news-details

رَنا أبو حنّا ورسائلُ حُبّ ليست من هذا العصر

تقول رنا أبو حنا: "حين قرأت الرسائل الإبداعية التي تفيض بالغرام والتّوهج، وتصل القمة في بَوْحها الصادق، لم أشعر لحظة أنني أتطفّل على أسرار شخصيّة. بل كنتُ أتحرّر من عقدة الأسرار الشخصيّة ، وأحسّ أنني أقرأ شيئا باهرا في عرى قلب والدي الهادئ أصلا، الثائر بالحبّ فيما كان يُلاحقُ به محبوبته".

 

 

طالما تساءلت عن أهميّة نشر رسائل تبادلها عاشقان أو زميلان أو صديقان وجَعْلها بين يديّ كل إنسان. فالحبّ الذي يجمع عاشقين هو قُدس الأقداس وسرّ الأسرار، ولا تقلّ عن ذلك الزمالة والصّداقة التي ربطت بين اثنين، امرأة ورجل.

ولا نزال نستعيد في جلساتنا الأدبية رسائل جبران خليل جبران وميّ زيادة، ورسائل مصطفى صادق الرافعي وغيرهم، ولم تزل الرّهبة تتملّك واحدَنا إذا ما تخيّل أنّ رسالتَه إلى حبيبته ورسالتَها إليه انكشفتا على الناس، وقرأها الأب والأخ والأم والقريب وخاصّة الزّوجة والزّوج!!

عندما نشرَت الكاتبة غادة السمّان رسائلَ غسّان كنفاني إليها تناولتها الأقلام وانتقدتها، ولم ترتدع غادة، وعادت لتنشرَ رسائل الشاعر أنسي الحاج إليها. ولكنّ انتقادي لها كان: لماذا لم تنشر رسائلَها إليهما؟!

 ومثلها فعلت الكاتبة العراقية ديزي الأمير بنشرها لرسائل الشاعر خليل حاوي لها.

عندما أهدتني الصديقة رنا أبو حنّا رسائل والدها الجميلة التي كتبها إلى أمّها سألتها: وماذا مع رسائل أمّك له؟ قالت: "كنت سأنشرها لولا أنّ أمّي كانت قد رمت رسائلها مع مجموعة كبيرة من رسائل الوالد إليها إلى نفايات العبَث، ولا أعرف إذا فعلتْ هذا قَصْدا أو من دون قصْد".(ص8) وأعرف أنّنا نعيش في مجتمع محافظ، لا يقبل بعد بانكشاف مشاعر المرأة الحقيقيّة، ويراها أمرا خاصّا لا يحقّ لأحد التلصّص عليه.

وكاتب الرّسائل هو المرحوم المحامي الكاتب أنيس رشيد أبو حنا (11.9.1936-21.1.1989) شخصية كانت لها مكانتها بين المثقفين والمتعلّمين والأدباء، له العديد من الإبداعات الأدبية، وكان نشيطا في المجتمع وأحَد الوجوه المعروفة والفاعلة.

دوافع النّشر

تقول رنا أبو حنا: "حين قرأت الرسائل الإبداعية التي تفيض بالغرام والتّوهج، وتصل القمة في بَوْحها الصادق، لم أشعر لحظة أنني أتطفّل على أسرار شخصيّة. بل كنتُ أتحرّر من عقدة الأسرار الشخصيّة ، وأحسّ أنني أقرأ شيئا باهرا في عرى قلب والدي الهادئ أصلا، الثائر بالحبّ فيما كان يُلاحقُ به محبوبته".(ص6)

وبأصالة وصدق تقول رنا: "نحن لا نتوقّع من شابّ في ذاك الجيل أنْ تكون له حكمة"كافكا" في رسائله إلى الوالد أو حكمة "نهرو" في رسائله لابنته "أنديرا" أو "أينشتاين" في رسالته لابنته. بل نتوقّع أنْ تُعيدَنا الرسائل بأجوائها الرومانسيّة إلى مجموعة الرّوابط المشتركة التي ألّفت قلبَي محبَين في تلك الحقبة".(ص7)

وتساءلت رنا: "ما المشكلة إنْ نشرتُ هذه الروعة الإنسانيّة المسكونة بالعشق حتى العَظم!؟ وهل يُعاقبني الناس اليوم على رسائل شخصيّة جدا، قديمة جدا، أكل عليها الدهرُ وشرب" وتُعيد كلام والدها في رسالة من رسائله: "إنّ كتابة الرسائل هي أمر حيويّ وضروريّ جدا، وبدون كتابة هذه الرسائل لا يستطيع حبُّنا أنْ يبقى قويّا، وأنا لا أسمح لأيّ شيء أن يُضعفَ هذا الحبّ".(ص7)

وتسأل رنا: هل سينزل خبرُ نَشر هذه الرسائل بعد ستين سنة على كتابتها، وبعد قرابة الثلاثين سنة على غياب كاتبها كالصّاعقة في عائلتي ومجتمعي وبلدتي؟ وإن رضي البعض عمّا فيه من جرأة فهل سيضع آخرون أيديهم على أفواههم مندهشين؟

ولكنّها مطمئنة إلى أنّ والدها "يُقدّم لي الدّعم ويثني على هذه الشجاعة، وبين رسالة ورسالة أسمعه يقول: شكرا يا ابنتي".(ص9)

زمَن الرّسائل وعددها

تقول رنا "إنّ عدد الرّسائل التي بقيت مئة وست وعشرون رسالة، كتبها والدُها بخطّه الجميل على ورق أبيض تحمل في أغلبيّتها شعار جمعية الشبّان المسيحيّة حيث كان يعمل ليُغطي نفَقات الدراسة العليا في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس. وامتدّت هذه الرسائل على عدّة سنوات من 1957 حتى سنة 1961. وقد عملت رنا على نَقل معظم الرسائل بخط والدها الجميل إضافة إلى نَقلها مطبوعة لتسهل قراءتها. كما واهتمّت أن تشرحَ في الهوامش، وتوضّح وتُعرّف، حتى لا يخفى شيء على القارئ.

لكنّ أنيس أبو حنا يخبرنا أنّ حبّه لمحبوبته جوجو ابتدأ وهو لا يزال في السادسة عشرة من عمره بينما هي كانت في الثالثة عشرة، "والذي يجب أن تذكريه بأنني أنا الذي أحببتك بالأوّل. أحببتك قبل خمس سنين.. يوم لم تكوني تفهمين ما هو الحب؟" "فالمرّة الأولى التي تحدثتُ فيها معك كانت في 10.6.1955 ما أجملها من ذكرى. وإن كان حبّك أنتِ قد ابتدأ عام 1955 فأنا منذ العام 1952".

حُبّ تُغلّفه البراءة

عندما نُراجع التّواريخ التي تُسجّلها رنا لقصّة حبّ والديها، تُعيدنا إلى سنوات الخمسين الأولى من القرن الماضي، القرن العشرين، حيث كان المجتمع العربي في البلاد يبني نفسَه من جديد بعد النكبة التي حلّت به وهجّرت معظمَه، مجتمع تتحكّم به العادات والتقاليد التي لا تزال فاعلة ومُؤثّرة وموجّهة، وفي الوقت ذاته يجد نفسَه سجينا في واقع جديد في دولة جديدة مع شعب جديد له عاداتُه وتقاليده ورؤيتُه المغايرة.وفي هذا الواقع اللامعقول تنبني قصّة حبّ بريئة بين شابّين صغيرين هو في السادسة عشرة من عمره طالب في المدرسة الثانوية، وهي فتاة غرّة في الثالثة عشرة من عمرها طالبة في أواخر المرحلة الابتدائيّة، تحلم وتأمل وتجد نفسها مُنشَدّة لنظرات شابّ صغير، تُلاحقها وتصرّ على لفت انتباهها إليه. فتلتقي النظرات ويخفق القلبان وتبدأ قصّة حبّ صامتة، ترصدُها رسائله لها على مَدار أربع سنوات، قصّة تخاف عيونَ المراقبين وانكشافها على الأهل والناس. ولكنّها مع الزمن بدأت تتكشّف على الأصدقاء المقرّبين الذين ساعدوا العاشقَين على استمرار قصّتهما وإيصالها إلى شطّ الأمان حيث تمّت الخطوبة وفيما بعد الزواج وبناء أسرة كريمة.

لم تحفظ العاشقةُ رسائلها إلى حبيبها، وآثرت التخلّصَ منها مع رسائله الأولى إليها منعا لانكشافها ولوم الأهل لها ومعاقبتها، وبهذا حرَمت القارئ من التعرّف على عالم الفتيان الصغار، وخاصّة الفتيات وهنّ في سنّ المراهقة، وأيّ أحاسيس وأفكار وأحلام تُراودهن،وكيف كان ابنُ السادسة عشرة، في سنوات الخمسين من القرن الماضي، يُعبّرُ عن حبّه وشوقه ورَغباته وآماله، وبأيّ لغة يكتب الفتى الصغير والفتاة الصغيرة المراهقة رسائلهما، وأيّ مفردات وجُمل وعبارات وصُور يستعملان.

 


المجتمع الضاغط والحَذَر المطلوب

نقف، من خلال قراءتنا لرسائل أنيس أبي حنّا لمحبوبته جوجو، على شدّة القيود التي يفرضها المجتمع على علاقة الفتاة بالشاب. فنجده يلتزم الحذرَ ويتوقّع انكشافَ قصّته ووقوع إحدى رسائله في يد الأهل، فتكون المصيبة. ولهذا نراه يتحدّث إليها بـ "شقيقتي العزيزة"، ويُنهى رسالته بتوقيع "أختك المشتاقة" ويضيف اسم شقيقته الكبرى"ناديا" حتى يأمن أيّ مفاجأة تحدث . وفي رسالة ثانية يكتب لها "أختي العزيزة" ويوقّع الرسالة ب"واسلمي لأخيك أنيس أبو حنا". وفقط بعد أشهر عديدة يجرؤ على أن يكتب لها "جوجو الحبيبة". لكنّ المضحك والمثير أنه في بعض الرسائل يكتب لها "جوجو الحبيبة" ولكنه يوقّعها بـ "أخوك المحب المشتاق". ويجرؤ في رسالة ثانية ويخاطبها بـ" جوجو العزيزة" ويوقعها بـ "واسلمي لحبيبك أنيس" لكنه يعود في رسائل لاحقة ليوقّع بـ "واسلمي لأخيك أنيس" و "أخوك المحب" و "أخوك المخلص المشتاق- أنيس"، ثم يعود ليوقّع بـ " المحب أنيس" و "حبيبك المخلص أنيس أبو حنا" ثم يتراجع ليوقّع بـ "واسلمي لأخيك المشاق أنيس" و "أنا مشتاق جدا جدا واسلمي لأنيس" و "اسلمي للمشتاق" ويعود ليوقّع رسالته بـ " أخوك المحب أنيس" و "اسلمي لأخيك" و "واسلمي لأنيس" و "أنيس" و "واسلمي لأخيك المحب أبدا" و "أخوك المخلص والمشتاق" وفقط في الرسالة الأخيرة نرى تتويج هذا الحب بالنّهاية السعيدة في توقيعه "واسلمي لخطيبك أنيس أبو حنا" (2.6.1961).

حبّ تتحكّم به العادات والتقاليد

قد يضحك أولادُنا وأحفادُنا عندما يقرأون كيف كان العاشقان يتصرّفان تحاشيا لعين الرّقباء، ويسخرون أكثر عندما يقرأون كيف كان واحدُنا يتخفّى تحت اسم الشقيق والصديقة والأخت، ويختلق لنفسه الذرائع ليرى محبوبته أو ليوصل لها رسالته. وكيف يُمضي الساعات ليراها عن بُعد وهي تمرّ، وطبعا حال الفتاة العاشقة كان أصعب بكثير.

"هل استطعتِ أنْ تعدّي المرّات التي مررتُ بها من تحت بيتكم خلال الأشهر الماضية؟ وهل تستطيعين أنْ تعدّي المرّات التي قمتُ فيها مبكّرا حتى أستطيع أنْ أراك قبل سفرك إلى المدرسة؟ "

هكذا يكتبُ العاشقُ أنيس لحبيبته جوجو في رسالته المؤرّخة بيوم 20.5.1957، ويتمنى في رسالة لاحقة لو يمكنه الصعود إلى بيتها لأن "أملي الوحيد الآن هو زيارتكم" (25.6.1957). لكنه يدرك استحالة ذلك لأنّ والدَ المحبوبة عرف بقصّة حبّهما "لقد قلقتُ جدا لسماع خبر معرفة والدك بالقصّة" ويُسارع لطمأنتها "لم أكن أتصوّر بأنّ الوضع سيتطوّر معنا حتى هذه الدّرجة. أنا لا يهمّني شيء يا جوجو من جهتي، فأنت تعلمين بأنّ ما من شخص في العالم يستطيع أنْ يمسّني بسوء لأنّني أعرف كيف سأدافع عن نفسي، ولكنّني حذر من جهتك. أخاف أنْ يمسّك سوء من جهة البيت والناس، خصوصا بعد أنْ عرف الوالد"(1.11.1957).

ويعود ليكتب لها شارحا سعادته التي تتملّكه وهو يكتب إليها، ويشرح تخوفّه من كثرة رسائله إليها "فما عسى صاحب صندوق البريد(46) يقول بعد أنْ يرى أنّ لـ "جوجو" كل أسبوع رسالة؟ أخاف يا جوجو كلام الناس مع أنّني لا أرهب أيّ شخصيّة من شخصيّات الناس. أخاف ما يسمّونه الرأي العام. مع أنني أستطيع مواجهة كلّ فرد وفَرد منهم وحده وتحدّيه والتّغلّب عليه، فأنا لا يهمّني الكلام."(14.12.1957). ويطمئنها "وما أظنّ هذه القصص إلّا وستذروها الرياح وتُصبح في خبر كان كغيرها من القصص التي سمعناها عنّي وعنكِ في الفترة الأخيرة. لهذا لا تهتمّي لسماع هذه الأخبار والذي يجب أنْ تذكريه بأنّني أنا الذي أحببتك بالأوّل. أحببتك قبل خمس سنين.. يوم لم تكوني تفهمين ما هو الحب؟ وكنتِ وستبقين حلقة مكمّلة لحبي.(14.12.1957). ويتحسّر قائلا "الله يرحم أيّام زمان عندما كان أنيس شخصية مرغوبا فيها ويستطيع أنْ يصعد إلى بيتكم بدون خوف أو رَهبة وكأنّه داخل بيته" (14.12.1957).

وكانت فرحةُ العاشق أنيس كبيرة يوم استلم رسالة من المعلمة جوجو كتبتها في المدرسة التي تُعلّم فيها "لقد كانت رسالتكِ جميلة يا جوجو خصوصا لأنّها كُتبَت في مكان تدريس الطلاب. الله أكبر ستصبح المدرسة حتى محطة بوسطة وكتابة رسائل. يا جوجو الحبّ يصنع العجائب." ويُذكّرها بأيام زمان " ما زلتُ أذكر كيف كنت مجنونا وأنا صغير. أمرّ من تحت بيتكم خمس أو سبع مرّات في النهار حتى أراكِ من بعيد. وأمرّ خمس أو سبع مرّات في النهار مع العلم أنّك لم تكوني تشعرين بهذا المرور ولا حتى تعرفينني. وأتذكّر كلّ شيء الآن بعد أن أصبحتُ كبيرا ومدركا، والفتاة الأولى والأخيرة التي أحببتها أصبحت لي وحدي"(7.6.1958).

لكنّ خوفه من حديث الناس وانفضاح قصة حبّهما جعله يكتب إليها يوم 10.6.1958 يوم علم بمجيئها مع صديقات لها إلى القدس حيث يدرس في الجامعة "لقد قررتُ مرّة ثانية أنْ أخبرك أنّه إذا حضرتِ مع الصديقات للقدس يوم الأحد، لا تحاولي بالمرّة تَرك السيّارة والحضور إلى مَقرّ الجمعية لكي تريني. أطلب منك أنْ تبقي مع الزائرات أينما يذهبن اذهبي، ولا تُلحّي عليهن بالحضور إلى جمعية الشبان المسيحية حيث أعمل، وليس هذا لأنّني لا أحبّ أن أراكِ، ولكن من أجل صيتك ومن أجل حبّي لسمعتك واحترامي لكِ، ومن جهة ثانية، ربّما يحضر عندي بعض الأصدقاء من الناصرة يوم الأحد ، وسيرونك إنْ حضرتِ وحدكِ، وأنت تُدركين بعدئذ كيف يكون الحال!! على كلّ اتّبعي هذه النصائح فالحذَر واجب. يجب أن نتحمّل لقد تحملت أنتِ ثلاث سنين كما أخبرتني. لأنّ المرّة الأولى التي تحدثتُ فيها معك كانت في 10.6.1955 ما أجملها من ذكرى. وإن كان حبّك أنتِ قد ابتدأ عام 1955 فأنا منذ العام 1952 . لقد مرّت ست سنوات على هذا الحب .. وما زلت أحملُ كل يوم شوقا على شوق وحبّا على حب".

وبعفويّة العاشق الصغير المنفتح على الحياة والرّاغب في تكسير كلّ القيود يكتب أنيس:"أريد أنْ أضعَ الخاتمَ في أصبعي فقط حتى نرتبطَ مع بعضنا أمام الناس. مع أنّنا ارتبطنا في الماضي واليوم أمام الله. هل تفهمين؟ حتى نستطيع أن نسير في الشارع معا، حتى نستطيع أنْ نذهب أنا وإيّاكِ نأكل بوظة مثلا مع بعض، حتى أشتري لكِ ملبّس، وعلاكي ولبان ومسائل الأولاد الصغار جميعها.. فاهمة يا جوجو أنا مشتاق أنْ أقاهرك كثيرا.. خصوصا الآن في فترة الامتحانات، مشتاق لك كتير كتير كتير. مشتاق لضحكتك ولحديثك، لكل شيء.. وللفستان الحلو كتير كتير، وللخدود الطرايا، أنا أريد أن أبكي الآن، أنا طيلة اليوم لا أفكّر إلّا في جوجو جوجو جوجو. الله يخليكِ يا جوجو يا ستّ الحبايب يا حبيبه يا حبيبه يا حبيبه".(12.7.1958).

ويعود بعد أيام ليكتب لها "لقد أخبرتك بأنني أريد أن أخطب حتى أُسْكِتَ ألسنةَ الناس."(19.7.1958)

ويخبرها كم ضحّى في سبيل حبّه لها "ولربّما تذكرين بأنّني أخبرتك مرّة بأنّني أدرس من أجلك. ولربما أنت تذكرين كيف لم أذهب لأمريكا من أجلك. كيف لا أترك الناصرة طالما أنتِ موجودة فيها، وكيف أنّني مررتُ في المدّة الأخيرة .. آخر مرة كنتُ في الناصرة، ست مرّات من تحت بيتكم. كيف كنتُ أحضر إلى حيفا إلى المدرسة عندك فقط لأراكِ من الناصرة. كيف كنتُ يا جوجو أغار عليكِ إنْ تكلّمتِ مع أيّ شخص كان، وكيف أنّني لا أزال أغار إن تكلّمتِوإنْ رقصتِ مع أيّ شخص كان".  ويتابع "وتذكرين كيف كنتُ أستيقظ مُبكّرا عندما كنتِ تدرسين في حيفا وأذهبُ إلى الكراج أو بقرب الميدان لأراكِ ذاهبة أو عائدة من حيفا بينما أكون قد رأيتك ستّ ساعات قبل كلّ هذا.وأذكر كيف كنتُ أبكي عندما أسمعُ اسمَك..كيف كنتُ أرتبك وأخاف عندما أراكِ في الشارع، كيف كنتُ أمرّ من أمام بيتكم السّاعة الواحدة ليلا فأراكم نائمين ، وفقط أكتفي بأنْ أعرف غرفة نومك" (10.8.1958). وعندما علم بمَرضها كتب لها "الحمد لله على سلامتك أنت من الإنفلونزا. إنْ شاء الله أنْ يدبّ المرض في الكلب الروسي الذي يدور الآن في القمر ولا فيكم، مع أنّ خروشتشوف يفضّل الحالة الثانية، أي أن يدبّ المرض فيكم وليس في الكلب. ولكن محسوبك يُرجّح الحالة الأولى؟ويُنهي الرسالة بتذكيرها أنّه" يوم الثلاثاء الساعة الثالثة سأمرّ من أمام منزلكم، وأرجو أن تكوني على الشبّاك.. انتظريني".

رغم الحبّ تظلّ المفاهيم السّائدة هي الأقوى

الحبّ قوّة خفيّة قاهرة لا يُمكننا تجاهلها والالتفافَ عليها، لا تتحدّدُ بمكان وزمان، قد تُفاجئنا في فتوّتنا أو شبابنا أو شيخوختنا، وقد تصعقُنا في مكان لا يتوقّعه خيالنا. لكنّ تقاليد المجتمع  ومفاهيمَ الناس وسَطوة الدّين قد تُحدّد للحبّ قوانينَه، وقد تُسخّفه وتُبطله وتُبقي ضحاياه بقايا ناس يعيشون ولا يعيشون في الحياة، تُحزنهم الذكريات وتُشقيهم ، وتطول بهم الأيام لزيادة تعاستهم.

وهكذا نجد العاشق الشابّ المتحرّر المتعلم يسير وهو يُحاذر كلامَ الناس وردّ فعل الناس، وإذا اشتدّت عليه الحالة بكى واعترف بحزنه وتخوّفه. ونجده يخضع لمفاهيم الناس فيصوّر محبوبتَه حسب القالب الذي يُرضي الناس ويرضيه هو كواحد من الناس بعيدا عن كلّ تأثيرات المعرفة التي اكتسبها والعلم الذي درسَهوالمجتمع الحضاري الآخر الذي خالطه وعاش بينه. فقد ظلت محبوبته جوجو المفضّلة عنده لأنّها ضمن الإطار العام الذي يُرضي المجتمع، الفتاة الشّريفة الأديبة. "أغار عليك إنْ تكلمتِ مع أيّ شخص كان، ولا أزال أغار عليك إنْ تكلمتِ أو رقصتِ مع أيّ شخص كان مع أنّني أعرف يا جوجو كم أنتِ شريفة وأديبة"(10.8.1958) و " أنا لا أريد أن أتزوج لأن جوجو حلوة ومتعلّمة. ولكن لأنّ هناك شيئا آخر . هناك الحبّ وهناك أدب جوجو وشرف جوجو. ليس الجمال هو الذي يهمني بل شيء أهمّ الحب والشّرف والأدب"(10.8.1958) و "أجتهد حتى أحصل على فتاة شريفة أديبة. لولا مركزي ومكانتي لكان من المستحيل التقرّب إليها" (24.5.1960)و يذكرها بالوعد "لا أدري إنْ كنتِ ستذهبين غدا لحيفا أم لا . المهم الوصيّة، أوصيك إيّاها وهي لا تذهبي وحدَك لأنّني أخاف عليك من أول يوم عرفتك حتى الآن" (19.3.1960) ويعود ليُذكّر ويُؤكّد ثانية في رسالة ثانية"ستذهبين إلى حيفا؟ أظن بعد غد الأحد في 5.6.1960 الله يوفّقك في سفرك، ولكن لا تنسي بأنّ فكرَ أنيسك مشغول جدا. أرجو أن تذكري وعدك وأنْ لا تذهبي وحدك أبدا" (3.6.1960)

الرّسائل تحمل قيمة مُميّزة في أنّها نقلت لنا صورة للعلاقات الاجتماعيّة والحالة الماديّة الصّعبة التي عانى منها معظم الناس، وتحكّم العادات والتّقاليد وتلك الحساسيّة التي حدّدت العلاقة بين عامّة الناس من العائلات المستورة وبين الفئة ذات الثروة والوَجاهة والمكانة المتمثلة في العائلات الغنية التي كانت لا تزال لها سطوتها على ما يجري ويحدث

 

العاشق الفقير

يعترف العاشق أنيس بأنّه لا ينتمي لأسرة أرستقراطية غنيّة، وإنّما يفاخر باحتفاظ أسرته بكرامتها وأخلاقها "ما من شخص في العالم يستطيع أنْ يمسّني بسوء لأنني أعرفُ كيف سأدافع عن نفسي" (1.11.1957). "بيتنا بيت فقراء لم يعرفوا العَنجهيّة، والأخلاق أساسُه وليس الثراء والكبرياء فشكرا لله"(1.11.1957) ويكتب لها في رسالة ثانية "إحنا يا ست جوجو من عائلة غير مُدّعية . من عائلة تعرف أبناءها وتعرف أنّ هؤلاء الأبناء سيبنون المستقبل ولا يهمّهم أصلهم الفقير. بل هذا يدفعهم نحو المجد دفعا. من عائلة لها أبناؤها الفقراء الذين يبنون مستقبلهم من لا شيء، ولكنّ هدفَهم أنْ لا يتكبّروا. نحن لا ندّعي بأنّنا فلان وفلان بل نترك الناس نفسها تتحدّث عنّا في السّهرات والمجتمعات. نحن نترك الصّحافة تطلب منّا وترجو أنْ نكتب لها، ولو مقالا واحدا في الشهر. نحن نترك صحف الاتحاد والجديد والمجتمع واليوم وحقيقة الأمر والرابطة والرائد كل هذه لتتحدّث عنّا . ونحن نترك في قلوب الفقراء المحبّة الحقيقيّة لأنّنا نحترمهم ونحبّهم فلا نألو جهدا نتذكرهم ونسأل عن صحتهم في الشارع وأينما رأيناهم".(21.6.1958)

هذه العزّة ومَشاعر الكرامة والأنَفة رافقتها مشاعرُ الإحساس بالفقر الماديّ، وقد تكون غذّتها النظرة الاستعلائيّة من أبناء العائلات الغَنيّة الأرستقراطية. فهو لا يخفي حال الفقر التي تعيشُها أسرتُه، ويعترف أنّه من أسرة فقيرة، اضطر خلال فترة دراسته في الجامعة العبرية في القدس على العمل المستمر في جمعيّة الشبّان المسيحيّة وغيرها ليوفّر مصروف الشهر وحاجيّات الدّراسة. وهو يعترف لمحبوبته "أنا أفكّرُ في الخطبة، ومن أجل هذا أسرع مع أنّني لا يوجد لديّ سوى ثمن مَحبَسين فقط"(19.7.1958) ويكتب في رسالة أخرى "اليوم بعد القُدّاس ذهبتُ إلى البلد لأفتّش عن هديّة لكِ. ولم أستطع أنْ أشتري ، فالهدايا من عشر جنيهات فما فوق. فكرتُ طويلا وأخيرا فهمتُ يجب أنْ أصبرَ، سأهديك كلّ يوم هدية، سأعطيك أثمن ما عندي دائما"(10.8.1958).

ويكتب لها "لقد اشتريتُ شخصين من الزّجاج الصيني أيضا بثلاثين ليرة. بخصوص النقود لا يوجد لي نقود بالبنك الآن. سأنتظر حتى أوّل الشهر سيكون لي 130 ليرة وسأدفع ثمن الهديّة وثمن الشخصين منهم. وأيضا سأدفع 73 ليرة للجامعة ولفاروق خمسين ليرة والبقيّة مصروف. لا تهتمي سأتدبّر كل شيء."(17.11.1960). ويكتب لها "جوجو نريد أن نوفّر حتى نهاية الشهر كي ندفع لرفيق ثمن الإسوارة. فلهذا علينا ألّا نَتمَصْرف لئلّا ننفضح مع رفيق."(18.2.1961). ويكتب "قررتُ أنْ أحضر للناصرة يوم الخميس القادم حتى أدرس وأستعد للامتحانات لأنّ النقود انتهت معي وعليّ أنْ أرجع إذن للبيت. أرجو أنْ ترسلوا لي من البيت عندنا مبلغ ثلاثين ليرة حتى أسدّد الحسابات التي ستُسْتُحق عليّ وننتهي من كلّ شيء هنا، وأشتري الكتب اللازمة".(24.5.1961)

خلاصة الكلام

أهميّة هذه الرسائل ليس في أنّها تروي قصة حبّ عاشقَين صغيرين، وإنّما فيما تصوّره وتمثّله وتُسجلّه. فهي تنقلنا لسنوات الخمسين حيث كان الناس يعيشون حياتَهم البسيطة، يعرف الواحدُ منهم الآخر، ويهتم بأمره ويشاركه في أتراحه وأفراحه. سنوات الخمسين حيث كان مجتمعنا العربي في أوّل طريقه نحو النّهوض والتطلّع إلى مستقبل آخر، مجتمع يكتم أنفاسَه واقع ظالم وعدائي، وأحكام جائرة وقوانين يُنفذها حاكم عسكري مُتغطرس وشرطة لا تعرف المهادنة ولا الرّأفة، همّها الوحيد طاعة الناس العَمياء والالتزام الكامل بما يُطلب.

صحيح أنّ الجانب السّياسي والمواجهة بين الناس والسّلطة، خاصة في الناصرة حيث كانت المواجهات الكبرى والصّدامات، ومعركة أوّل أيار 1958 المشهورة، والنشاط السّياسي الكبير على مختلف الأصعدة، وعلوّ صوت الشعراء والمهرجانات الشعرية، و"حركة الأرض" ونشاطها السياسي والجماهيري والاجتماعي ، كل هذه لم تبرز في الرسائل ولم يُلمّح إليها، إلّا أنّ الرّسائل تحمل قيمة مُميّزة في أنّها نقلت لنا صورة للعلاقات الاجتماعيّة والحالة الماديّة الصّعبة التي عانى منها معظم الناس، وتحكّم العادات والتّقاليد وتلك الحساسيّة التي حدّدت العلاقة بين عامّة الناس من العائلات المستورة وبين الفئة ذات الثروة والوَجاهة والمكانة المتمثلة في العائلات الغنية التي كانت لا تزال لها سطوتها على ما يجري ويحدث.

وحتى لا يطول الكلام ويتشعّب بعيدا عن "الرسائل" أعود لأعيد ما قاله صاحبُ الرسائل المرحوم أنيس أبو حنا مؤكّدا على أهمية تبادل الرّسائل بين العاشقين "إنّ كتابة الرسائل أمر حيويّ وضروريّ جدا، وبدون كتابة هذه الرّسائل لا يستطيع حبُّنا أنْ يبقى قويّا.".(ص7)

ولا يختلف اثنان حول قيمة الحبّ ودفعه للتعلّق بالحياة والعمل والإبداع وتحقيق الأحلام، وأنّه يأتي واحدَنا من حيث لا يدري وبالزّمن الذي لا يتوقّع، وكما ذكرتُ سابقا:  الحبّ قوّة خفيّة قاهرة لا يُمكننا تجاهلها والالتفافَ عليها، لا تتحدّدُ بمكان وزمان، قد تُفاجئنا في فتوّتنا أو شبابنا أو شيخوختنا، وقد تصعقُنا في مكان لا يتوقّعه خيالنا. لكنّ تقاليد المجتمع  ومفاهيمَ الناس وسَطوة الدّين قد تُحدّد للحبّ قوانينَه، وقد تُسَخّفه وتُبطله وتُبقي ضحاياه بقايا ناس يعيشون ولا يعيشون في الحياة، تُحزنهم الذكريات وتُشقيهم ، وتَطول بهم الأيام لزيادة تعاستهم.

(الرامة)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب