news-details

"وجع لا بُدَّ منه" رواية الكاتب عبد الله تايه والوَجع الذي يُفجّره في وجه العالم| د. نبيه القاسم

"وجع لا بُدّ منه" الرواية الأخيرة للكاتب عبد الله تايه التي صدرت عام 2022 عن "دار الكلمة للنشر والتوزيع" في مدينة غزّة. وفيها يصف تفاصيل العذابات الجَسَديّة والنَّفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي تكون من نصيب الفلسطيني الذي يعود إلى مدينة غزة من القاهرة.

وقد اختار الكاتب لروايته اسم "وجع لا بُدّ منه" "لكونها تضطلع على وجع الفلسطيني من التشتّت في البلاد العربية والأجنبية منذ النكبة، حيث وجع الفلسطيني في السفر الذي هو بالنسبة للآخرين نزهة وبالنسبة للفلسطينيين رحلة عذاب، ووجع تردّي الوضع الصّحي الذي يضطر الفلسطينيون للسفر من أجل العلاج وفي طريق العودة لغزة يبدأ مسلسل الوجع والعذاب"، ويؤكّد "أنّ الحصار الإسرائيلي والانقسام هو الكابوس المؤرّق الذي خَلّف لنا البؤس والفقر والبطالة والشتات والغربة، ودوامة من الأزمات الاجتماعية والنفسية التي تعصف بالمواطن والوطن الفلسطيني. ويرى الكاتب "أنّ لا مَهرب من هذا الوجع، فهو قَدَر مفروض يُضاف إلى كلّ الأوجاع التي تُلازم الفلسطيني أينما يوجد، ومن لحظة قدومه إلى هذه الحياة." 

حدّد الكاتب من البداية نقطة انطلاق العائدين السّبعة من مدينة القاهرة ومَقصدهم الوصول إلى مدينتهم غزة. واهتم أنْ يصف كلّ الأمكنة التي يمرّون بها أو ينتظرون للسّماح لهم بمتابعة السفر. وكان الكاتب عبد الله تايه نفسه قد قطع رحلة العذاب هذه التي استغرقت عدّة أيام من القاهرة إلى غزة، وعايش لحظاتها وساعاتها وأيامها الصّعبة المُذلّة للفلسطيني العائد إلى مدينته.

"وجع لا بُدّ منه" ليست رواية بالمفهوم الذي نعرفه للرواية وإنّما هي مجموعة قصص مَبتورة يرويها ركّاب سبعة: ثلاث نساء وأربعة رجال، جَمَعهم سائقُ السيارة من أماكن مختلفة في القاهرة، وتوجّه بهم نحو مَعبَر مدينة رفح ليعودوا إلى مدينتهم غزة التي ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتي كما يصفها أحدهم " مدينة لا تعرف الخوف، ولم يُخلق مثلها في البلاد".

قد يتساءل البعض: وما الجديد فيما أتى به الكاتب؟ فمثل هذه المُعاناة وأكثر يُعانيها الفلسطيني أينما توجّه بالحواجز الكثيرة التي تعترض طريقَه وبالمُعاملة السيئة التي يلقاها.

لكنّ القاهرة لها موقعها الخاص عند كل فلسطيني خاصّة من قطاع غزة، ولها حبّها العميق لاحتضانها الواسع ورعايتها اللامَحدودة للفلسطيني. وحتى حزيران 1967 كان قطاع غزة مُلْحَقا بمصر، وأهل القطاع، كانت مصر والقاهرة خاصّة، حاضنتَهم ومُنطلَقَ انطلاقهم نحو الحياة الواسعة والسّعي نحو الأحلام والآمال القريبة والبعيدة. وكانت المسافة التي يقطعها المسافر من غزة إلى القاهرة وبالعكس لا تحتاج لأكثر من ستّ ساعات هادئة ناعمة تحمل الكثير من الفرح، والذكريات، والمُغامرات، والطموحات. فما الذي حدث؟ وكيف تغيّرت الأحوال وأصبحت هذه الرحلة تستغرق يومين طويلين مُتْعِبَيْن فيهما الكثير من المُعاناة والخوف والقلق وعدم اليقين؟

ويتّضح السبب من إشارات بعض المسافرين إلى خطورة الحالة الأمنية والاضطرابات في معظم مناطق سيناء، وإلى العَبَث والتّعديات التي تقوم بها الجماعات الإسلامية الدّاعشيّة، والتّدمير والقتل والنَّهب الذي يتعرّض له السكان في سيناء. ويتحاشى الكاتب ومثله أبطال روايته التّصريح أو التّلميح إلى الاتّهامات التي وجّهتها السلطات المصرية إلى قيادات "حماس" الحاكمة في قطاع غزة مُتّهمّة إيّاها بتأييد ومساعدة الجماعات الدّاعشية ممّا أدّى إلى غضب القيادة المصرية وفرض كل هذه القيود الصّعبة على حركات وتنقّل الفلسطينيين ما بين غزة والقاهرة.

 

غزّة هي المُنطَلَق وهي المُنتهى

رحلة الوَجع الذي لا بُدّ منه هي رحلة معاناة الشعب الفلسطيني في دربه الطويلة لتحقيق هدفه وتحرير بلاده ونَيْل استقلاله وإقامة دولته فوق تراب وطنه. وإذا كان الكاتب عبد الله تايه اختصرها في الرحلة من القاهرة إلى غزة، فإنّها مُنبّهة إلى الرحلة الطويلة التي على الفلسطيني أنْ يمشيها ليُحقّق ما يصبو إليه.

بدأت رحلة الوجع من غزة المدينة التي لاقت الأمرّين منذ عام النكبة 1948 وفَصْلها عن باقي الوطن وإلحاقها بمصر. ثم عادت واحتُلّت من قبل الجيش الإسرائيلي عام 1956 ثم أعيدت لمصر حتى عاد الجيش الإسرائيلي واحتلها مع كامل الوطن الفلسطيني في حزيران 1967 إلى أنْ قرّر أرئيل شارون رئيس حكومة إسرائيل اخلاءها عام 2005 مُبقيا على حصارها من الجوّ والبحر والبرّ. ثم كان الانقسام وسيطرة حركة حماس عليها عام 2007 مع بوابة واحدة لها مفتوحة فقط على مصر.

هكذا حالة غزة وسكانها، تُعاني من الانقسام والخصام ما بين الأهل، ومن الحصار الشامل الذي يُفرَض عليها من قبل الجيش الإسرائيلي، ومن اللامُبالاة والإهمال العربي والتّجاهل العالمي وما يُسبّبه كل ذلك.

وتأتي رواية عبد الله تايه "وجع لا بُدّ منه" لتؤكّد أنَّ الحياة في غزة مستمرة بكل حيويّتها، والناس في غزة يعيشون حياتهم ويأملون ويحلمون ويعملون ويُواجهون ويُقاتلون ويُصرّون على الإبقاء على حلمهم وهدفهم. وتظلّ غزة قُرّة عيونهم المدينة التي لا تعرف الخوف ولم يُخلَق مثلها في البلاد.

سبعة ركّاب تُقلّهم سيارة مُتّجهة بهم من القاهرة إلى مَعبر رفح ليعودوا إلى مدينتهم وذويهم في مدينة غزة. سبعة ركُّاب، كلّ لأسبابه الخاصّة، كان قد غادر غزة إلى القاهرة وها هو يعود بشغف وشوق وحبّ لمدينته التي لم يُخلَق مثلها في البلاد ولذويه الذين ينتظرونه ليكتمل بوصوله شَملُهم.

 

هذا الحبّ الكبير بين غزّة وأهلها

مدينة غزة رغم كلّ المُعاناة والحياة الصّعبة التي يلقاها أهلُها تظلّ الغالية والمُفضّلة "المهم بعد وقت يطول ولا يقصر سأجد نفسي في غزة مدينتي التي لم يُخلَق مثلها في البلاد، سأجدها على حالها، مشبوكة بالأسلاك، يُلاعبها موجُ البحر العاتي، سأراها بوجه فقرها، وأنين أولادها، ودعوات المحرومين في جنباتها، وصراخ باعتها، ومرضاها الذين يطول بهم الحال، فتصير القبور نُزُلهم، يا لهذه المدينة!! إنّي أحبّك رغم كلّ شيء، وأكرهك رغم كلّ شيء، وأعشق بوزك الذي تَهرّأ من فعل الحروب، والجوع، والقهر، والزّنّانات. أنتِ ما أنتِ إلّا مدينة عشقي المؤقتة، وريح فيكِ سيحملني إلى أحلامي الكبيرة "(ص7)  

 

سبعة ركّاب وثماني قصص

سبع قصص شكّلت رواية "وجع لا بُدّ منه" للعائدين السّبعة، ثلاث نساء وأربعة رجال، كانت رحلة العودة معا في السيارة الجامعة لهم والصّعاب التي واجهتم ودرجات الحرارة المرتفعة وطول الطريق والخيبات التي فاجأتهم وساعات اليأس التي حطّت عليهم واستسلامهم لمصيرهم الذي ارتضوا بتركه لقضاء الربّ وحُكمه، كانت هذه كلّها الدّافعة بكل عائدة وعائد للانطواء على نفسه واستحضار الأعزّاء من الأهل والأصحاب، واستذكار ما كان،  واسترجاع بعضا من فترات حياته التي مرّت حتى تنبّهَه حركةٌ مُفاجئة أو صوتٌ يُنادي عليه فيعود لواقعه وحاضره فيجد نفسه مع سبعة أشخاص في سيارة تضيق بهم وتُصرّ على إيصالهم إلى مَعبر رفح ليُتابعوا دربَهم للقاء الأهل والأحباء في مدينتهم التي ليس لها مثيل بين البلاد، وتظلّ بالنسبة لهم الأحلى والأغلى رغم خلاف الإخوة  وانقسامهم وحصار وتَعدّيات جُند الاحتلال.

كلّ قصة من السّبع تدمي القلوب وتُوقظ المواجع، تُضاف إليها قصة مُعاناة الطريق الطويل من القاهرة إلى مَعبر رفح التي يشارك فيها الجميع، وتجعل كلّا منهم يسأل: لماذا هذا العذاب من حظّ الفلسطيني فقط؟ لماذا؟! "فالدنيا، كما يقول الحاج الغمري: تُغرّبُ الكثيرين من أجل لقمة العيش، ولكنّهم في النهاية يعودون إلى أوطانهم، أمّا نحن فلا نزال ننتظرُ عودةً طال انتظارها ما يزيد على سبعين عاما (ص38) ويقول بألم شديد "ما الذي يحدث على الأرض؟! يبدو أنّ آخر الدنيا اقترب.. الجميع في معاناة، وإنْ تعدّدت ألوانُها، لو كنّا في بلادنا لكنّا أصلح حالا.. ربّما، من عشرات السنين ونحن نحلم بالعودة، هل يئسنا؟! وهل يئست الأجيال الطّالعة أكثر! لا أظن. مع أنّه لا ضوء في آخر النّفق، فلم نعد نرى نفقا ولا ضوءا، ولا أوّل ولا آخر، وبين انقسام وحصار وعدوان تضيع الأحلامُ ويكثر الموتُ والكساد، هذه آخر الدنيا"(ص40) ومثلها كانت كلماتُ زوجة عبد الرحمن عندما قرّر السفر إلى ألمانيا للعمل" هذه بلاد بعيدة، الله وحده يعرف ما فيها، فليكن وليذهب عبد الرحمن إلى حيث قرّر أنْ يذهب، سأنتظره كما انتظرته دوما، هنا غربة، وهناك غربة، وعند أهلي في غزة غربة، منذ النكبة ونحن في عذاب وقهر."(ص107)

مشاهد عديدة لمعاناة العائدين في طريق عودتهم إلى غزة يأتي بها الكاتب تصوّر ما يلاقون من عذاب وألم وانكسار وانسحاق الشخصيّة والنفوس. "علا قوس الشمس وكاد ينتصف النهار أو أكثر قليلا، ازداد الحرّ. ولهاث الوقت انقطع، فلم يعد من أهميّة لمُضيّ الوقت، السّاحة صاخبة، والأجساد تنزّ عرقا، تلهب شمس الظهيرة المارين في ساحة الفردان إلى الحمامات وصنابير المياه، المرضى يتألّمون، العجائز أنهكتهنّ الحكايات، انتهت كلّ القصص التي يحفظنها، كلّ مسافر أدلى بما يعرف عن الوقت، والحال، والحرّ، ونَقْص المال، والسّفر، الشمس كاوية، التصق العرقُ والغبار بالجلود. يتفرّجون على المَعديّة وهي تأتي وتروح، تمخرُ عبابَ ماء القناة بعَربة أو عربتين، وهم يغسلون وجوههم مرّات ومرّات ويُبلّلون رؤوسهم، يرطّبونها من حَرّ الظهيرة، وانكشاف المكان عن شمس مولعة. وبعضهم يجلسون في مبنى المسجد المزدحم، الذي تمدّد فيه المُتعبون والمرضى. يعلو صراخُ الأطفال وضجيجهم، وأنّات المرضى، وعكاكيز كثيرة ليست للشيوخ فقط، ولكن للمُصابين في مظاهرات العودة والجدار، الذين بُترت سيقانهم، أو في طريقها للبتر، أو عولجَت ولم يُشْفَ أصحابُها بعد".

 ويتابع في رسم المشاهد الصعبة المؤلمة "في السّاحة سوق من الأحلام والأماني لغريب يودُّ العودة سريعا ليرى أهله، أو زوجته، وأولاده، ولمسافر قطع الدنيا بالطائرة ليأتي إلى غزة المُحاصرة المنكوبة، ومريض يتلوّى لأنّه لم يعد قادرا على الصّبر، يتصبّر الناس بمعاودة غسْل وجوههم من الحرّ، ووضع قبّعات ومناديل قماشيّة مُبلّلة على رؤوسهم، وازدراد بضعة لُقَيمات للتّصبّر، أو قطعة من البسكويت، أو قَضَمات من ساندويتش تمّ تعبئته قبل اثنتي عشرة ساعة أو يزيد، تمرُّ الصّبايا  وقد ساح كحلهنّ من العيون، وبَهَت طلاءُ وجوههنّ، واختفى لونُ روج الشفاه وراح بريقُه، وصارت مشيتهنّ المُتغندرة يشوبها الآن الذلّ، والانكسار، وعدم الاكتراث، وهنّ اللواتي كنّ قبل ساعات يتحرّكن مُتغندرات يحلمن بلقاء الأهل والأحبّة، يُمرجحن أيديهنّ في حركات أنثويّة مثيرة، والآن همدت إثارتهنّ واهتمامهن، فسطوة الشمس وحرّها فعلت فيهن ما فعلت، فضاقت صدورهن لأتفه الأسباب."(ص169-170).

ومشهد أشدّ ألما "وكلّما أتت المَعدية انفرجت أساريرهم، وتهلّلت وجوههم، ويُتمتمون.. هانت.. هانت. تأتي المَعدية يستبشر الواقفون، يتهيّأون، بعضُهم يجري إلى عربته، تتحرّك عكاكيز المتعكّزين إلى أماكنهم، يتجمّع الناس عند عرباتهم، يقف السائقون جوار أبواب عرباتهم المفتوحة، يهدأ الأطفال، يهدأ جري الصبايا والصبيان، تنهرُ الأمّهاتُ أبناءَهن في دعوة للصّمت، والانتباه للإشارة التي ستُعلن بدء الصّعود إلى المَعدية، التّفاؤل صاحب الوقت، يجري الهمس والكلام بين الواقفين، تأخذ عيونهم صورا لا حصر لها لأيدي الجنود ويد الضابط الواقف المسئول عن المشهد كله، ترى متى يرفع يدَه؟ متى تبدأ القافلة بالمسير؟ متى يبدأ اعتلاء المعدية؟ تتعلّق العيون بيدي الضابط وأيدي الجند؟ تقف المعدية دقائق لا يركبها أحد، ودقائق أخرى فلا يركبها أحد، ثم تبدأ بالعودة إلى البرّ الثاني فارغة والناس يتحسّرون، ينطفئ أملُهم، تُغيظهم شمسٌ توسّطت السماء، ولهيب يحرق جلودَهم ووجدانهم."(ص171-172) ويُعلّق فادي المظلوم بحرقة "عمري ما أعيدها وأسافر، يا ريت ظلّيت في تركيا ولا أجيت هالمشوار." ويقول سليم حميدوش " يا ريت رجلي كلها راحت ولا إجيت هالمشوار" وتزيد الحاجة مريم "والله لو رايحين على أمريكا زمان وصلنا". أمّا فوزية فقالت:" طلع مخيّم جرش أحسن مكان في الدنيا"، وتمتم حمادة السائق "وحِّدوا الله، السّفر قطعة من العذاب". (ص179-180).

 

ورغم كلّ الألم والتّعب يظلّ للحبّ والفرح مكان

وحتى لا يترك الكاتبُ قارئه في حالة الحزن المُتواصلة جاء بقصة العلاقة البريئة المُتمنّاه بين العائد فادي المظلوم والفتاة الجميلة التي جذبته بابتسامتها ولَفَتاتها فظل يُطاردها حتى عرف مَن هي وأين تُقيم وحلم بأن تكون زوجته.

كذلك أتى بقصة غريبة للحبّ الكبير الذي تكنّه السيارة التي تُقل العائدين لسائقها حمادة الذي تُلازمه في كل سفراته وتُمضي معه الساعات الطويلة. ورغم اعتبار البعض لها  قصة غريبة غير واقعيّة، وما هي إلّا من عالم الفانتازيا، فإنّنا جميعا قد نكون عشنا مثلها قصة تَعَلُّق وارتباط مع السيارة التي عايشتنا لمدة طويلة من الزّمن أو مع شجرة زرعناها ورعيناها وعشقناها أو حيوان عاش بيننا ورافقنا سنوات من عمرنا حتى أصبح واحدا من أفراد البيت، فأيّ حزن وألم اعترانا عندما بعنا السيارة وأخذها مُشتريها وابتعد، وكم دموع ذرفنا على اقتلاع الشجرة التي رعينا وروينا واستظلّينا بفروعها وأوراقها، أو على بيع أو موت حيوان كبر بيننا، وكانت لنا ذكريات وقصص معه فصعب علينا افتقاده والتّعوّد على الحياة بدونه.  

فسيّارة حمادة المرافقة له في كل رحلاته الساعات الطويلة تأنسنت لتكون امرأة عاشقة لحمادة، تغار عليه من زوجته إذا تحدّث معها، وتفرح إذا داعبها ولامسها وشدّ عليها وهما معا وتدعوه حبيبي " نزل حبيبي محمد الشوربجي "حمادة" من العربة وصفق الباب، بقيتُ وحيدة أتفحص وجوه وقامات المسافرين، أين ذهبتَ وتركتني؟! منذ سنين طويلة والحبّ بيننا يشتدّ ساعة بعد ساعة، وشهرا بعد شهر، أمُّ عيالك تنافسني على حبّك وأنا أمضي معك حيثما ذهبتَ، وهي تستلقي على سريرها في انتظارك بينما أنت معي لا تتركني."(س142) صرتُ أئنّ من طول وقفتي، وقد بدأت الشمسُ تضربُ جوانبي حتى أتى حمادة وجلس بقربي، ينفث دخان سيجارته ويشبك يديه وراء ظهره ليستريح قليلا، فتلامس يديه كتفي، تسري فيَّ نشوة اللمس، وسحر جلوسه بقربي، يُلامسني بكل راحة، وأنا أحسّ بشوقه لينام بجواري ويستريح، أو ينطلق بي من المكان عبر الحاجز" (ص147).

 

امتداد زمن الرحلة والحبّ المُتبادل العميق

هذه الرحلة التي كان يقطعها المُتَنقّل ما بين القاهرة وغزة في خمس أو ست ساعات بفرح وسعادة وحبّ أصبحت رحلة عذاب لا يُطاق حتى أنّ سليم حميدوش كان يُفضّل لو قُطِعَت ساقه ولا يتحمّل كلَّ هذا العذاب الذي لازمه طوال ساعات الرحلة. ومثله ندم البعضُ لمجيئهم إلى القاهرة وتمنّوا لو بقوا في غزة. وعذاب الرحلة ليس فقط لطول الوقت وبُعْد الطريق وإنّما لما يُعانيه المسافر من الحرارة القاتلة ولهيب الصحراء وبَرْد الليل والخوف المُلازم طوال الطريق، أضف إلى كثرة الحواجز وإجراءات التّفتيش المتكرّرة وما تستدعيه من إنزال الحقائب وفتحها، وإعادة ترتيبها وتحميلها. لكن هذا العذاب الكبير لم ينل من حبّ الفلسطيني للمصريين، فهو يرى في الجندي المصري بطلا وأخا وصديقا، وهذا الحب مثله ما أظهره الجنود والضباط المصريون للمسافرين رغم تشديدهم في المُراقبة والتفتيش والتزام القوانين فكانوا يتمنون للعائدين إلى غزة الخير والسّلامة ويُحمّلونهم السلام لأهل غزة وفلسطين.

 

حياديّة المكان والزّمان وحتى الإنسان

المُثير للانتباه في رواية "وجع لا بدّ منه" تلك الحياديّة الإيجابيّة لكلّ من الزمان والمكان وحتى الإنسان. فرغم المُعاناة الطويلة والعذاب الذي واجهه العائدون إلى غزة بسبب طول المسافة ما بين القاهرة ومدينة غزة ومَشاقّ التّنقّل في الأمكنة خاصّة عبور قناة السويس بالمَعديّة، وصحراء سيناء الواسعة، وقسوة أشعة الشمس بحرارتها اللاهبة، ولسع بَرْد الليل الصحراوي، وضيق السيّارة وعدم راحتها للمسافرين فإنّ مشاعر الحبّ والمودّة والحنين للزمن الجميل الذي كان هو ما عبّر عنه العائدون تجاء مصر، وحتى الطرق الطويلة المُتعِبة وصحراء سيناء التي طالما عبروها بشغف وحبّ، وقد برز هذا الحبّ في التّعامل مع رجال الشرطة والجنود والضباط المصريين وفي الاستقبال الرائع والكرم والضيافة التي استقبلَ بها أصحابُ "استراحة القدس" كلَّ العائدين بتوفير الطعام والرعاية والمَبيت الآمن الدافئ لهم.

 

جَماليّة رواية "وجع لا بُدّ منه"

كما ذكرتُ سابقا إنّ "وجع لا بُدّ منه" ليست رواية بالمفهوم الذي نعرفه للرواية وإنّما هي مجموعة قصص مبتورة يرويها ركّاب سبعة: ثلاث نساء وأربعة رجال، فلا بطولة فردية فيها وإنّما كلّ واحد من المسافرين، وحتى السّائق والعَربة كان له الدّور المهم والمُكمّل، فالبطولة جماعيّة شارك فيها الجميع.

 واحتلّ المكان في الرواية موضعا مركزيّا مؤثّرا حيث كان تأثيرُه واضحا على كل واحد من المسافرين، فلكلّ مكان كانت قصتُه ومواجعُه، وكلّ واحد من العائدين يجد نفسه مدفوعا لتَرك المكان الذي يُقيم فيه ليصل إلى المكان الذي يضمن له الحماية والأمان والاستقرار، وغزة كما يؤكّد كل واحد من العائدين هي المكان الذي يعشقون ويطلبون، وفيه تنتهي أوجاعُهم وتهدأ نفوسُهم وتستقرّ حياتُهم.

ما يأخذ بالقارئ ويشدّه إلى الرواية إضافة إلى هذه الجَماعيّة المُؤلِّفة بين العائدين هذا الدَّفْقُ العاطفي المُنسابُ مع كلّ حرف وكلمة وعبارة، وهذه الأُلفة والمحبّة التي ربطت بقوّة بين جميع العائدين في السيارة التي أخذت بهم بهمّة وقوّة نحو مُبتغاهم الذي رغبوا في وصوله، مدينتهم غزة التي لم يخلّق في البلاد مثلها. والقصص الجميلة التي استذكرها واسترجعها ورواها كلُّ واحد من السّبعة العائدين.

ذكاء الكاتب كان واضحا في التزامه بسَرد جميل ناعم مُثير مُخترقا به دواخلَ شخصيّاته وأفكارهم، مُعرّفا بهم ومُعلّقا إذا لزم الأمر، مُتّخذا دورَ السّارد العليم، ولكن بحياديّة ناعمة تُظهر عُمقَ مَحبّته وتعاطفه مع كلّ واحد وواحدة، وحتى مع السيّارة التي تأنسنت بصورة امرأة عاشقة لسائقها المُلازم لها في كل سَفراته ورحلاته.

وكان للحوار المُتَقطِّع القصير بين ركّاب السيارة وتآلفهم مع بعضهم البعض ومُساعدة الواحد للثاني ما يجعل القارئ،لا شعوريّا، يجدُ نفسَه واحدا من هؤلاء، وشريكا لهم في همومهم وأحزانهم وأفراحهم.

 

النهاية لرحلة الوجع الذي لا بُدّ منه

ولتكن النهاية التي أفضّلها لهذه الرحلة القاسية المُوجعة كلمات مختارة تأخذ بالقارئ في ردّة استرجاعيّة تُذكّر وتنبّه لما فاته من مَشهد أو عبارة أو معنى أو دلالة بعيدة مثل كلمات علي الغمري المُعبّرة عن المحبّة والتّعاطف مع الشعب المصري مُمثَّلا بالجندي المُرابط والحامي للوطن: والله هالجندي غلبان مثلنا.. الشمس بتضرب فيه وفينا.. منهم لله اللي منهم السبب في تعبنا وفي تعب هالعسكر الغلابا.

وتعليق إبراهيم الوالي الثاقب الواعي والعميق: هذا شغل الشرق الأوسط الجديد خلقوا الفوضى في بلادنا وبتفرجوا علينا. (ص 235)

ومشهد الحبّ الراّقي المجهول النهاية بين فادي المظلوم والصبية التي شدّته في الطريق: "حانت منها نظرة إلى الطابور خلفها، اصطدمت عيناها بعيني فادي المظلوم الذي ابتسم ورفع يده بالتّحيّة، وهمس لنفسه وجدتها وجدتها.

لاحظت تحيّته فرفعت يدَها إلى شعرها تُمسّده في ردّ خجول على تحيّته، نظرت إليه وقد ارتسمت على ملامحها ابتسامة جميلة. (ص267)

وهذه الجملة المَشحونة بالمعاني والدّلالات للكاتب عبد الله تاية:

غزة التي لم يُخلق مثلها في البلاد ولا في البلاء (ص185)

الرامة

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب