news-details

"أسبوعيات" مختارة لإميل حبيبي من أرشيف "الاتحاد"

الإصرار على التحرر هو نهج الشعوب الواقعي والعملي الوحيد
 

لدينا كل الثقة بقدرة القيادة الوطنية الفلسطينية خصوصًا بعد هذا العمر الطويل على رفض "النهج العملي الواقعي" الذي "تتمانه" لها وسواس "الحركة التقدمية".

إنّ ما أودّ استرجاعه أمامكم الآن-و هذا من حقّي- هو تجربتنا نحن ،هنا في بلادنا، مع وسواس "النّهج العمليّ و الواقعيّ".

أوّل ما يجب أن يكونَ واضحًا، في هذا المجال الذي نعتقد أنّه كان ولا يزال مصيريًّا هو أن هذا الوسواس ليس جديدًا. لقد ظهر،على الأقلّ منذ وقوع نكبة الشّعب العربيّ الفلسطينيّ في العام ١٩٤٨.و ظهر في دولة إسرائيل منذ ظهور دولة إسرائيل. كان "مباي" بن غوريون يصرخ:"نحن الحزب القادر على كلّ شيء" و كانوا لا يكتفون بالصراخ بل يثبتون ذلك باقتراف حكومتهم ما يمكن تصوّره و ما لا يمكن تصوّره من موبقات.  وكان أصحابُ النهج "العملي و الواقعي" يجيبون "مباي" بن غوريون،من الجانب الآخر، هاتفين:"الذي يتزوّج أمي يصبح عمّي" و "امشِ مع الحيط الواقف".

لقد قضينا أحلى أعمار جيلنا وبعضنا قضى حياته، في كفاحٍ مشبعٍ بالتّضحيات، وبتقديم أمثلة التضحية والبطولة .لنثبت لهذا الشّعب الباقي، البقية الباقية، بأنّ "عمّي" اغتصبَ أمّي! و بأن "الحيط الواقف" واقفٌ على صدورنا و أنّنا، بالحقّ و بالبرنامج الديموقراطيّ الصحيح ،لسنا وحدنا و أنّه لا بديل لنا-في أوضاع هذا الحكم الرّجعي و الاقتلاعي- عن التصدّي اليومي له و لجميع ممارساته القمعيّة و غير الدّيموقراطية.

إن مجرد استمرار بقائنا في هذا الوطن، الذي لا وطن لنا سواه، هو أكبر دليل على أننا نحن الذين كنا على حق لا وسواس النهج "العملي والواقعي"، ناهيك عن أننا لم نبق في وطننا فحسب، بل عمرنا ونعمر هذا الوطن بأنقى شبيبة وبأجمل عمران.

ولم يكن الأمر، كما يجب أن تعلموا، سهلًا. لقد كان على الشيوعيين وأقربائهم أن يسخوا بأبلغ التضحيات لكي يثبتوا للشعب مجرد امكانية الصمود والتصدي للطغاة المنفلتين. وكان على جماهير الشعب الواسعة، في الوقت نفسه، أن تجرب النهج "العملي والواقعي".

جربت وجربت، وصوتت بأكثريتها الساحقة للحزب الذي "ان قال فعل" و"القادر على كل شيئ" و"الحيط الواقف". وكان وقت كان "الوجهاء"، لكي يثبتوا وجاهتهم، يولمون الولائم لأصغر موظف في مكتب أصغر حاكم عسكري. بل "فتحوا بيوتهم" على مصراعيها لهذا "النهج". إن جماهير العمال والفلاحين والمثقفين والكادحين، لم يحافظوا، بصمودهم وتضحياتهم، فقط على هيبة شعبهم واستمرار بقائه في وطنه. بل اعادوا الهيبة والكرامة للعديد من وجهاء اليوم الذي كانوا مرغوها في وحل "الذي تزوج أمي". وقد يكون آن الأوان أن نجهر بما في قلوبنا من دهشة ازاء تصرف نفر قليل  جدًا من مدعي الزعامة الوجاهة في المناطق المحتلة حين نراهم يتهافتون، باسم "النهج العملي والواقعي": على وزير أو نصف وزير أوحاكم عسكري أو نصف حاكم عسكري ويعتبرون ذلك من "مقومات" الزعامة والوجاهة والصيت العظيم.

أما شعبنا فقد سار، منذ اليوم الأول، على طريق بسام الشكعة والأكثرية الساحقة جدًا من الوطنيين وجوه شعبهم وجباهه الناصعة في المناطق المحتلة. وحين حاول وزير الحربية الحالي رابين، حين كان رئيسًا للوزارء، أن يفرض نفسه على الناصرة وتلاميذها فرضًا، دون شور أو دستور، غنوا له، "تعظيمًا" و"هزي يا نواعم" !

لم يكن الأمر سهلاً البتة، وكان أصعب في الأمر أننا جابهنا طول مسيرتنا تلك، أصواتًا تتهم نضالنا وتضحياتنا بأنها مجرد "تهريج وغوغائية" و"مكائد عد" لا فائدة منها. إن الأفراد الذي كانوا يدعون إلى "النهج العمل والواقعي هم أنفسهم الذين كانوا يتهمون تضحياتنا من موت ونفي وسجن وتعذيب وقطع أرزاق، بأنها "تهريج وغوغائية".

وظهر في ذلك الزمن أيضًا، فريقان آخران:

فريق تمثل بقيادة "مبام" وكان يتهكم على مطالبنا القومية، من مثل "عودة اللاجئين" و"حق تقرير المصير" و"تنفيذ قرارات الأمم المتحدة" و"اقامة الدولة الفلسطينية" و"ارجاع الأراضي المصادرة"، ويعتبرها "إرجاع عقارب الساعة إلى الواراء" ومستحيلة التحقيق" و"تجر إلى كوارث جديدة" ولذلك فهي أيضًا، "تهريج وغوغائية". وكان يدعونا إلى قبول "الأمر الواقع" والاكتفاء بالسعي من أجل ما يمكن تحقيقه من مساواة في ظل "الحرب المستمرة". ومما لا شك فيه أنه كان لنهج المبام "العملي والواقعي" هذا تأثير معين على تلك الأوساط التي انشقت، في عام 1965، عن حزبنا.

أما الفريق الآخر (الثاني) فتمثل في أولئك الأخوة والأخوات القوميين الصادقين الذين انطلت عليهم دعاوي "الحيط الواقف" بأنه لا جدوى من كفاحنا الجماهيري. ولكنهم رفضوا نهج الاستسلام "العملي والواقعي" فآثروا أحد الأمرين: إما الإنطواء على نفوسهم وإما انتظار "الفرج العربي". لقد كان انتظارهم، منذ اليوم الأول، مجرد "ترف" لا تقوى عليه جماهير الشعب الواسعة التي لا تستطيع أن تنتظر في مواجهة التحديات اليومية. ولذلك لاحظنا، منذ اليوم الأول، تسلل عناصر مشبوهة وغير قومية إلى صفوفهم شجعتها على ذلك دوائر حكومية معينة ما دامت النتيجة "العملية والواقعية" الوحيدة هي بلبلة مفاهيم الشبيبة القومية وإبعادها عن الحركة النضالية اليومية المجدية، عن الشيوعيين وكفاحهم اليومي وشق الصفوف الوطنية. إن هذه العناصر المشبوهة، التي رفعت بالأمس بالأمس شعار "بطل ينفع إلا المدفع" هي نفسها التي أيدت الآن "النهج العملي والواقعي"- حتى الاستسلام – الذي قامت "الحركة التقدمية" على أساسه.

هذه هي خلاصة تجربتنا مع "النهج العملي والواقعي"، نقدمها لكل من يريد، أو يستطيع الاستفادة من هذه التجربة المتواضعة. إن تجربتنا هذه تثبت، أن ما من نهج عملي وواقعي، بالفعل، سوى نهج الكفاح الديمقراطي المثابر في سبيل الحقوق الشرعية. أما نهج القبول بالظلم والاضطهاد وبالعدوان وبالاحتلال وبسلب الحقوق الشرعية، بحجة أن لا حول ولا  طول للشعوب وأن "العالم ضدنا" و"اليهود ضدنا" و"العرب ضدنا" وأن هذا هو "النهج العملي والواقعي" وغيره هو مجرد "تهريج وغوغائية" فهو مرفوض من قبل أي شعب من الشعوب  ومن رابع المستحيلات أن يقبله أي شعب من الشعوب- لا في الماضي وكم بالحري اليوم!

ولو قبلنا بهذا النهج "العملي والواقعي" لما بقينا في وطننا. فإذا بقينا لكان تحقق نهج مجزرة كفر قاسم "العملي والواقعي" أو على الأقلي نهج لوبراني "العملي والواقعي".

ولكن الفضل في رفض شعبنا لهذا المصير لا يعود إلى الشيوعيين فحسب. بل يعود إلى الحياة نفسها، فما من شعب يريد الحياة من الممكن أن يرضى بالانتحار. العكس هو الصحيح: إن وجود الشيوعيين نفسه هو بفضل هذه الحياة التي قرر هذا الشعب أنه يريدها. إن وجودنا نفسه هو دليل على الارادة الشعبية.

اننا لا نستبعد ظهور دعاة لهذا "النهج العملي والواقعي" في صفوف شعبنا "الخارج" أيضًا خصوصًا في أيام الشدة وعلى الرغم من أنه معروضًا عليهم سوى الزوال من الوجود القومي.

أما من ينتظروا، منا هنا، أن "نتنمنى" لهم ترسيخ "النهج العملي والواقعي" كما فعلت التقديمة في بيانها المؤيد لمؤتمر عمان، فهذا أيضًا من رابع المستحيلات. إن كل وجودنا ووجودهم لا ينفي "ترسيخ" هذا النهج فقط بل ينفي هذا النهج كله. بل كل وجود واتسمرار حركة الشعب إلى الأمام، من أيام وزال إيوان كسرى حتى يومنا هذا- يوم قيام الدولة الفلسطينية وتحقيق سلام الشعوب العادل- يثبت أن نهجنا هو النهج العملي والواقعي الوحيد الذي حرر وسيحرر العالم.
(نشرت في صحيفة الاتحاد بتوقيع "جهينة"، الجمعة 16 تشرين الثاني\نوڤمبر 1984)
 

****

 


معركة النّاصرة
 

تنبّأت «البوست»، وهي الأم الإنجليزيّة لجريدة «الأنباء» الحكوميّة، بأن قائمة سيف الدين الزعبي، وموسى كتيله، ستنال الأكثريّة في انتخابات بلديّة الناصرة، التي ستجري في الثامن من شهر ديسمبر القادم. وبهذا، دخلت الأم الإنجليزيّة لـ «الأنباء» الحكوميّة المعركة الانتخابيّة.

ونحن، لم ننتظر غير هذا، فكما جاء المثل العبري: «إذا لم أكن أنا لي فمن لي؟»، فإذا لم تدافع «البوست» عن قائمة «زوجك وإن أراد الله»، فمن سيدافع عنها؟

ولكن، كيف يجري هذا الدفاع؟ كتبت، بالإنجليزي، أن الصفة البارزة للمعركة في الناصرة، ليست الصراع بين السياسات والمبادئ، بل الصراع داخل عائلة واحدة: ما بين سيف الدين الزعبي، وعبد العزيز الزعبي. وأما باقي أهالي الناصرة، فإن هذه الصحيفة، التي تربّت تحت أحذية الاستعمار البريطاني، فتعتبرها «طرشًا».

وطمأنت رئيس بلديّة الناصرة الحالي، موسى كتيله، على أن سيف الدين الزعبي، حين يُتوَّج رئيساً لبلديّة الناصرة، سيستقيل ويخلي مكانه لموسى كتيله، وذلك في حالتين منتظرتين: حين يُعيّن نائبًا لوزير، أو حين ينال جائزة نوبل «التي رشّح نفسه لها».

ورأينا الشخصيّ أن الأمرين غير مستبعدين: فإنه يلائم هذه الوزارة كما أنها تلائمه، كما تقع الطيور.. وأما جائزة نوبل فقد أصبحت، في أيدي أساطين الحرب الباردة، مهزلة حتى يُستبعد عنها أي شيء. لذلك، يستطيع رئيس البلديّة الحالي أن يطمئن إلى حسن نوايا رئيسه.

إلا أن كل من تقاسم الأسلاب هذا يجري دون أن يأخذ المتقاسمون في الحساب رأي صاحب الدار، الذي هو غير نائم.

وكل الحديث عن التكتل العائلي هو أمر يزعزع بدن أهل الناصرة، خصوصًا وأن الصحافة العسكرية تتهمهم به لكي تشوّه سمعتهم، وتحط من وعي الجماهير العربيّة. كل الاحترام لعائلة الزعبي ولكل العائلات، وأهل الناصرة يقدرون قدر كل العائلات، وتستطيعون أن تروا ذلك في سير أهالي الناصرة، من كل العائلات، وراء جثمان كل ابن عائلة حين يحين القضاء المحتوم. ولكنّ الانتخابات البلديّة ليست جنازة. ولدينا هنا شيوعيّون يشار لهم بالبنان، زعبيّون، جنبًا إلى جنب، الشيوعيين والوطنيّين التقدميّين، الواعين والصّامدين، من عمال وشباب ومثقّفين وموظّفين وحرفيّين وتجار من كل العائلات. وهل بقي إنسان لم يسمع عن الشاب الشيوعي الشّهم، من عائلة الزعبي، في سوريا، الذي توفّي تحت التعذيب، دون أن يفرّط بالأمانة؟

فالقضيّة ليست عائليّةً بالمرة، ولا طائفيّة، إنما هي قضيّة تخليص الناصرة من إدارات الخنوع والإعمال الحكوميّة، الإدارات التي منعت تطوُّر الناصرة الطبيعي، ووضعت سمعتها في العالمين: أن أهل الناصرة محترمون لدى قوى التقدم الوطنيّة الصادقة، والسّلام العادل في إسرائيل، وفي العالم العربيّ، وفي العالم كله، فبأيّ حقّ ينشغل رؤساء بلديّتها وباسمها، بتنظيف موبقات السياسة الحكوميّة، سياسة الاضطهاد والحرب والتوسُّع، أكثر من اهتمامهم بتنظيف شوارعها ومياه شربها؟ لماذا يجب أن تسكت بلديّات الناصرة على سياسة الإهمال الحكومة تجاهها، حتى تأخّرت هذه المدينة العربية الوحيدة في إسرائيل، هذه المدينة المحترمة عالميًّا، في تطوُّرها وتوسُّعها عن بقية مدن إسرائيل؟ يوجد في الكنيست أعضاء كنيست حكوميّون، كثيرًا ما يعيروننا بعدم تطوُّر الناصرة، وبأن شوارعها غير نظيفة على اعتبار أن التأخر وعدم النظافة هما من الصفات «العربيّة»! فلماذا يجب قبول هذه المسبّة؟ ها نحن نرى كم تطوّرت وتوسّعت مدن الضفّة الغربيّة، وتعمّرت، خلال الأعوام العشرين الماضية، على الرغم من الحكم الملكي الرجعي. هذه هي القضيّة.

إن الأوساط الحكوميّة، المسؤولة الأساسيّة عن هذا الوضع، تحارب على جبهتين، تمنع أهالي الناصرة من تحقيق التغيير الضروري في إدارة سلطتهم المحليّة: إنها ترمي بكل ثقلها مع قائمة الجمود والتأخر وعدم التغيير. قائمة سيف الدين الزعبي، التي عافها أهل الناصرة، وتشجع نزول قوائم صغيرة على أمل أن تنهش الأصوات من القائمة الشيوعيّة، حيث ترى السلطة الحاكمة أنه لا قوة فعلية تحفظ هيبة أهالي الناصرة، وتضطر السلطة إلى التراجع، سوى تأييد الشعب للشيوعيّين.

ولكن، أهل الدار غير قائمين بالمرّة، وسيثبتون للسلطة ولأعوانها أن «حساب السّرايا مش مثل حساب القرايا»، فشعب الناصرة، الذي أثار، بوعيه وبوحدة صفوفه، وبإصراره على حقوقه، إعجاب العالم كله، يجابه تكتيك السلطة بأمرين أساسيّين مقابلين: حجبُ الأصوات عن قائمة سيف الدين الزعبي إلى أقصى حدّ، حتى تعود كما كانت قبل سنة 1959م، وتقوية الكتلة الشيوعيّة، ضمان التغيير والهيبة، إلى أقصى حدّ.

هذان هما شرطا التغيير، ونحب أن نقول لجميع القوائم الأخرى المتصارعة: إذا كنتم حقًّا جادّين في رغبتكم في التخلص من إدارة الخنوع والإهمال، وفي التوصل إلى إدارة مخلصة ومتنوّرة، فهلموا شاركوا عمّال الناصرة وشبابها ومثقّفيها، وكل أبنائها المخلصين لها، في سعيهم الحميد لحجب الأصوات عن قائمة الخنوع والإهمال والعجرفة الحكوميّة، وأما كل محاولة لإضعاف القائمة الشيوعيّة، لنهش الأصوات منها، فإنها الأمر الذي هو -بالضبط- ما تستهدفه السلطة للقضاء على كل أمل بالتغيير، بدون كتلة شيوعية قويّة، على أي شيء سيعتمدون حين سيجابهون الضغط الحكوميّ لإرجاع سيف الدين الزعبي إلى السلطة البلديّة؟

لديهم أوسع المجالات، -وفي جميع الأحياء-، لكسب الكثير من الأصوات التي انتزعتها قائمة سيف الدين الزعبي في الانتخابات الماضية، حيث نالت 25,8 بالمئة من مجموع الأصوات، فلا حاجة لهم، -إذا كانوا حقًّا حريصين على مصلحة الناصرة وهيبتها وسمعتها-، إلى أصوات الشعب الواعي، الصامد دومًا، التي أوقفها -وإلى الأبد-، على قائمته، قائمة أخلص أبنائه المثابرين المُضحّين الذين لم يتهرّبوا من المعركة، ومن تكاليفها أبدًا، والذين صانوا للناصرة هيبتها، وكانوا وجهها الناصع الحقيقيّ في العالمين.

إن المعركة محليّة، ولكن إشعاع الناصرة أبعدُ مدىً. إن المعركة على قضايا محليّة، ولكن شعب الناصرة يعرفُ أن الأمل المعقود عليه، أبعدُ مدىً.
(نشرت في صحيفة الاتحاد بتوقيع "جهينة"، الجمعة 13 تشرين الثاني\نوڤمبر 1970)

 

***


المكتوب على رابين تراه العين!

انه لامر يوقف شعر الرأس أن يظل ربابنة هذه الدولة يعلقون مصيرها ومصيرهم على المزيد من عمليات القتل والحبس والابعاد في المناطق المحتلة. لقد أحصينا عدد الشهداء الفلسطينيين منذ بدء الانتفاضة الحالية 9\12\1987 فأحصينا 54 شهيدًا حتى أمس الأول باسمائهم الكاملة ولما نعت أنباء يوم أمس الخميس، شهيدين، فيكون المجموع ستة شهداء "زيادة" على الخمسين الذين طالب بأرواحهم النائب الليكودي بني شليطا، 56 شهيدًا. خلال 44 يومًا بـ"معدل" أربعة قتلى كل ثلاثة أيام. والانتفاضة مستمرة ومتسعة بسرعة تسارعية مشابهة وربما بتسارعية أكبر!

والاشارة إلى "الدرر" التي أسمعها وزير الحربية، اسحاق رابين، في برنامج "موكيد" التلفزيوني في أمس الأول ولاحظت "جروزليم بوست" انه خلالها -في محياه وردوده على أسئلة الصحفيين- "مضغوطًا بشكل واضح"! حاول اسحاق رابين التظاهر بالحذلقة وبأنه لم يُعدم "الأمل". قال ان المهمة الاساسية العاجلة الآن هي "إفهام" أهالي المناطق المحتلة انهم، "بالعنف لن يحققوا أي شيء".

فالامر الذي قلنا عنه انه يوقف شعر الرأس، هو جهل رابين او تجاهله أن هذه "الحكمة" مردودة عليه وعلى ربابنة هذه الدولة عددًا من المرات يفوق عدد السنين التي قضتها من عمرها حتى الآن وخصوصًا عبر الشهر والاسبوع المنصرمين. ومعناه انه من زمان على رابين وكل امثاله أن يفهموا أن عنفهم مهما يشتد ويستشرس، وقد اشتد واستشرس حتى ضجت به السماء والارض، ما حقق لهم ولن يحقق لهم "الشيء" الاساس الذي جهدوا في تحقيقه وهو ازالة الشعب العربي الفلسطيني من وطنه.

لقد بذل الشعب الفلسطيني اعمار عدد متلاحق من اجياله وهو يحاول أن يقنع اسرائيل بهذه "الحكمة" التي يتغندر بها اسحاق رابين الآن. عشرون عامًا قضاها هذا الشعب تحت الاحتلال الاسرائيلي، وهو ينتظر من هؤلاء الربابنة أن يثوبوا الى الرشاد أو ينجح المام الملك حسين باللغة الانجليزية، أو ارتماء السادات في احضان أمريكا، في اقناعهم بأن "يذوقوا على دمهم". فماذا كانت النتيجة! استهتار "ترانسفيري" بالقيم الاخلاقية الأولية وتسييب "رامبوهات" المستوطنين الذين لا يعرفون ربًا أو وطنًا سوى العجل الذهبي، على النساء والأطفال والمدنيين الآمنين. فمن يا رابين، سواك وسوى أمثالك الذي فرض على الشعب العربي الفلسطيني طريق الآلام هذه ! مشيناها وأثبتنا أننا سنظل نمشي فيها ما كتب الأمر علينا. لا فرق في ذلك بيننا وبين أي شعب آخر في مثل حالتنا:

                      "مشياناها خطى كتبت علينا

                                                   ومن كتبت عليه خطى مشاها"

فهل كتب عليك وعلى أمثالك، يا رابين، الخطى التي كتبت على من سبقكم من المحتلين في التاريخ ؟ قد يكون هذا السؤال الذي لم يسأله صحفيو "هموكيد" ولكنه جال في خاطر رابين فبدا "مضغوطًا".

الانسان الفلسطيني مثله مثل الانسان اليهودي، مثلهما مثل بني آدم في كل مكان. ومعناه أن للشهيد الفلسطيني أهل وأقارب وأحباء-شعب. وعمليات القتل يا رابين، توسع الدائرة وتعمق الجرح. انه لأمر رهيب أن نضطر منذ شهر ونصف الشهر تقريبًا، على أن تصدر الصفحة الأولى من "الاتحاد"، يومًا يومًا يا رابين، بأنباء من سقط شهيدًا من ابناء شعبنا في اليوم السابق، بأيدي الصبية الجنود الذين أرسلتهم ليقمعوا حرية وكرامة وانسانية أبناء وبنات شعب آخر.

لست من السذاجة بحيث يصيبني الوهم في ان كلامي هذا سيصل إلى آذان هؤلاء الربابنة أو إلى قلوبهم. فانا أعتقد بأنهم باصرارهم على احتلالهم كتب عليهم أن يمشوا الخطى نفسها إلى الهاوية التي مشاها من سبقهم من المحتلين.

ولكنني أوردت ذلك الكلام اعلاه لأقول للامهات الثكالى وللزوجات الارامل وللصبية الأيتام- يا رابين- أن لا يجزعوا حين يجدون أنفسهم عاجزين عن التعود على طول هذا "العنقود".

ولا الصبية اليهود، الذين ارسلهم رابين بلباس الجندية، لن يتعودوا ! لقد ألمح المضغوط رابين الى هذا الأمر فحاول أن يشد من أزرهم. ولما وجدوا أنفسهم "وحيدين" في المناطق المحتلة أرسل "معهم" المزيد من الصبية الجنود. لقد لاحظت "عل همشمار" أمس ان اجتماع الكابينيت الاخير انتهى بطوشة عمومية دون المقدرة على اتخاذ أي قرار  جديد بشأن الانتفاضة. ولما وجد "فارس" سياسة "القبضة الحديدية"، اسحاق شامير، نفسه وحيدًا مال على رابين واتكأ عليه معلنًا أن "الحكومة كلها تقف وراء سياسة رابين في المنطاق المحتلة".

فكيف يتصور رابين أن تنجح سياسته- سياسة المزيد من القتل والابعاد والاعتقال والتعذيب ؟ اما أن يتعود الناس عليها أو لا يتعودوا. فاذا تعودوا عليها لا يعود هناك نفع لرابين فيها. اي لا تعود تقطع في هذا الشعب الذي تجاوز حاجز الخوف من الموت. فاذا لم يتعودوا عليها لا يبقى امام سياسة رابين الا الاتجاه إلى "أفران الموت". فعلى من يضحك رابين حين يحاول ايهام الناس بانه لا يزال امام سياسته أي أمل!؟

 

(نشرت في صحيفة الاتحاد بتوقيع "جهينة"، 15 كانون ثاني\يناير 1988، مع بداية الانتفاضة الأولى)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب