news-details

"العربي الجيد" منصور عباس| عصام مخول

المؤرّخ ألكسندر يعقوبسون لا يسمح للحقائق التاريخية أن تربك أفكاره المشوّهة بكل ما يتعلّق بالمواقف المبدئية للشيوعيين في هذه البلاد، وخصوصا في وقت يتلذذ فيه وهو يتغنّى ب"العربي الجيد" الذي يسطع في المشهد السياسي الإسرائيلي في هذه الأيام،  على شاكلة عضو الكنيست منصور عباس، كونه قائدًا عربياً وإسلاموياً لا يتورع عن تبنى الرواية الصهيونية باعتبارها الواقعية السياسية. وأثبت يعقوبسون أنه يفضّل إدارة ظهره لضرورة التعامل بتعمق مع مواقف مركّبة في ظروف تاريخية مركّبة أكثر، كانت قد وجّهت الحركة الشيوعية في البلاد على مدار أكثر من مئة عام انقضت منذ رسوخها في هذه الارض. 

في مقاله (هآرتس – 1.1.2022).  يسترسل يعقوبسون في الإطراء لأقوال منصور عباس في مؤتمر صحيفة غلوبس : بأن" إسرائيل ولدت كدولة يهودية وستبقى دولة يهودية "، وفي حمأة حماسته "للعربي الجيد" المناوب في السياسة الإسرائيلية وتبريره لمواقفه المذكورة أعلاه، يصر المؤرخ بشكل قاطع على أن الحزب الشيوعي والذي انتقد ممثلوه أقوال عباس  "ليس فقط أنه سبق عباس بكثير بالاعتراف  بالدولة اليهودية، وانما أعطى تبريراً أيديولوجياً لهذا الاعتراف". ويضيف:"إن عباس يعترف بالدولة اليهودية كأمر واقع وحقيقة ناجزة لا ينوي الاعتراض عليها، بينما يتقبلها الحزب الشيوعي ويعترف بها كتعبير عادل عن مبدأ كوني تقدمي: حق الشعوب في تقرير المصير".

 ليس من اللائق الافتراض أن مؤرخاً بقامة بروفيسور يعقوبسون قد أعمته مواقفه الأيديولوجية عن رؤية الحقيقة التاريخية الساطعة أو أن يفوته، أن اعتراف الشيوعيين بحق شعبي هذه البلاد في تقرير المصير، له سياقه التاريخي والسياسي المعادي للإمبريالية، والرافض للصهيونية والرجعية العربية كونهما خدام الامبريالية والمؤتمرين بأوامرها، في الماضي كما في الحاضر.  إن هذا السياق ينقض في جوهره تصريحات منصور عباس والسياق الذي قيلت فيه، وينقض في المدى نفسه الفكر والممارسة الصهيونية السائدة في إسرائيل اليوم، والتي يتمسك بها يعقوبسون نفسه ويروّج لها.

إن موجات التصفيق التي حظي بها منصور عباس وتصريحاته و"نهجه" في دوائر الاجماع القومي الصهيوني، تشكّل مثلا حياً يشي كيف تحولت فكرة حل الدولتين – بمعنى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بجانب إسرائيل -  الى موضوع للتحريف والتشويه والتحايل والمناورات بهدف تدميره.  هناك في المؤسسة السياسية والأمنية والأكاديمية الإسرائيلية، من اختاروا "تبني" الحل السياسي- الذي حظي بإجماعٍ عالمي –وتفريغه من كل مضمون.  وكيف يتم لهم ذلك؟ إنه يتم بالتركيز على المطالبة بضمان "يهودية الدولة "، ليصبح ضمان "يهودية الدولة" مبرراً للتنكر للحقوق القومية للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وخلق واقع سياسي تتم في إطاره مطالبتهم بـ"شراء" حقوقهم المدنية أيضاً (التي يفترض أن تكون مفهومة ضمنا في أي دولة عصرية) بثمن خضوعهم السياسي والتخلي عن حقوقهم القومية المشروعة. هذا هو لُبّ "النهج الجديد".

بهذا الشكل تستحوذ قوى الرفض الاسرائيلية على مصطلح "الدولة اليهودية" الذي تضمنّه قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 (كواحدة من دولتين في فلسطين)، ليجعلوا منه عملياً لغمًا سياسيًا وعنصرياً.  فـ"الدولة اليهودية " في مفهومهم ليست مركّباً في حل سياسي يقوم على قيام دولتين ديمقراطيتين مستقلتين وذاتي سيادة (إسرائيل، مع أكثرية يهودية وأقلية قومية عربية كبيرة، وفلسطين)، وإنما يريدون هذا المصطلح وسيلة لتدمير أية فرصة تقود الى ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه القومية المشروعة ولحقه في تقرير المصير.

وبذلك فإن هذه القوى المتنفذة في الحكم في المؤسسة الإسرائيلية تعمل على إملاء مضامينها العنصرية التي تنطلق في تعاملها مع الجماهير العربية باعتبارها عبئاً على الديمقراطية، وباعتبار المواطنين العرب الفلسطينيين "تهديدا سكانياً" كامنا وخطرا استراتيجياً" داهماً، ويروجون الى طردهم ومصادرة حق المواطنة منهم في الدولة التي قامت على وطنهم. ولم يتورعوا عن التلهي بمشاريع الترانسفير على أنواعها، ومنها تلك المشاريع الداعية الى التخلص من عشرات ألوف المواطنين العرب في المثلث ووادي عارة، والتحريض على العرب "المتدفقين بالباصات الى صناديق الاقتراع" لمجرد ممارستهم لأبسط حقوقهم المدنية عبر عملية الانتخابات...

إن سلسلة من القوانين المدموغة بطابع نظام الفصل العنصري، الابارتهايد، قد جرى تشريعها في الكنيست على امتداد عقد ونصف من الزمن، وعلى رأسها قانون منع لم شمل العائلات العربية، وقانون القومية الذي يرفض الاعتراف بالحقوق القومية للأقلية القومية العربية الفلسطينية في إسرائيل، ويلغي مكانة اللغة العربية كلغة رسمية ثانية في الدولة.

لقد بات واضحاً أن الدولة اليهودية التي يعترف بها منصور عباس، ويحظى بتصفيق الاجماع القومي الصهيوني على اعترافه وايمانه بها، هي دولة تنطلق بقوة نحو نظام الأبارتهايد، دولة تعمّق الاحتلال، وتغذّي عنف المستوطنين وجيش الاحتلال بحق الفلسطينيين الآمنين في بيوتهم وأراضيهم الزراعية في الضفة الغربية والقدس، وعلى رأس هذه "الدولة اليهودية"، تتربع حكومات تطلق العنان لانفلات شوفيني عنصري عنيف ضد مواطني الدولة العرب عبر ارتكاب أبشع أشكال الإرهاب الرسمي بحق عرب النقب،  تمارسه وتحرض عليه أذرع الدولة الرسمية وأجهزة المؤسسة الصهيونية،  وعلى رأس هذه الحملة تقف بشكل مسعور وزيرة الداخلية اليمينية المتطرفة أييلت شاكيد.

إن الواجب التاريخي والتحدي الأبرز الذي ينتصب أمام جميع الديمقراطيين الحقيقيين في إسرائيل إزاء هذا الوضع، أن يناضلوا، يهود وعرباً، نضالا مشتركا يقود الى التعقل ولجم هذا الانفلات الرسمي، والى السير بثقة نح تحقيق الحل الذي حمله الشيوعيون تاريخيا وما زالوا يحملونه بفخر واعتزاز، لإنهاء الاحتلال وقيام فلسطين دولة مستقلة ذات سيادة الى جانب إسرائيل من أجل مستقبل الشعبين ومستقبل المنطقة. 

( نشر بالعبرية في صحيفة هآرتس 13.1.2022)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب