news-details

المعلومة بنت الميداح؛ "بيت ياسين" مرّة أخرى| رجاء بكريّة

 ليس بمذاق الغزل هذه المرّة، فزمن الغزل بيننا انتهى. بل بمذاق العسل، عسل الرّوح الّتي ترشح شوقا كلّما استزادت من دفء جدرانه، وديكورهِ. لهفتهِ وكلامهِ، فالبيت كلّه مشروع دفء عامر بالمذاقات. مذاق اللّهفة، ولسعُ النُّكتة. مذاق البسمة وسخاء الدّمعة وكثير كثير لحن، وصوت، وسفر وغناء. غناء النّوادر الّذي لا نجيد العثور عليه في أيّ بيت ولدى أيّ مُحاور. هاجس البحث العاشق في رأسه يلوّن حقول المخيّلة على نحو لن يتوقّعه ياسين عدنان نفسه، وربّما لأجل هذا لا أتوقّف عن تدوين يوميّات ذاكرتي كلّما تصافحنا أو اختلفنا عبر دهشة جديدة. فإلى جانب العدد الزّخم من الأصوات والكلمات، الوجوه والمؤلّفات تهاجم عالمك أصوات بالغة الإثارة، بالغة الغرابة. تستفزّ صحاريها القاحلة كلّ ما نسيته راقدا فيكَ، عازفا في أيّام كهذه حارّة قاتلة نهمة في استنزافكَ. وتتساءل على انتشاء، هل يمكن للصّحاري أن تلد كلّ هذا الخصب العجيب الّذي تفتّح في صوتها المعلومة بنت الميداح، لؤلؤة الصّحراء المالحة؟

قد أكون عبرتُ خلجات صوتها صدفة لكنّي حتما لم أتوقّف عندها كما فعلتُ ليلة حوارها الماتع في بيت ياسين. كنت أسمّيها اللّؤلؤة البرونزيّة، وسرّها أنّها كمصباح علاء الدّين السّحري، ففي كلّ تلميع خفيف لذاكرتها ينحسر دفء صوتها وبريّتهِ معا. فما يعجبك لديها ليس التساوق بقدر الاختلاف، ليس السّلام بقدر الاقتتال، ليست الألفة بقدر التّغريب، وليست مسارات الجداول بقدر تسلقات الجبال. كلّما لمّعْتَ زُجاجها بخِرقةِ لهفتِكَ فاجأتْكَ بسفَرِها. نعم هي امرأة لا تتوقّف عن السّفر في صوتها، هذا ما يعجبني في النّساء والأصوات، بريّتها، وغابويّة سلوكها الفنيّ الشّامخ الحرّ. وأنّها لا تخاف تبعات المغامرة في نزق الحالة الّتي تأخذها. اعتادت أن تغامر بحوّاسها كلّها العين والقلب، الأصابع والصّوت. ترسمُ لحظة شَغِفة لحالة التبعثر، وانتبهوا لا يمكن لأحد أن يلمّها غير صوتها.

 

هكذا تقول..

عَشِقنا، فيا ليلُ بُثَّ الخبَر| وبوحي نجومُ، وقُل يا قمَر

وإن يسألوا فلدينا وتَر| عشِقنا عشِقنا عشِقنا لأنّا بَشَر..

على ورق كربون سريّ تكتب كلماتها، بالأبيض والأسود. متشبّثة بلونها الإفريقيّ. تغنّي بالعربيّة لكن بلحنِ تُربتها السّوداء أو البرونزيّة. والغريب أنّها لا تجيدُ سلوكَ التّباهي ولو فعلت احمرّت ملابسها خجلا. ذات الورق الكربونيّ الّذي استعملناه ذات يوم لنسخِ وجوهنا وسرقةِ صوَرِنا المُستعارة تكتبه بوجه وجد واحد. لا يُعادُ أو يُستعاد لأنّه في كلّ مرّة صورة جديدة عن واقعها وتربة بلادها، تنشره ومضات بَرقٍ في صوتها، واختيار كلمات أغنياتها. لديها مفردات تخصّها لا تنحدر إلى الكلمات المستهلكة في الحبّ العابر، "عيونِك، وكتفك، وخصرك ونهدك". معجمها الغنائيّ راق تقطفه عن شجر الكرز العالي. دوما تساءلت كيف يكتبون الأغاني الّتي تضرِب" في رؤوس النّاس فاتّضح أنّها مفردات الغريزة والشّهوة، ومع هذا النّوع من (الضّرب) الغريزيّ تمتلك اللّغة نوعا آخر من (الضّرْب) نَبعُهُ رقيّ الرّوح، كمفرداتها. كأنّك في قطار عابر للمواسم، يَفتحُ لك نوافذهُ بحركة خفيّة ويُشنِّفُ أذنيك بحداءات بريّة لا تعرف كيف وصلت إليك. هذا النّوع من الأصوات، غالبا، خارج تقويم السّنة وأرقامها. لا أعني أنّه معاقَبا، بقدر ما هو معافى من السّطور المستقيمة، متماهيّا مع فوضى حواسّهِ ومدادهِ .

وإذا كنتُ أسوق هذا النّموذج الغنائي الفريد اليوم، فلكي أحدّد أنّ جماليّات الألوان الموسيقيّة كثيرة ومصادر فتنتها كذلك، وأنّها حتما تخضع لخيارات الفنّان ذاته. هو من يحدّد ماذا يجوز وماذا لا يجوز، وكيف يقدّم الحالة الاستثنائية لجمهورهِ. لقد عوّد الطّرب الشّرقيّ جمهوره على التّحديق مليّا بجسد المرأة ومفاتنها، إمعانا في شراهة التلقّي وليس مُتعتهِ. حتّى أنّنا نعثر على كلمات القضم والنّتش في كثير من أغاني المطربين. أصرّ على المطربين للتّمييز بين فعلِ الطّرب والغناء، وربّما لون الطّرب هو ما أوصلنا لحالة التسيّب العاطفي، والأغنية الشّوارعيّة السّائبة، الّتي يضرب الشبّان بعضهم بعضا بها حدّ إغلاق الشّوارع بحُمّى إيقاعاتها والتّلاحم بالأيدي إمعانا في إسعاف زئبق الانفعال، وحرارة اللّحظة. لا أميل إلى الجزم، ولكنّ ما أعرفهُ أنّ هذه الأنواع من الكلمات السّافرة في أغانينا، الّتي لا تُسمَع خارج الـ (فُل فوليوم) لا يمكن تصوّرها خارج حلقات الدّبكة والرّقص الفالت من عقاله، انفعالا وتسيّبا. كأنّ إثبات متعتنا تستدعي الصّراخ المبالغ به. هنا تماما، عند هذا المنعطف حدثت عمليّة التّخريب الممتاز للذّائقة الفنيّة الشّرقيّة ولدى جمهور كنّا نعوّل عليه، جيل الشّباب تحديدا. وهكذا بدلَ أن ندفع أسلوب استساغته للكلمة إلى الرقيّ شجّعناهُ على الامتلاء بغرائزه وحشدها بانفعالات شاذّة في طريقهِ إلى المتعة الكاذبة. وبدل أن ننتقي المفردة الرّوحيّة العالية لتهذيب فعل التلقّي، أخذ المغنّون دورنا كمجتمعات حريصة، ودشّنوا ألحانهم بالمفردات الجسديّة الفاضحة، الأمر الّذي أخرج فنّ الغناء الطربيّ في أحايين كثيرة من سياق الحضارة، فدعسنا عليهِ بدل أن ندفعه، وهزمناه بدل أن نحتفي به. طبعا لا يمكن أن نقارن بين كلاسيكيّات الفنّ العربي الّذي تأصّل عند جيل مؤسّسيه العريقين وبين ما يؤدّى ويُوزّع من هذر موسيقي انفعالي عند الجيل الجديد.

يحدث كلّ ذلك بوتيرة مُبرمجة، كأنّنا نؤسّس لمشروع هزيمتنا الثّانية في حضارتنا الفنيّة بعد أن أثبتنا على الخارطة أنّنا خارج التّاريخ وخطوط الجغرافيا.

لقد خرج صوت معلومة بنت المديح في جولتهِ الغنائيّة كي يذكّر الضّمير الحضاري وذاكرته الاستثنائيّة أنّ مدارس الغناء وحضارتها ليست بعيدة عن ثقافتنا الرّوحيّة الّتي عزلناها بفنّ عن غرائزنا وتركناها حبيسة تراجعها.

ولا بدّ لي وأنا أستعيد حنجرة بنت المديح الرّخيمة العالية أن أستذكر بعض الأسماء الغنائيّة الّتي هبَشَت من تقنيّاتها بصمت بالغ، على اعتبار أنّها ابتكارها الذّاتي والنّوعي في تفتيح الصّوت. إنّ التّناغم والتّصادم الفوضوي بين النّبرات العالية والمنخفضة لدى فنّانين في الدّاخل الفلسطيني قد أفادت من تجربة هذا الصّوت الأصيل المتواضع على نحو فاتن. هكذا نصنّعُ الاختلاف من مصادرهِ الأوّليّة، التّلقائيّة الخام، ونصبغ نوتات الوقت بالمتعة. راقني أن أضمّ عالما إلى عوالمي زخِما فِطريّا، يدَوزِنُ النّغم على وترِ النّشوة..

10 سبتمبر، 020، حيفا

  

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب