news-details

في ذكرى النكبة: ولدت يوم أزهر الجلنار| د. فؤاد خطيب

قالت لي الساحرة مرة فيما مضى "أنت ولدت يوم أزهر الجلنار. كان اليوم ربيعيًا وشمسه تعانق الغيوم في رحلة أبدية.  ولدت يا ولدي في السابع عشر من أيار، عقد وبعضه بعد النكبة.  في ذاك اليوم أو قربه في أيار قتل أدونيس على ضفاف نبعة في سوريا الكبرى بعد ليلة عشق طويلة مع عنات التي أورقت ذاك العام تلالًا من زهر الأقحوان الذي غطى السهول والوديان. قتله خنزير بري وما أكثرهم اليوم يا ولدي.  

صمتت وحلقت عيونها في البعيد وكأنها تقرأ من كتاب ذكريات علق بين الأرض والسماء ثم تابعت وقالت "... يومها كان والدك في القدس في تجارة ما، أما أمك فكانت تبيع جرار الفخار، خزنت فيها الشهد والعسل ودبس الرمان".  

كنت شقيا يوم ولدت وكانت عيناك بلون أوراق الزيتون في أواخر تشرين. كنت تصرخ وتهز السرير الأخضر المعلق ذات اليمين وذات اليسار، وتراقب شعاع الشمس العابر إلى مهدك من فرجة الباب.

كم حاولت أن تطير مع زائراتك الفراشات القادمات على صراخك وعويلك، كنت فرحًا أم لاعنًا الأقدار لأعرف؟".  

دارت بي الأيام كما دارت بكم بعد أن عرفت النكبة وكل شاردة وواردة عن شعب أصبح بلا وطن. حاول الغرباء سرقة الغيمة وتلك الزرقة في سماء فلسطين مني، لم أرها بعد أن كبرت واشتد عودي وزرت العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه الا في الجليل.  ألهذا كله أحب الجلنار؟  وقد عقدت منها عقدا لحبيبتي الأولى سلمى بعد أن زينت مفرق شهرها بزهرة أقحوان صفراء.  ضاعت مني سلمت في قاع المدينة أو في لجج البحر لا أعرف بعد.

ما زلت أحفظ أقاحيها في كتابها التي أهدتني مرة إيّاه قبل الرحيل. نعم رحلت هي وأمها وتركتني كما يترك الموج على شاطئ البحر الزبد أذهب وأختفي، ثم أعود وأعيش على   ذكراها في كل ربيع، وما زلت أحفظ زهر الأقحوان.  كل زهرة تحكي لي حكايتنا مع فلسطين وربى الجليل والبحر والموج ونتوء الشاطئ وقصة العشق الأبدية بين الصخر والموج. 

كانت هي النوارس التي أسمعتني أعذب وأمر حكاية عن حالها وهي تزعق وتلف وتدور فوق الموج الصاخب وتبحث عن أعشاشها التي هدمها الغرباء وسرقها الضمير عندما كانت الدنيا وما زالت بلا ضمير. علمني أبي ورباني وترك لي وصية وعهدة الأرض ورحل إلى أبديته البيضاء.  زرعت كروم الزيتون والتفاح والصبار والعنب كما أوصاني وملأت بيتي بالورد والغار وبنيت عرسالي على أعلى تلة، منه أتلو صلوات عشقي، أعانق الغيم في الصباح وألتحف سدول الليل في المساء، أنتظر عودة عنات، واعقد لها عقد الجلنار الثاني والسبعين. 

أعلقها كلها على صفحة وجودي، فيها الحب والغضب والريح والنار. نعم أنتظر عاصفة النور والنار عندما يعود أدونيس إلى عنات وأعود أنا إلى حبيبتي الأولى وهي تتجلى بفستان أرجواني تمامًا كغروب الشمس في الأفق بين عكا وحيفا.

 وعدتها ولم أزل بدنان خمر من الجليل وبخابية زيت من زيتونة رومية، وأغاني عشق   صوفية أراقصها أنا والليل والنجوم والغيم، وأضع على رأسها إكليلا من الغار. دارت الأيام    وأخبرتني الغجرية ذاتها قائلة: "اصبر بعد يا ولدي، فرحك ورقصك أراه في كف يدك". وها أنا أجهز في كل ربيع أكاليل الأقحوان والجلنار.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب