والزعماء الحقيقيّون والمناضلون الذين سطّروا الملاحم، وحفروا أسماءهم على صفحات التاريخ بحروف من نار ونور.. وإلّا ما قيمة حياتك دون موقف، ودون الحريّة التي بحث عنها المجتمع البشري منذ فجر البشريّة؟ ألم يبحث الأنبياء من خلال الأديان عن الحرية والانعتاق من عبوديّة الأفكار وسلطة الطبقة الغنيّة الحاكمة بمعتقداتها الوثنيّة التي تضمن لهذه الطبقة الهيمنة والسيطرة؟ لماذا خاضت الشعوب في سبيل تحرّرها الكفاح بكافّة أشكاله وصوره من أجل أن تنال استقلالها، وتنعم بالحريّة المنشودة والخلاص من الهيمنة الأجنبية، كما خاضت، ولا تزال تخوض نضالًا لا يقلّ قسوةً وضراوةً في سبيل الانعتاق من قبضة الأنظمة الدكتاتورية والرجعيّة القابضة على رقاب هذه الشعوب بالحديد والنار؟ كم قدّمت هذه الشعوب من ملايين الأرواح في سبيل حرّيتها واستقلالها؟ وفي طريق النضال من أجل العدالة الاجتماعيّة؟

 

واعلمي أنّ الحريّة لا تعني انعدام القيود، بل يجب أن تكون هناك قيود لتمنع من انتشار وارتكاب الفوضى باسم الحريّة، صحيح أن ما يفرضه احترامنا للعادات والتقاليد والذوق العام والعقائد المختلفة والتربية قد يساهم في تضييق هامش الحريّة، ولكنّ ذلك يحمينا من أشياء نحن في غنىً عنها، ويبقى أفضل بكثير من ترك الحبل على غاربه، لأنّ عواقب ذلك ربمّا تكون وخيمة، ويمكن لهذه الفوضى أن تعصف بحياتنا واستقرارنا كما نشهد في الآونة الأخيرة في قرانا ومدننا العربية. فالحرية هي حرية الفكر والمبدأ، وليست حريّة اللباس والمظهر والمأكل والمشرب، وبالتالي، عليك أن تفخري كلّ الفخر وتعتزّي بكل ما هو عربيّ، وأن تكون ثقتك فيه عالية لا تزعزعها الأيام، فنحن شعب له ماضٍ وحاضر ومستقبل، وله تاريخ وحضارة وشعر وموسيقا وأدب وفنّ، وفيه أعلام وقمم من أدباء وشعراء وعلماء وفلاسفة منذ العصر الجاهلي حتى يومنا، أمّا القادم من الغرب فمرحّب به ما دام مفيدًا وجيّدًا، وعكس ذلك اتركيه للغرب. وحتى لا تسيئي الفهم، أقول إنّ لدينا الغثّ والسمين، كما هو للغرب أيضًا، فخذي السمين من هنا وهناك، واتركي الغثّ والقبيح، فلا بدّ من هذه المصالحة أن تثمر أطيب الثمر، فهل من العوسج يطلع تين؟ فاتركي عوسجنا وعوسج الغرب وازرعي التين.

 

صغيرتي الجميلة،

 

فخور كلّ الفخر بك وبكل أترابك الذين أنهوا دراستهم اليوم ومن قبل ومن بعد، ويستعدّون لجولة ثانية من التعليم أكثر شراسة، فليس لنا سوى سلاح العلم والتربية نحارب فيه لنحتلّ القمر، وما عليكم ألّا أن تستعدّوا جيّدًا لغزو الجامعات والمعاهد، في البلاد والخارج، لتتسلحوا وتنتصروا على الغزو الثقافي الأخطر الذي تشنّه قوى الظلام، بعد أن أيقنوا أنّنا شعب لا يُهزم ولا يُقهر، وأنّه يخطئ من يظنّ أنّنا خُلقنا لنكون حطّابين وسقاة ماء..

 

كلّ عام وأنت بألف خير حبيبتي الغالية..

 

كلّ عامّ وأنت بخير يا ميلاد عمري من جديد..

 

كلّ عام وأنت بخير يا ظلّي الممتدّ حين أموت..

 

كلّ عام وطلاب مدرستنا والمدارس الأخرى من الجليل حتى النقب بألف خير..

 

(عرابة)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب