news-details

لفّتَك وما لَفَّتَك !

مرة أخرى نجد أنفسنا أمام سيل من خلط الاوراق في السياسة العربية في اسرائيل، والتفنن في التوطئة لأفكار بات من المحرج لأصحابها تمريرها والمجاهرة بها، مما يقتضي التحايل لتسريبها، في ظل انزياح أحزاب مؤسسة الحكم في اسرائيل بما فيها حزب كحول لفان نحو اليمين ومجاراة اليمين الفاشي المتطرف في انفلاته العنصري المقيت ونزع الشرعية عن الجماهير العربية في اسرائيل وشيطنة كل من يمثلها وكل ما يمثل طموحاتها،والتنكر لحقها في المشاركة السياسية.

إن التأثير الحقيقي للمعركة الانتخابية الثالثة على التوالي خلال العام المنصرم ليس محصورا فيما تفرزه وتسفر عنه نتائج الانتخابات، ولا مقصورا على النوايا والتمنيات المتخيلة التي يرغب البعض في إلصاقها بحزب كحول لفان وزعيمه غانتس، وانما التأثير الأكبر هو في عملية كيّ الوعي التي ترافق العملية الانتخابية الجارية،بكونها عملية سياسية وصيرورة فكرية، وخلق مناخ سياسي موتور ومقولات عنصرية تبقى هي السائدة بعد أن تنتهي الانتخابات وبعد ان تذرو نتائجها الرياح.

إن هذه العملية الجارية نحو انتخابات آذار وخطاب الإجماع العنصري سرعان ما تنتجمسلّمات جديدة نافية للأقلية القومية العربية في اسرائيل ونافية لحقها في التأثير على شكل الحكم في اسرائيل، ونافية لحقها في صياغة مواقفها السياسية الحزبية والجمعية الخارجة عن الاجماع القومي الصهيوني،والخارجة عليه والمناهضة له والبديلة عنه، في كل القضايا المطروحة للحسم.

ومن بين هذه القضايا الجوهرية حق المواطنين العرب في اسرائيل في المواطنة من دون الانتقاص من انتمائهم الى شعبهم،وحقهم في الوقت نفسه بالانتماء الى شعبهممن دون الانتقاص من مواطنتهم.

ومن بين هذه القضاياحقهمالذي لا يتزعزع في دعم معركة شعبهم الفلسطيني من أجل التحرر من الاحتلال الاسرائيلي والاستقلال، وفي رفض صفقة القرن ومشاريع الضم والنضال لإسقاطها، وفي رفض العدوان الاسرائيلي وتهديدات الحرب على شعوب المنطقة برعاية أمريكية.

إن التزام المواطنين العرب الفلسطينيينبهذه القضايا السياسية الكبرى ليس تطفّلا على قضايا خارج مجال مصالحهم، وليس تدخّلا فيما لا يعنيهم.. فالمواطنون العرب في اسرائيل هم أكثر المعنيين بحل هذه القضايا على أساس القانون الدولي والشرعية الدولية والقيم الانسانية المتعارف عليها. ان سنوات الانحدار الفاشي التي نواجه تبعاتها في اسرائيل في هذه المرحلة، تثبت بما لا يقبل الشك وأكثر من اي وقت مضى، أنه كلما تعمق العدوان على الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه القومية المشروعة، تعمق أكثر التنكر لحقوق الاقلية القومية العربية المواطنة في اسرائيل واستشرى نزع الشرعية عنها والتحريض عليها والتمييز العنصري ضدها، وكلما تعمق التحريض الدموي على الشعب الفلسطيني وتعمق حصاره وقهره وتجويعه، كلما تآكلت بقايا الديمقراطية والقيم الليبرالية في اسرائيل، واتسعت قاعدة القوانين الفاشية للنيل من حقنا في المساواة القومية والمدنية وحقنا في التأثير والعيش فوق ارضنا بكرامة والعكس صحيح.

إن الموقف من الأطراف المرشحة للحكم في اسرائيل بعد الانتخابات، يجب ان يستند الى تحليل مواقفهم خلال العملية السياسية الجارية الآن–في المعركة الانتخابية،  كما أن الموقف من  حزب كحول لفان ورئيسه غانتس، يجب تحديده على أساس موقفه من العملية الفاشية المتسارعة في الحكم في اسرائيل، وعلى أساس مواقف غانتس من صفقة القرن، ومن ضم غور الاردن وضم الاراضي الفلسطينية الأخرى، ومن فرض السيادة الاسرائيلية على المستوطنات في المناطق الفلسطينية، وليس على أساس الاوهام المعلّقة عليه بعد الانتخابات. والتي يجري الترويج بشكل مكثف لها في الأيام الأخيرة.

وإذا كانت نباهة بعض المحللين السياسيين تجعلهم أكثر حذرا في هذه الايام، مما فعلوا في السابق حين دعوا الى التزام القائمة المشتركة بـ"التحالف" مع كحول لفان بعد الانتخابات، فإن بعض هؤلاء المحللّين باتوا يفضلون الآن أن يدفعوا ضريبة كلامية بمهاجمة الجنرال غانتس ودوره العسكري بداية، لتتحول بعد ذلك  الى تبرير للتوصية عليه وتوطئة للدعوة الى "التحالف" معه بعد الانتخابات. 

 

منطق واحد يربط بين الترويج "للتحالف" مع غانتس

ومطلب مسايرة "مصالح الانظمة الرجعية العربية"!

كان برنامج "بانوراما" الحواري الذي أطلقته فضائية "مساواة" الاسبوع الماضي وعلى خلاف ما كان معدو البرنامج قد رتبوه معي مسبقا،  قد جمعني مع عدد من المحللين في مقابلات منفصلة على التتالي. وشكّل البرنامج فرصة للاطلاع على توجهات لافتة طرحها الصحافي والمحلل السياسي نظير مجلي. وقد جمعت مداخلاته بين ما بدا على انه ضريبة كلامية حول دموية بيني غانتس الجنرال وزعيم حزب كحول لفان من جهة، وبين الدعوة الى التحالف مع غانتس بعد الانتخابات من جهة أخرى، تبعتها الدعوة الى مسايرة مصالح الانظمة (الرجعية) العربية إذا كان لحقوق الشعب الفلسطيني أن تتحقق ولدولته ان تقوم. إن متابعة الخيط الناظم لمنطق هذا التحليل يستوقفنا عند عدد من المفاصل:

يقول مجلي: "علينا أن نتذكر أن غانتس هو ليس رغبتنا، وهو ليس خيارنا. غانتس يمثل الجيش الاسرائيلي بكل جرائمه وممارساته البشعة"، ثم ينتقل الى الفكرة التالية: "هو يمين عمليا ولكنه ليبيرالي، هو أفضل من نتنياهو، وربما يحسب حسابات معقولة أكثر للتقدم في الشأن الفلسطيني، وخصوصاً أنه يريد أن يفعل ذلك جنبا الى جنب مع الشعب الفلسطيني، بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية الشرعية، وكذلك مع بعض الدول العربية، يبقى أهون قليلا، ولكن طبعا، نحن نتحدث عن كليهما، يوجد بينهما مصالح مشتركة، ويوجد بيننا وبين قسم منهم مصالح مشتركة".. ويضيف مجلي: "غانتس مثلا يقبل صفقة القرن ويرحب بها، وقد دعا الى المصادقة عليها في الكنيست الحالية، ولكنه أراد ذلك لكي يحرج اليمين لكي يوافق على دولة فلسطينية، مقزّمة، مخنوقة... ولكن يتحدثون عن دولة فلسطينية"..  ويضيف الاستاذ نظير مجلي في مرحلة لاحقة: "عندك الآن انتخابات.. نحن لا نصوت لغانتس لما يمثله، بينما الجمهور الاسرائيلي يصوت له.. وأنا أفضل أن يصوت الجمهور الاسرائيلي له، لأنه يقول إنه سيقوم بضم المناطق الفلسطينية المحتلة من خلال التفاوض مع القيادة الفلسطينية.. طبعا القيادة الفلسطينية لن تقبل، وهذا ممكن أن يكون في مرحلة معينة حليفا لنا، حليفا لمرحلة التقدم نحو الحل، وهذه معركة صعبة".. وأضاف مجلي: "ليس سهلا على السياسيين العرب ان يشتغلوا في هذا المجال، ولذلك يفضلون ان يديروا ظهورهم.. ولكنني أعتقد: "ان هذا مجال عمل ضروري، ولجنة التواصل في منظمة التحرير الفلسطينية تتقدم كثيرا في هذا المجال، والقيادة العربية في اسرائيل في القائمة المشتركة من خلال حواراتها مع الاحزاب اليهودية تتقدم كثيرا في هذا المجال..".

لقد أعاد هذا الخليط من المواقف الى ذهني فكرة "لفّتك وما لفتّك".. لقد كنا في طفولتنا، إذا أردنا أن نتبارى في إرباك أترابنا نلجأ الى لعبة تقوم على الرشاقة وخفّة اليد، فيدير أحدنا وجهه الى الحائط مغمض العينين، ويتجمع الآخرون من خلفه، ويقوم أحدهم يلكزه برشاقة، فيستدير الى أترابه ويكون عليه أن يكتشف بحدسه وفراسته من الذي لكزه ليتبادل الدور معه.. كان المبدأ الناظم لهذه اللعبة يتلخص في أمرين: رشاقة اليد من جهة والقدرة على تضييع الطاسة وخلق الوهم والإيحاء بما هو مغاير لما حدث في الحقيقة من الجهة الاخرى.

إن الفارق بين حيرتنا كأطفال، وإرباك وعينا كشعب، يكمن في أن شعبنا لا يملك رفاهية ان يدير وجهه الى الحائط وأن يغمض عينيه في وقت يتكاثر من ورائه لصوص صفقة القرن وقانون القومية وأقطاب التحريض على وجوده وعلى شرعيته.

 

قطع غانتس قول كلّ خطيب!

كان واضحا لي الى أين يقود تحليل السيد نظير مجلي والى أية استنتاجات يدفع، مشيرا الى أن "الساحة السياسية الأخرى الحيوية هي العالم العربي"، وهو كما يشي السياق، لا يعني تحشيد الشعوب العربية للضغط على أنظمة التبعية والتطبيع التي تحكمها لمنعها من التورط في قبول الصفقة ولعب دور فيها، بل يعني ساحة أنظمتها الرسمية فيقول: "علينا عدم الاستهتار بالعالم العربي والقيادات العربية، علينا أن ننتبه كيف ندير مصالحها مع مصالحنا.. كيف نقرّب مصلحتنا نحن وهي.. أما قضية الشتائم، والحديث القديم عن الرجعية العربية فلا يفيدنا.. إن ما يفيدنا هو أن ندخل في حوار مع الامة العربية.. مع القيادات العربية حتى نصل الى قرار مثل الجامعة العربية.. والمؤتمر الاسلامي.. فهذه ساحات ضرورية للتعامل والعمل الذكي والحكيم.. وليس إدارة الظهر لها".. 

والحقيقة أن جهيزة قد قطعت مرة أخرى قول كل خطيب!  وتصريحات عانتس الأخيرة والقاطعة برفضه تشكيل حكومة "مع العرب" أو حتى  حكومة تعتمد على تأييد ممثلي القائمة المشتركة من خارج الائتلاف، وتأكيده أنه "سيقيم حكومة يهودية وصهيونية شرعية"،  قد سحبت الارض من تحت أقدام بعض المحللين، وأثبتت أن "بيضة القبان" لا تصلح لتكون استراتيجية لـ"إرادة شعب" في كل الحالات.

صحيح أن نتنياهو لديه رغبة جامحة في أن يستغل صفقة القرن باعتبارها إنجازا تاريخيا، وفرصة تاريخية، في معركته الانتخابية.. لكن غانتس أيضا يستعمل تأييده لصفقة القرن والتزامه بها، ليقول انه لا يقل عن نتنياهو تمسكا بالاحتلال والاستيطان والضم، وليس أقل جاهزية منه لإشعال الحرب والعدوان وسفك الدماء.. إن دورنا أن نطرح بديلا للإجماع القومي العنصري في اسرائيل وأن نعمق تناقضاته وأزمته. فتعويلنا على إسقاط صفقة القرن لا يعتمد على المفاضلة بين غانتس ونتنياهو، وإنما على موقف الشعب الفلسطيني الصامد فوق أرضه والرافض بشكل قاطع لصفقة القرن، والمصمم على صقل آليات المقاومة الشعبية وتفجير طاقاتها في وجه الصفقة وأطرافها، وعلى تحشيد الدعم الشعبي عالميا وعربيا وحتى داخل اسرائيل من أجل إسقاط المؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب