news-details

من جعبة الذكريات: تعلمت من طلابي درسًا...| د. محمد حبيب الله

 

هنالك قول شائع، "من طلابي تعلمت"، وهو قول حكيم يقوله المعلم الذي يتعلم كثيرًا من طلابه خلال عملية التعليم، بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، وذلك عندما يقول الطالب شيئًا يرى فيه المعلم معلوماتٍ إضافية على التي يعرفها، أو يقول الطالب شيئًا يوحي للمعلم بأفكار جديدة يفيد بها الطلاب، هذا بالإضافة إلى تعلم المعلم من طلابه كيف كان يجب أن يتعامل مع أحدهم في مجال تغيير سلوكه تجاههم. في أحد الأيام، علمني تلميذي درسًا في التعامل والسلوك لم ولن أنساه أبدًا، وتحول عندي شعارًا واسلوبًا في حياتي، أعني بذلك الابتسامة أولًا والمبادرة ثانيًا بالتحية والسلام، فالابتسامة التي تعلو الشفتين هي منٌّة من الله تزين الشفتين والوجه ولا تكلّف شيئا، وهي واجبٌ على كل فرد مهما اكتنفته من ظروفٍ شخصيةٍ وداخلية، لأن لا دخلَ لمن تلتقي به بذلك، إضافة إلى أن الابتسامة عملٌ يريحك نفسيا ويريح من تقابله وتجعله يأنس بك، لذا فالبسمة سلوكٌ يريح من تلتقي به ويجلب الراحة لقائله، خاصة عندما تلتقي إنسانًا غريبًا.

لقد حدث لي مثل هذا فعلًا، قبل أكثر من 50 سنة، إبّان بداية عملي معلمًا ومرشدًا في دار المعلمين في حيفا (1968)، خرجت يومها من غرفتي في الطابق السفلي للكلية صاعدًا الدرج المؤدي إلى غرفة المعلمين من أجل المشاركة اليومية للمعلمين في وقت الاستراحة بين الدروس، وخلال صعودي الدرج وقف طالبٌ وأفسحَ لي المجال للعبور، فأكملت طريقي دون أن التفت إليه ودون أن أحَيّيه، ليس لسببٍ ضده بل نوعٌ من عدم الانتباه، عندها فاجأني الطالب بقوله: "أستاذ! أنا عملت معك اشي؟! هل أزعلتك في شيء؟! وهل أنت غاضبٌ مني؟!"، لقد صدمني هذا الكلام وجعلني أتوقف عن صعود الدرج قائلا له: "لا لا! أبدًا ابدًا! أنا متأسف!"، عندها أكمل الطالب كلامه بالقول "ولْ يا أستاذ، بتبخل عليّ بكلمة صباح الخير!"، لقد هزني في حينه هذا الحدث وبدأت أعتذر له من جديد بكلمات أخرى، قلت له: "حقكّ علي أنا لم أنتبه وشكرًا أنك نبهتني لذلك". لقد غمرني حينها شعور بالندم وعدم الراحة النفسية بسبب هذه "الفعلة"، ومن يومها آليتُ على نفسي أن أكون دائما البادئ عند لقاء أي شخص بإظهار البسمة على وجهي والتحية والسلام ملء فمي، لكل من ألقاه سواء كان رجلًا أو امرأة، صغيرًا أو كبيرًا، ولدًا أو بنتًا.

وقد زاد "الطين بلة" يومها ما خبرتني به زوجتي التي رافقتني إلى حيفا وكانت تنتظرني في "جنينة البلدية في الهادار"، لقد حدثتني عن امرأةٍ من عسفيا تبادلت معها الحديث وعرفت منها أنني أشتغل في دار المعلمين، عندها ذكرت هذه المرأة أن معلمًا مسؤولًا في الدار يقول عنه الطلاب بأن الكشرة لا تنزل عن وجهه، اسمه محمد حبيب الله. عندها قالت لها زوجتي أن المقصود في الكلام هو زوجي، عندها قالت المرأة من عسفيا: "بس أنا مستغربة كيف أنت عايشة معاه لأن الكل بقول عنّه أنّه إنسان كشر وشديد على الطلاب والكل بقول الله يساعد مرته عليه"، عندها أجابت زوجتي: "بس أبو رامي مش هيك بل هو عكس ذلك"، وسواء اقتنعت هذه السيدة أم لا لكن هذه الحكاية علمتني كيف يجب أن أتعامل مع الطلاب، وأن الحدثين معا جعلاني آخذ على نفسي عهدًا ألا أقابل أي إنسان دون أن أبادره التحية والسلام مبتسما، لقد أصبحنا نفتقر اليوم لهذا الأسلوب في مجتمعنا إلى درجة أن الواحد منا يلتقي بالأخر وأحيانا يضرب كَتِفَهُ بِكَتِفِهِ ويشيح عنه بوجهه حتى لو كانت بينهما معرفة، وكأنه لم يره ولا يعرفه.

إن ما زاد إيماني بهذا الأسلوب، ما كان يحدث لي خلال وجودي في أمريكا للدراسة للقب الدكتوراة، وتذكرت أن الناس هناك إذا التقيت بهم يبادرونك بالتحية دون معرفة، وكلمة "هاي" على كل لسان ترافقها بسمةٌ عريضةٌ، كان هذا السلوك يعطيني دائما في هذا البلد الراحة والأمان، والطمأنينة والشعور الطيب، وأنا هنا أتساءل، لماذا تركنا نحن هذه العادة واخذها منا الأجانب؟ يجب علينا أن نبادر دائما بالبسمة تتلوها التحية والسلام مع كل من نلتقي به، علينا أن نذوت في نفوسنا هذه العادة في هذا البلد وفي كل مكان. لقد لاحظت في السنين الأخيرة ومن خلال تجربتي الشخصية، عند الخروج صباح كل يوم لممارسة رياضة المشي، أن عدم إلقاء التحية هو سلوك شائع بين أكثر الذين يلتقون بعضهم صباح كل يوم، والكثير منهم لا "يطرح السلام" ولا التحية الصباحية، خاصة الصبايا والبنات خجلًا أو نتيجة لتربيةٍ معينة في التعامل مع الغرباء! لقد بدأت من سنين بإكساب هذا الدرس السلوكي للذين يقومون في رياضة الصباح، من حيث إلقاء التحية على كل من التقي به، ومن تجربتي وللوهلة الأولى، لا ألقى ردًا، إلا أنني أصر على متابعة إلقاء التحية والسلام، مما جعل الكثيرين يردون التحية، وأن كثيرين منهم صاروا يبادرون بالسلام، خاصة النساء والصبايا، فصرن يسبقنني في إلقاء التحية وعدم البخل بالبسمة، ناهيك عن شبابٍ كثيرين اكتسبوا هذه العادة، مما يجعلني "أريحُ وأستريح".

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب