news-details

من ذاكرة يوم الارض الخالد - سلطانة رافع المحمود أم سلطان

هي امرأة ولكنها ليست كباقي النساء، أطفأت الشمعة الثالثة والثمانين، أمد ّالله في عمرها، عاشت على طبيعتها، لم تعرف المساحيق يوما طريقا الى وجهها ولا الكحل الى جفنيها كثة الشعر اسود فاحم، متوسطة الطول، منتصبة القامة، ممتلئة الجسم، تمشي على الارض بخطوات صلبة وثابتة يخالها المرء أنها في السبعين من عمرها او دون، لولا تلك الاخاديد التي تركها الزمن من على صفحات وجهها، تتسربل بالبساطة والعفوية، مخضّبَة بالكرامة والعفّة،عينان سوداوان تشعان بالبراءة، حنطية اللون حطينية الجذور.

كانت الصدفة صاحبة القرار في اللقاء بها في يوم الثلاثين من آذار من هذه السنة 2019، عندما كنت أعود شقيقتي الكبرى امدّ الله في عمرها وكانت هي الاخرى تقوم بنفس المهمة، في الطرف الآخر من صالون الضيافة جلستا وراحتا تتجاذبان الحديث وكان ذا شجون، وكان صوتها القوي يعلو على كل الاصوات وهي تسرد لشقيقتي حكاية سيرتها الحياتية والمعيشية المضمّخة بالآلام. استرعى حديثها انتباهي واستلطفته وهزّ مشاعري واخذت اصيخ السمع لحكايتها بكامل احاسيسي، وعندما انتهت من سرد حكايتها وجدت انها حكاية مثيرة تخفي في طياتها عِبَرًا من حياة البائسين والفقراء ونماذج عن الجهاد الحقيقي، والجهاد في سبيل لقمة العيش الذي سّببه التهجير تارة والاستغلال تارة اخرى. وانها تستحق التدوين فصممت ان انقل للقارئ ما بقي في ذاكرتي وذهني مما فاضت به ينابع ذاكرتها بعفويتها الجامحة على حقيقته بلا تحويراو تشذيب.

تقول الحاجة سلطانة لزميلتها: عشت مغلبة منذ الطفولة، مع هذول الغلابة لكني غير ندمانة لاني ربيت اولادي وسهرت الليالي وضمنت لهم الكساء الجميل والعيش الكريم، ثم استطردت تقول عندما ازداد منسوب تدفق جداول ذاكرتها عن الماضي وآلام الرحيل، لا زلت اذكر ذلك اليوم الاسود عندما خرجنا من قريتنا حطين مع مجموعة من اقاربنا وجيراننا مشيا على الاقدام وانا حافية. وحمّلتني امّي الله يرحمها بقجة على رأسي فيها ملابسي ولاخوي اذكر عندما طلبوا من ابوي ان نكمل طريقنا الى لبنان رفض وعرّج بطريقه نحو الغرب وعند بير مزقة استرحنا هناك وتزودنا بالماء وقطعنا خلة سبانا وواصلنا طريقنا وكانت وعرية، كان الشوك يلسعني في اجريّ في يوم حار وكان اوّل القيظ، مررنا بعيلبون استرحنا فيها وقدموا لنا بعض الخبز لنسد جوعنا ثم كملنا طريقنا الى عرابة، وفي طريقنا الوعرية كنا نتناول حبات التين من كروم التين في الجبل من كروم عيلبون، قال والدي: لا اريد ان اذهب الى لبنان اريد ان ابقى هنا قريبا من حطين انتظر العودة اليها.

تنهدت الحاجّة سلطانة وتكدر وجهها وقالت يا حسرتي طال بنا الانتظار ولا زلنا ننتظر فساء حالنا في البداية، عندما نفد ما كان والدي قد وفّره من شغلو، فهو بنّا حجر ماهر فراح يجوب القرى يفتش على عمل وباجرة زهيدة يا دوب نلاقي تمن شوال طحين، وتابعت تقول ولما تزوجت في عرابة ووالدي انتقل الى عيلبون فهي أقرب لحطين، ثم استطردت تقول: انجبت من الصبيان خمسة صبيان واربع بنات، صار حملنا ثقيل، وصار علي ان اشتغل اعاون زوجي، لنطعم ونكسي ونربي العيلة، واحب ان اقول لك يا صديقتي وجارتي، ما بطيب لي طعم البقل الا من ارض حطين. حتى اليوم في موسم البقل وعندما يطلع العلت والخبيزة والشومر اروح الى حطين وابقل من هناك، وحتى الصبر والزعتر الا من ارض حطين،روحي معلقة بحطين. توقفت قليلا الحاجة سلطانة عن الكلام، وراحت تفرك يديها ببعض، وزفرت تنهيدة مغموسة بالحزن وَ جُمَ وجهها وقطب جبينها،ثم واصلت حديثها وقالت رحل زوجي مبكرا الله يرحمه ووقع على ظهري عبء معيشة وتعليم الاولاد، كان علي ان اعمل اكثر من طاقتي حتى اوفر لهم العيش الكريم والتعليم والكسوة الحسنة وانا ابقل ولا اخجل من بيع البعض في الحارة للجيران واعمل في قطف الفاكهة واضع الكيس في كتفي واصعد على السلم، وابيع مما يتكرم به علينا صاحب البيارة لاجمع بعض الليرات زيادة على اجرتي اليومية البخسة، ظليت على هذه الحالة حتى كبروا الابناء وتعلموا وتزوجوا والحمد لله صاروا اكفوا حالهم بحالهم، حافظنا على كرامتنا وسمعتنا الطيبة وعشنا عيشة محترمة وانت يا جارتنا ادرى الناس، صمتت قليلا لتقول والله يا جارتنا وانا اقطف التفاح والليمون والبرتقال اتذكر حطين الجميلة ببساتينها الغنية وكثرة ينابيعها والفاكهة فيها، والواحد يتحسر ويقول لو الله الهمنا وبقينا فيها، الواحد في بلدو واشتغل في ارضه وبساتينه افضل الف مرة من الشغل عند هذول الـ.... و من هذه العيشة لو كانت عيشة ذهب.

أطرقت الحاجة سلطانة قليلا وصمتت عن الكلام وافترت شفتاها عن ابتسامة خجولة لتقول آسفة جرتني الذكريات لموضوع آخر، اليوم يوم ذكرى يوم الارض، واريد ان اقول اشي واحكيلك حكاية من يوم الارض الاول ارتسم ورسخ في مخي ودماغي ومش ممكن انساه، في ضحى يوم الارض، سمعت صوتا في ذلك اليوم انفجار قنابل وصوت دبابات تمر من هون من هذا الشارع من امام هي الدار وتشرّق وتقبّل، وصوت المكرفون يزعق ممنوع التجول الّي بخالف يعرّض نفسه للموت. فقدت الاولاد وجدت الكبير مش في البيت هرعت ابحث عنه قالوا لي الشباب في هذا الحي، حي دار نصار من الجهة الغربية في منطقة وادي العين اعتقله البوليس وشرق به، وضعت ثوبي باسناني تناولت من مركاس الحطب عصا تحديت الّي بذيعوه ممنوع التجول وانعَمَت اقماري ورحت اركض ودخان القنابل غطى المكان، وصلت الضابط وانا يا دوبني شايفة وجدته يقبض على شاب ومن الدخان ظننته انو ابني، توقفت عن الكلام وانفجرت في الضحك. ثم تابعت تقول وقمت بهظاك الكف القوي وصفعت الضابط على وجهه وقلتلو اترك الصبي ورفعت العصا، انذهل الضابط وصابته البغتة ففلت الصبي وقال روحي الله يسامحك. وكان رجل البوليس عربي وطلع انني اعرفه جيدا امسكت في يد الصبي وبعد ما مشينا رحت اتطلع في وجهه تبيّن لي انه مش ابني رحت اسأل الشباب ولكوا وين ابني ردوا عليّ و قالوا هاهو يجمع الاطارات ويجمع الاخشاب ويشعلها لتكون حاجزا من اللهب، قالت شمّرت عن ذرعاني ورحت اجمع الحجارة والحطب مع الشباب وعندما اقبل الجنود مشاة و في سيارة عسكرية من الجهة الشرقية ولاقوا الطريق مسكّر ولم يستطيعوا المرور ووجدوا النار بطول السماء اغاظهم ما شاهدوه التفوا الى البيوت ودخلوها واخذوا يطلقون الرصاص الحي، حطموا النوافذ وحطموا كل شيء وما بقي راديو او تلفزيون او غسالة او براد حطموا كل شيء، وانا في الحواكير مع الشباب نجمع الاطارات والحجارة والحطب لاشعال النار.

وتتابع: انسحب الجيش الساعة ثنتين عدت للبيت وجدت كل شيء محطم ومدلوق الزيت على الطحين ضحكت شقيقتي ورددت عليها عزا وانا وين كنت مش ذقنا الخراب مع بعض واشعلنا النار مع بعض والله انك صرت تنسي، فضحكت الحاجة سلطانة وخبطت بيدها على فخذ جارتها لتقول والله صحيح اعذريني نسيت، تنهدت الحاجّةّ سلطانة وقالت انا مش متأسفة على ما حدث من خراب، المهم فشيت غُلّي والذي حدث من خراب فدا الارض وفلسطين وحطين مع انه اهل الخير من الشوعية و من غيرهم جمعوا تبرعات وعوضونا كل ما خسرناه. انهت الحاجة سلطانة ذكرياتها وبعزيمة قوية لتميط اللثام عن جزء من مساهمتها الكبيرة والثرية في صنع يوم الارض الخالد سنة 1976، امرأة ليست كباقي النساء هي المرأة المناضلة والمجاهدة، هي الأم الرؤوم غمرت ابناءها في بحر حنانها، هي المرأة العصامية الثورية،بطلة من بطلات يوم الارض وبطلة العمل والجِدّ والاجتهاد،اجترحت الصعاب الحاجّة سلطانة،لتبني عائلة صالحة، تعيش اليوم امدّ الله في عمرها هادئة البال، فخورة بماضيها،معتزة بحاضرها .

(عرابة)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب