news-details

لغة المجتمع الرمزية| إبراهيم أبو عواد

  تُمثِّل البُنى الاجتماعيةُ فلسفةَ التحولات الإنسانية على الصعيدَيْن الفردي والجَمَاعي. وكُل تحوُّل في شُعور الإنسان سينعكس على طبيعة العلاقات الماديَّة التي تربط بين المعنى والوَعْي في المجتمع، لأن الشعور سابق على المادَّة، وصناعة الإنسان هي الخُطوة الأُولى في طريق صناعة المجتمع. وفي ظِل هذه التشابكات المعرفية، تَظهر أهميةُ اللغة باعتبارها منظومةً وجوديةً رمزيةً تَجْمَع بين المعنى والوَعْي، وتُعيد صِياغةَ الإدراكِ الحِسِّي والتَّصَوُّرِ الذهني وماهِيَّةِ الروابط الاجتماعية. وإعادةُ الصِّياغة تعني تكوينَ تاريخ اجتماعي يُولَد باستمرار، ولا يتوقَّف عن الحركة، فالتَّوَقُّف قتلٌ للمواهب الإبداعية، والجُمود تَحطيمٌ للأنظمة الفكرية في المجتمع. والحركةُ المستمرة هي الضَّمانة الأساسية لعدم سُقوط الظواهر الثقافية والأنظمة الفكرية في الفراغ والعَدَم. وكُل حركة في المنظومة الاجتماعية، سواءٌ كانت أُفقيةً (تتعلَّق بالهُوِيَّات المكْتَسَبَة إراديًّا) أَمْ عموديةً (تتعلَّق بالهُوِيَّات المتَوَارَثَة لاإراديًّا)، تعني تَوليدًا مُتواصلًا للطاقة الرمزية في المجتمع واللغة معًا. والمجتمعُ هو لُغة واقعية، واللغةُ هي مُجتمع حَالِم. واللغةُ وَحْدَها هي القادرةُ على حَمْلِ الرموز المنبعثة من شُعور الإنسان بذاته ومُحيطه، وبناءِ التفسيرات الحقيقية والتأويلات المجَازية للأنا والآخَر، وصناعةِ التجارب الروحية والمادية في جسد الإنسان وجسد المجتمع، وتكوينِ الظواهر المعرفية المُتجانسة، ودَمْجِها معَ العناصر الفكرية المتمركزة في جَوهر البناء الاجتماعي.

     وأهميةُ الطاقة الرمزية في اللغة تتجلَّى في قُدرتها على قراءة ما بين السُّطور. والإشكاليةُ المركزية في الوجود الاجتماعي هي أنَّ الإنسان يَقْضِي حياته لاهثًا وراء الأشياء الاستهلاكية، ويَنسَى أن يَعيش. ومعَ مُرور الوقت، يُصبح الإنسانُ شيئًا مِن الأشياء، وتُصبح مشاعرُه تكريسًا لضياعِ ذاته الوجودية، وغيابِ صَوته الاجتماعي الفاعل، وانكسارِ هُويته المميَّزة بين الثوابت والمتغيِّرات.

     والحياةُ الرمزيةُ للإنسان لَيست الفترةَ الزمنية الممتدة مِن ولادته إلى وفاته، وإنما هي الفترةَ الوِجدانية الممتدة مِن حُلْمه إلى جَوهره. والطبيعةُ الإشراقيةُ للمعنى الإنساني وجَدوى وُجوده، لَيست التفاصيلَ التي يَحْياها الإنسانُ في داخل المجتمع، وإنما هي التفاصيل التي يَحْياها في داخل نَفْسِه. وكُلَّما تَعَمَّقَ الإنسانُ في فَهْم نَفْسِه، وإدراكِ أبعادها الداخلية، استطاعَ إعادة تركيب نظام المشاعر الكامن في أعماقه، وتَوظيفه من أجل فَهْم أسرار ذاته المتوارية وراء الأقنعة والاستعارات والتشبيهات والتأويلات، أي ان الإنسان مُطَالَب بإيجاد صَوته الخاص خارج سُلطة الصَّدى، والعُثورِ على وَجْهه الحقيقي خارج نُفُوذ مَرايا المجتمع المتعاكسة.

     وهذه العمليةُ المهمَّة تُتيح للإنسان فُرصة الانتقال مِن أسرار ذاته إلى أسرار العلاقات الاجتماعية، وتحليل طبيعتها غَير المرئية، والانتقال مِن جسد اللغة إلى تجسيدها على أرض الواقع، وُجودًا ونظامًا وخِطَابًا ومَفهومًا ومَنطوقًا وإلهامًا وإشراقًا ولَفْظًا ومَعْنى. لذلك، تَخرج اللغةُ _ في كثير من الأحيان _ مِن حَيِّز الوسيلة (وسيلة الخِطَاب والتواصل) إلى فضاء الغاية، وتُصبح اللغةُ غايةً مُكتملةً، وهدفًا قائمًا بذاته، وسُلطةً مُكتفية بكِيانها، وزمانًا عابرًا للتناقضات الاجتماعية، ومكانًا حاضنًا للأحلام الإنسانية.

     والمجتمعُ المالكُ لِصَوْته، والمتحرِّرُ مِن الصَّدى، والحاضنُ لرموز اللغة، قادرٌ على تحويلِ الوسيلة إلى غاية، وتَقَمُّصِ الأشكال المعرفية المختلفة، لأن الرمز كالماء يأخذ شكلَ الإناء الذي يُوضَع فيه. وكُلَّما سافرَ الإنسانُ إلى اللغة وَجَدَ نَفْسَه فِيها، وَوَجَدَ كِيانَه في كَينونة المجتمع، مِمَّا يُشير إلى أنَّ اللغة هي هُوِيَّة الإنسان الوجودية، وشَرعيته الوِجدانية، وسِلاحه الرمزي.

     والجديرُ بالذِّكْر أنَّ منطق اللغة الرمزي لا يتحدَّد وَفْقَ الكلام الذي يَقُوله الإنسانُ، وإنما يتحدَّد وَفْقَ الكلام الذي يَخاف أن يَقُوله الإنسانُ. وهذا يَكشف المسؤوليةَ الجسيمة الملقاة على عَاتِق اللغة، حيث إنَّها مُطَالَبَة بتفكيك العُقَد النَّفْسية في الإنسان، وتحريره مِن الخَوف، لأن الخائف عاجز عن الإبداع، وفَكِّ شِيفرة التحولات الاجتماعية، ورَبْطِها بالرموز الحاملة لتاريخ الإنسان وأفكاره وذِكرياته وعواطفه وأحلامه وطُموحاته، مِن أجل التفريق بين الخيال والحقيقة. وإذا نجحت اللغةُ في تحمُّل هذه المسؤولية، وأدَّت وظيفتها على أكمل وجه، فإنَّها سَتَحْمي الإنسانَ مِن نَفْسِه، وتَمنع عمليةَ هُروبه مِن الواقع إلى الخيال، لأن الخيال موجود لتغيير الواقع، ولَيس الهُروب مِنه.

 

(الأردن)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب