news-details

محمد نفاع المدرسة والدروس| غالب سيف

حزننا سيبقى عميقًا على فراق رفيقنا الكبير والشهم محمد نفاع، إلا أن الحياة وحاجاتها تقضي بوجوب النهوض ومتابعة السير والمسيرة التي كان هو من روادها وقائديها البارزين والمُميزين.

 وقبل الخوض بتفاصيل عنوان هذه المداخلة، أريد أن أسجل فخري الكبير واعتزازي العارم أني تشرّفت بأن أكون أحد التلامذة والرفاق والمقربين من قائدنا الفذ العظيم أبو هشام،  الماركسي – اللينيني في العرف العقائدي الأيديولوجي، والانسان الانسان والأممي الأصيل بالعرف العمومي الإنساني، والأديب المبدع الخلاق بالعرف الإبداعي والأدبي، والكريم المعطاء ورجل المواقف والمناضل الثابت الجلمود بالعرف السلوكي، والذي آمن بكل قناعاته الثابتة والراسخة والناضجة بقِيَم الحرية والعدالة والمساواة والسلام والحق والحقوق والوصول إلى الحقيقة، نظريًا وممارسة، قِيَم عمل كل حياته على تحقيقها وعلى كل المستويات، خاصة بما يخص شعبنا الفلسطيني البطل والمظلوم، إذ كرس أبو هشام كل ما عنده من طاقات وقدرات ضد قوى الاستغلال والظلم والحروب والتدمير والقتل الذي عملته وما زالت الرأسمالية، التي قتلت مئات الملايين  من البشر واحتلت ودمرت عشرات الدول وشعوبها وعبثت ودمرت ونهبت خيرات البشرية ودمرت البيئة وتسببت بالكوارث والحالات التي تعبث بالناس وبحياتهم.

سيرة وصيرورة وارث أحد عمالقة الدهر هذا، والذي تحول بفعلهم إلى حبيب شعبه وأمّته وطبقته الكادحة، حظيت بالكثير من الاهتمام وكُتِب الكثير عنها وسيكتب أكثر. يكفي أن نشير إلى بعض ما قيل وكتب عنه فيها، للدلالة على مكانته العالية وصفاته الحميدة الشريفة: الرمز، البوصلة، الأديب، القائد، المفكر، المُبدع، الوطني، المناضل، الشيوعي، الأممي، الانسان النقي المُمرشق من كل شائبة، الشجاع، المقدام، الشهم، قمة الوعي والمسؤولية، المعطاء، الكريم، الشموخ، المتواضع، المتفاني، عنوان الكرامة، المتواضع .. و .. و .. و ..، وكل ما يخطر ولا يخطر على البال من أقوال ومقولات مُفعمة بالمحبة والتقدير وتعكس عمليًا منسوب الشرف والاستقامة والنقاء والصفاء وخفة الظل وعمق وشمولية الرؤية التي كان أبو هشام يتحلى بها.

جمع أبو هشام في هذه السيرة رِفعَة المقام وتعقيدات المهام ونقاوة الصفات وغزارة الطاقات في شخصه وأدائه ومراتبه، مراتب رفيعة ومسؤوليات عالية  لم يسع إلى تسنمها  بقصد سوى خدمة للهدف العقائدي النافع للمظلومين، وليس للحصول على سلطة ولا على جاه ولا على مال ولا على أي مكسب مادي أو معنوي من أي نوع، كما يسعى الكثير من ضعفاء النفوس لتحصيله، ويكفي أن يعرف القارئ تفصيلًا يبدو وكأنه لا ذات شأن، ولكنه في الحقيقة هام جدًا، على المستوى الخاص والعام، اذ أن أبا هشام رفض بإباء ورغم القلة المادية التي واكبت حياته، أن يتقاضى أي مليم واحد مقابل ربما آلاف المحاضرات التي ألقاها تبرعًا لمئات الآلاف من طلاب مدارسنا، حتى السفريات لهذه المحاضرات مولها من جيبه، لذلك نستطيع أن نُسجل أن كل سيرته وصيرورته وظفهما لتكونا جزءًا عضويًا وفعالاً لصالح المنظومة الفكرية والتنظيمية الماركسية اللينينية الشيوعية الحزبية التي اقتنع بها، معتبرها الآلية لتحقيق القيم والأهداف السامية المذكورة أعلاه والتي فيها، وبتحصيلها يتحقّق بالفعل الأمن والأمان والضمان للجميع وخاصة المحرومين والمظلومين من الكادحين العمال والفلاحين والشعوب المحرومة والمظلومة، خاصة شعبنا الفلسطيني، فعمل راحلنا الشهم كل شيء لتتحول هذه المنظومة إلى نظام عادل وآمن، يفضح ويستبدل نظام الظلم الرأسمالي.

أبو هشام يا مُحمّد، يا ابن الحسين، ويا نَفّاع، يا ما شاء الله يا رفيق كم رائع وقع هذه التسمية وكم "تشدنا إلى الجذور التي ارتفعت اليها لتسمو .." بالضبط كما كتبت. أبو هشام يا أيها الـ "زابودي" حتى النخاع، وللذين لا يعرفون ماذا تعني الزابود، فأرض الزابود المحاذية لأعلى قمم جبل الجرمق، أعلى جبال بلادنا فلسطين، بموقعها وخيرها والنضالات والمعارك التي دارت حولها، ما بين أهلنا الغالين في بيت جن وسلطات النهب الإسرائيلية المعتدية عليهم وعليها، مما حولها إلى رمز وأيقونة كفاحية نضالية لكل عربي فلسطيني يعشق ويتفانى من أجل أرضه ووطنه أينما وكيفما كان، وكما أبو هشام.

جانب آخر يُضيئ على راحلنا البيت جناوي عشقه الجارف، وبالفعل كلمة عشق لبلده ليست كلمة لو دققنا كم كانت تلهمه ويحبها، بلده ومسقط رأسه العالية الموقف (الزابودي) والموقع (الجرمقي)، أعطاها أبو هشام بما كتبه عنها وفيها كل المحبة والعزة والتوثيق وحرك بذلك محبة كل من قرأ أدبياته لها، والله يطعم كل بلد كما أطعم بيت جن بأبي هشام، كأنك وأنت تقرأ كتاباته عنها تشعر وكأنه يتمرمغ في حبها وعشقها كما تتمرمغ القُبرة في تراب الحقل الذي تعيش فيه، منحها بسخائه الحاتمي الفلاحي الأصيل القسط الكبير والوافي من التوثيق والتوصيف والسرد لحكاياتها الشعبية الأصيلة من ما لذ وطاب وربما بما هو ألذ من عنبها المشهور، أُقسم أنه من الصعب أن تجد مثيلًا لهذا العطاء النفاعي الذي أعطاه راحلنا لهذا البلد الفلسطيني الطيب.

 حوّل انتاجه الأدبي الفاخر والساحر والشهيّ كخبز الصاج الناضج المحمر، إلى أغان وأشعار وقصص وحكايات وحالات كأنها السحر بحاله وبفعلها تحولت بيت جن إلى الياذة محلية معشوقة، وبالتالي تحوّلت جبالها ووديانها وأهلها وحقوقها وأرضها التي صادرت إسرائيل منها 87,5% (أعلى نسبة مصادرة في كل مجتمعنا العربي)، إلى أغنية وتغريدة وصدحة شحرورة لشعب بكامله، لشعبنا الفلسطيني - شعب الجبارين، بفلاحيه وعماله وكادحيه الذين كانوا الأغلى والأعز عند أبي هشام.

 يا جرمق يا أعلى جبال العزيزة فلسطين، رجاء حافظ لنا على كثيف ندك في الأعالي ومن عاش على قمتك لتتعايش القمم بحب وعشق وسلام ومودة، خزّن كثيف من عَشِقَ سنديانك وعنبك وكرزك وبلوطك وغوردتك (شجر الغار) وتفاحك والريحان النابت على سفوحك وفي وديانك و.. و.. و.. وكل ما عندك من جمال آسر وخلاب وفاتن وعظمة، انت الأعلى بين جبال الوطن وعندك كثيف الأعلى بين المناضلين، لذلك إيّاك أن تتنازل أو تتخلى عن كثيف هذا الجرمقي الغالي العالي، احضنه في جوفك الطاهر وعلى قمتك العالية ليبقى كما كان في حياته، في القمة وليبقى عليها، احضنه وخفف عنا واجب رفع اسمه وسيرته إلى أعالي رؤوسنا وأيادينا وفي عقولنا ووجدانا.

 لأبي هشام فضل كبير في كل الساحات النضالية والفكرية والتنظيمية، قاد الشبيبة الشيوعية ومن ثم الحزب وبقي داعمًا وموجهًا ونشيطًا في قيادة لجنة المبادرة العربية الدرزية – الوجه الوطني للطائفة المعروفية منذ تأسيسها عام 1972 إلى آخر رمق في حياته، وآخر اجتماعات سكرتارية اللجنة عقدناه ورغم حالة أبي هشام الصحية الحرجة وبناء على رغبته في بيته، وآخر منشور كُتب ضد زيارة كامينتس لبيت جن – صاحب قانون كامينتس سيء الصيت وُقِع باسمه واسم الشيخ المناضل أبو صياح كنج عزة، وآخر معارك الزابود كان أبو هشام على رأسها، وكل عقد نشاطات حزبنا الشيوعي وجبهتنا الديمقراطية للسلام والمساواة كانت تصل إلى التشاور معه. هذا هو من فقدناه، والذي برحيله ترك فراغًا كبيرًا يصعب جسره ما لم ندرس سيرته وصيرورته وانتاجه، لكي يتحول هذا الإرث النضالي الثمين إلى دروس ومدرسة. تعالوا أن لا ننسى الأمر الأساسي في أيامنا هذه، العالم يتغير وتوازنات القوى في حالة شد حبال وصراع رهيبان، والكفة بثبات تميل إلى صالح المحور الذي تقوده الصين وروسيا وايران مقابل المحور الرأسمالي الذي تقوده الويلات المتحدة الأمريكية، هذه الويلات التي يكفي أن نعرف أن حجم الفساد في العالم يساوي 3600 مليار دولار، منها 2500 مليار في دول الجنوب الفقيرة، مع العلم أن الغرب هو من بنى هذا الفساد كتفصيل أساسي من منظومته الرأسمالية الهادفة لنهب خيرات الشعوب، أي ان الصراع الطبقي يأخذ المناحي التي تحتاج إلى أصحاب فكر خارق واستقامة وثبات كبير أمثال أبي هشام لكي نسهم بقسطنا في تغييره والقضاء عليه وبناء البديل الذي يصبو اليه كل مظلوم ومُستَغَل، مما يتطلب ان نحول  تركة أبو هشام الثمينة هذه إلى المدرسة النضالية المطلوب اشادتها للاستفادة منها.

كتب كبير وعزيز ومناضل رمز آخر، الأسطوري ارنستو تشي جيفارا وقبل ان اغتالته قوى الظلام الرأسمالية: "في النهاية ايقنت أن جميع الفقراء والطبقة العاملة على هذا الكوكب هم شعب واحد، فرقتهم قوى الامبريالية والاستعمار عندما لعبت على وتر اللغة والعرق والجغرافيا، لذلك عندما قرأت بعض المواضيع التي كنت أجدها لكارل ماركس ونحن فوق الجبل، أيقنت أنه كان واقعيًا جدًا عندما قال يجب على الشعوب المُضطَهدة أن تتحد في ثورة عالمية واسعة ضد قوى الاستغلال الرأسمالي المُستعمر".  

تبقى لنا أيها النفاع، وعندما أقول لنا، أقصد كل حر ووطني وتقدمي في هذا العالم ومن كل الشعوب، خاصة من المقربين الذين هم أولى بالمعروف - شعوبنا العربية والإسلامية وشعبك الفلسطيني الرازح والنازح منه، وخاصة حزبك الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ولجنة المبادرة العربية الدرزية والقائمة المشتركة، وتبقى سيرتك وارثك بالنسبة للجميع درس الدروس ومشروع الدراسات، لنحوّل معًا هذه المسيرة الزاخرة بالنضال والسيرة  النظيفة والشريفة والدروس التي تحويها وارثها البطولي إلى مدرسة، بها وفيها تتثقف وتتدرب أفواج ثائرة على الظلم والظالمين، هكذا نصونها وبها نُبقي ذكرى هذا الخالد خالدة، نعم يا نِعمَ الرفيق انت يا كاسترو فلسطين ودوستويفسكها اقولها لك:

                    ومن كان من حنايا الروح مسكنه

                                                 فلا فرق إن رأته العين أو غاب

 

*رئيس لجنة المبادرة العربية الدرزية

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب