من المفارقات غير المحسوبة أنني دعيت لتقديم محاضرة تحت عنوان "محطات تاريخية في حياة الحركة الشيوعية في البلاد ابتداء من أواسط أربعينيات القرن الماضي"، وجاءت هذه الدعوة في إطار دورة تنظمها لجنة التثقيف الفكري والسياسي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي التي يتم تنظيمها في هذه الأسابيع، وقد تبين أن المحاضرة عيّنت ليوم الأربعاء 15 حزيران قبل يومين، وقد رأيت في ذلك مبررا وفرصة لا تفوت لانطلاق المحاضرة من استعراض المواقف والمنطلقات الموجهة التي صاغها المؤتمر الأول لعصبة التحرر الوطني الذي انعقد قبل 75 عامًا بالتمام في 15 حزيران 1947، وتحديد التميّز الجوهري في موقف عصبة التحرر الوطني في فلسطين، وفي منطلقات الحركة الشيوعية في فلسطين التي شملت الحزب الشيوعي الفلسطيني منذ العام 1919 وعصبة التحرر الوطني منذ العام 1943، ودورهما في تحديد طبيعة وجوهر الصراع الدائر في فلسطين باعتبار هذا الجوهر المتميز عن سائر الطروحات المبنية على الفكر القومي، ما زال ماثلا يصنع الفرق في التعامل مع القضية الفلسطينية وفي تحديد جوهر الصراع اليوم أيضا، مع كل التقلبات والتطورات التي جرت، وهو ما يفرض السؤال التاريخي: هل الصراع في فلسطين وعليها، كان وما يزال، صراعا قوميًا بين اليهود والعرب كما تطرح الحركة الصهيونية والقوى الامبريالية الداعمة لها، وتعتاش عليه الرجعية اليهودية الصهيونية والرجعية العربية التابعة سواء بسواء لإخفاء دورها والتستر على طبيعة هذا الدور في خدمة مشاريع الامبريالية والاستعمار؟ أم أنه صراع يعبر عن التناقض الموضوعي بين مصالح جماهير الشعب الفلسطيني والجماهير الشعبية اليهودية من جهة مع الامبريالية وعميلتيّها الصهيونية والرجعية العربية؟
//صراع اليهود والعرب أم صراع مع الامبريالية وعميلتها الصهيونية يشكل الصراع القومي الدموي أداته الرئيسية؟
عرضت كل من الامبريالية البريطانية والأمريكية من جهة، والصهيونية من الجهة الأخرى الصراع في فلسطين على أنه صراع اليهود والعرب، بكونهما يهود وعرباً، بينما عرضه الشيوعيون العرب واليهود، على أنه صراع ضد الامبريالية وعميلتها الصهيونية، ومن هنا فإن القضية الفلسطينية هي معركة تحرر وطني، وأنه في سبيل منع تحرر فلسطين من الاستعمار البريطاني لجأت الامبريالية الى تجنيد عملائها في قيادة الحركة الصهيونية، وفي النظام العربي الرسمي وجامعة الدول العربية وأذرعها المحلية، لخدمة أهدافها في تفجّير الاحتراب الدموي بين اليهود والعرب بهدف الحفاظ على الحضور الامبريالي، وعرقلة استقلال البلاد وتحررها من هيمنتها بشكل منهجي.
وبدلا من توجيه الاتهام الى الاستعمار البريطاني لفلسطين والامبريالية الامريكية باعتبارهما مصدر المشكلة والقوة التي خلقت الظروف لنكبة الشعب الفلسطيني وجرائم الصهيونية بحقه، يتم عرض الاستعمار باعتباره الحل الوحيد للمشكلة والطرف "الضروري" لوقف الصدام القومي الدموي في فلسطين مما يستدعي الحفاظ على بقائه فيها.
//في مؤتمر لندن للأحزاب الشيوعية إميل توما حدد جوهر المسألة الفلسطينية !
وكان إميل توما أحد أبرز قادة عصبة التحرر الوطني قد صاغ موقف العصبة في محاضرة قدمها في مؤتمر الأحزاب الشيوعية في دول الكومونولث عقد في لندن في شباط 1947 ممثلا عن عصبة التحرر الوطني، عرض فيها مفهوم العصبة بشأن مستقبل فلسطين السياسي بوضوح، وهو المفهوم الذي انعكس في أبحاث المؤتمر الأول للعصبة وصبغ قراراته ونداءاته وأوراقه. بناء على الأسس التي شدد عليها إميل توما في مؤتمر الأحزاب الشيوعية المذكور:
//نداءات عن مؤتمر عصبة التحرر الوطني الاول
حددت النداءات الثي صدرت عن المؤتمر الأول لعصبة التحرر الوطني في حزيران 1947 بدقة الوجهة الفكرية للتمييز بين التعريف الصهيوني والامبريالي للصراع وبين التعريف التقدمي والمفهوم الثوري والأممي كما حددته عصبة التحرر الوطني في مؤتمرها للتعامل مع الصراع . إن هذا التمييز، وبرغم تبدل الظروف والمعطيات، ما يزال من حيث جوهره صحيحا اليوم أيضا على أساس الركائز المبدئية التالية:
وتحذر العصبة من المؤامرات الاستعمارية الصهيونية التي تهدف الى تقسيم فلسطين أو لجعلها معسكرًا مسلحًا للتدخل البريطاني والاميركي في البلاد العربية، هذه المؤامرات التي تستهدف تحويل النضال الوطني في فلسطين إلى نضال عنصري وإلى احتراب داخلي.
عصبة التحرر الوطني تدعو الحركة الوطنية في فلسطين الى الحذر والتنبه من كل محاولة استعمارية تهدف الى إرجاع قضيتنا الوطنية داخل الطوق الاستعماري وترى العصبة ضرورة استمرار النضال في المجال العالمي من أجل تحقيق الأهداف الوطنية.
ويحيي المؤتمر أحزابها الوطنية التي تقود النضال الوطني فيها.
وبهذا فإن المؤتمر بقراراته يبرز دور عصبة التحرر الوطني في فلسطين، ليس كحزب ثوري ووطني محلي فقط، بل باعتباره جزءً من جبهة إقليمية وعالمية معادية للاستعمار وذيوله والقوى التابعة له، وجزءا من حركة ثورية عالمية، وحركة شيوعية .
//ما العمل!
وفي معرض تحديد أدواته الملحة دعا المؤتمر إلى: تجنيد جميع القوى الوطنية في النضال ضد الاستعمار، وإحباط المؤامرات الاستعمارية وإضعاف قوى الاستعمار وأعوانه، وإفساح المجال أمام القوى التقدمية ما بين الجماهير اليهودية للاشتراك في النضال ضد الاستعمار وضد الصهيونية وفي سبيل الجلاء والاستقلال والحل الديمقراطي.
ولم تتخل العصبة عن الدعوة الى المحافظة على سياسة الحزب المستقلة في العمل الوطني وعدم سيره في ذيل الحركة الوطنية، والى تقوية جذوره ما بين الجماهير وتمكينه من القيام بدوره التوجيهي في الحركة الوطنية والقضاء على الانحرافات اليسارية واليمينية في الحزب، والمساعدة على بقاء قضية فلسطين خارج الطوق الاستعماري وإكسابها تأييد القوى الديمقراطية في العالم. باعتبار ذلك هو السبيل للتحرر وإلغاء الانتداب، وإنشاء حكومة ديمقراطية تحفظ حقوق جميع المواطنين.
ودعت العصبة من مؤتمرها الى التعاون مع جميع القوى الوطنية المناضلة ضد الاستعمار من أجل تحقيق سياسة الحزب الوطنية، والى النضال ضد الاستعمار وجميع التيارات التي تساعد على بقاء سيطرته وتنفيذ مشاريعه التي تتعارض مع حرية فلسطين واستقلالها. وأكدت على النضال ضد الاتجاهات الرجعية في الحركة الوطنية التي من شأنها أن تفقد الحركة الوطنية صفتها التحررية والتي من شأنها تثبيت سيطرة الاستعمار وتفقدها أصدقاءها في العالم . وأكدت عل أن النضال الوطني التقدمي مرتبط بالضرورة بالنضال في سبيل ديمقراطية الحركة الوطنية، هذه الديمقراطية التي تقوي النضال الوطني ضد الاستعمار وارتباط ذلك كله بالنضال في سبيل تحقيق مطالب الجماهير اليومية.
إضافة تعقيب