news-details

"وظائف تافهة" لديفيد غرايبر | حسن مصاروة

عن الكاتب

رحل عنا قبل اسبوعين، في الثاني من أيلول الجاري، المفكر الأمريكي ديفيد غرايبر عن عمر ينهاز الـ62 وهو عالم انثروبولجيا شهير ومفكر ومنظر اناركي ثوري، وكان  أحد أبرز الشخصيات في حركة "احتلوا وول ستريت" وكانت مساهمته حاسمة في نحت شعار "نحن الـ 99%"، الذي كان الشعار الأبرز الذي رفعته تلك الحركة وانتشر ليكون شعارًا للكثير من الحركات الاحتجاجية حول العالم.

شارك غرايبر في تكوين العديد من الحركات الاحتجاجية حول العالم، حيث كان له وجود بارز في العديد من المظاهرات اليسارية الكبرى خلال العقدين الماضيين. وألف قبل عدة سنوات كتاب "الدَّين: أول 500 سنة" الذي سجل أعلى المبيعات، وناقش فيه نشأة وتطور الدَّين على مدار خمسة آلاف عام من تاريخ البشرية، واستعرض من خلاله تاريخ الديون مع المجتمعات المختلفة، من شعوب غرب أفريقيا والسومر القديمة إلى أيرلندا في العصور الوسطى والدولة المعاصرة في الولايات المتحدة، ليكشف تناقض نظرة الشعوب للديون، حيث يراها البعض التزاماً، بينما يعتبرها آخرون خطيئة، وتتعامل معها بعض الدول على أنها المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، بينما تكون في كثير من الأحيان أداة للقمع. 

هذا بالإضافة إلى رسالته لنيل درجة الدكتوراه من "جامعة شيكاغو"، وكانت دراسة ميدانية أثنوغرافيّة عن السحر والعبوديّة والسياسة في مجتمع بدائيّ في جزيرة مدغشقر، إلى جانب عشرات المقالات والحوارات والمحاضرات العامة والجامعية. وهناك كتاب له بالتعاون مع ديفيد وينغرو سيصدر في عام 2021 عنوانه "فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشريّة". من مؤلفاته ايضًا "نحو نظرية أنثروبولوجية للقيم" و "الشعب المفقود: السحر وتراث العبودية في مدغشقر" و"المشروع الديمقراطي".

بين  أكثر كتبه شهرةً، كان "وظائف تافهة: نظريّة" الصادر في عام 2018 وفيه ينظر أن الرأسماليّة المعاصرة احتفظت بمنطق الوظائف التي تمتد لأكثر من 40 ساعة أسبوعيّاً، في وقت يمكن فيه بالاستفادة من التكنولوجيا الحصول على ذات الإنتاجية في 15 ساعة أسبوعياً وفق توقع عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز في ثلاثينيات القرن الماضي لشكل الوظائف عند نهاية القرن العشرين. واعتبر التقدّم التكنولوجي وكأنه تحوّل إلى أداة لقضاء مزيد من الوقت في إنجاز العمل التافه الذي بلا جدوى فحسب، وأن هذه النوعيّة من الوظائف لها تأثير مدمّر على صحة الأفراد النفسّة والروحية، ما يضعف الإنتاجية ولا يزيدها فعلياً. في سعي الطبقة الحاكمة على الابقاء على هيمنة رأس المال. وتحدث عن مفهوم الوظائف الضرورية وكيف ان من يشغلها بالذات يعاني من الاضططاد والاستغلال في حين أن من يشغلون وظائف تافهة يزداد عددهم ويتضاعف راتبهم، هذا المفهوم الذي يكتسب في زمن وباء كورونا أهمية خالصة بالذات حين يعيد المجتمع اكتشاف اهمية من يشغلون الوظائف الضرورية في زمن الاغلاق العام. والكتاب هو امتداد لمقال شهير نشره غرايبر في عام 2013، والذي تُرجم لاحقًا إلى عدة لغات. اثر ذلك المقال حصل جدل ومراسلات من آلاف المشاركين والمتفاعلين حول العالم الذي قرأوه وتواصلوا مع الكاتب، طلب غرايبر مئات الشهادات من أشخاص لديهم وظائف يعتقدون أن لا معنى لها وقام بالتوسع حول القضية في كتابه الذي نشر عام 2018.
أقدم هنا ترجمة خاصة لصحيفة الاتحاد للمقال الشهير والمهم.


حول ظاهرة الـ"وظائف التافهة" | ديفيد غرايبر

في عام 1930 ، تنبأ جون ماينارد كينز أنه بحلول نهاية القرن  العشرين، ستكون التكنولوجيا قد تقدمت بما يكفي بحيث تصل دول مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة لتحقيق حد الاكتفاء بـ15 ساعة عمل للفرد في الأسبوع. لدينا كل الأسباب للاعتقاد بأن كينز كان على حق. من الناحية التكنولوجية، نحن قادرون تماماً على ذلك. ومع ذلك لم نصل الى هناك. بل بدلاً من ذلك، تم تنظيم وتوجيه التكنولوجيا لاكتشاف طرق تجعلنا جميعًا نعمل أكثر. ومن أجل تحقيق ذلك، كان لا بد من خلق وظائف لا طائل من ورائها. شرائح ضخمة من الناس، في أوروبا وأمريكا الشمالية على وجه الخصوص، يقضون حياتهم العملية بأكملها في أداء وظائف يعتقدون، في أعماقهم، أنها لا تحتاج حقًا إلى من يؤديها. الضرر الأخلاقي والروحي الناجم عن هذا الوضع هو فعلاً فادح. إنها ندبة في روحنا الجمعية، لكن عمليا لا أحد يتحدث عن ذلك.

لماذا لم تتحقق يوتوبيا كينز الموعودة؟ الاجابة الكلاسيكية اليوم هي أن كينز لم يتنبأ بالزيادة الهائلة في النزعة الاستهلاكية. أي أنه حينما أعطينا الاختيار بين ساعات عمل أقل والمزيد من وسائل الترفيه والمتعة، اخترنا بشكل جماعي الأخيرة. هذا يقدم قصة أخلاقية جميلة حول المسألة، لكن الحقيقة أن هذه الاجابة لا يمكن أن تكون صحيحة. نعم، لقد شهدنا إنشاء مجموعة متنوعة لا حصر لها من الوظائف والصناعات الجديدة منذ العشرينات، لكن القليل منها له أي علاقة بإنتاج وتوزيع تلك المنتجات الجديدة التي تلبي الرغبة المتصاعدة في الاستهلاك مثل أجهزة "ايفون" أو الأحذية الرياضية الفاخرة.

إذن ما هي هذه الوظائف الجديدة بالتحديد؟ تقرير حديث يقارن التوظيف في الولايات المتحدة بين عامي 1910 و 2000 يعطينا صورة واضحة: على مدار القرن الماضي، انهار بشكل دراماتيكي عدد العمال الذين تم توظيفهم في قطاع الصناعة وفي قطاع الزراعة. في الوقت نفسه، تضاعف عدد العمال في الوظائف المهنية والادارية والكتابية وفي المبيعات والخدمات ثلاث مرات، اذ زادت نسبة هذه الوظائف من ربع إلى ثلاثة أرباع من إجمالي العمالة. بكلمات أخرى، فإن الوظائف المنتجة، كما هو متوقع، انخفضت بشكل كبير وحلت الآلة مكانها بفعل تطور التكنولوجيا. وحتى لو أخذنا في الحساب العمال الصناعيين على مستوى العالم، بما في ذلك الجماهير الكادحة في الهند والصين، فإن مثل هؤلاء العمال لم يعودوا يمثلون نسبة كبيرة من سكان العالم كما كان الأمر في الماضي.

ولكن بدلاً من السماح لتخفيض هائل لساعات العمل بأن يفعل فعله الطبيعي بتحرير البشر نحو سعيهم وراء مشاريعهم الخاصة وملذاتهم ورؤاهم وأفكارهم، فقد شهدنا تضخمًا في قطاع "الخدمات" كما في القطاع الإداري، بما في ذلك إنشاء صناعات جديدة كاملة مثل الخدمات المالية أو التسويق عبر الهاتف، أو التوسع غير المسبوق في قطاعات مثل قانون الشركات، والإدارة الأكاديمية والصحية والموارد البشرية، والعلاقات العامة. ولا تعكس هذه الأرقام حتى هؤلاء الأشخاص الذين تتمثل وظيفتهم في توفير الدعم الإداري أو الفني أو الأمني ​​لهذه الصناعات، أو في هذا الصدد مجموعة كاملة من الصناعات المساعدة (رعاية الحيوانات الأليفة، توصيل البيتزا طوال الليل) الموجودة فقط لأن الآخرين يقضون الكثير من وقتهم في العمل في جميع المجالات الأخرى.

هذه هي الوظائف التي أقترح تسميتها "وظائف تافهة". يبدو الأمر كما لو كان هناك شخص ما يقوم بوظائف لا طائل من ورائها فقط من أجل إبقائنا جميعًا نعمل. وهنا بالتحديد يكمن اللغز. في الرأسمالية، هذا بالضبط ما لا يفترض أن يحدث. بالتأكيد، في الدول الاشتراكية القديمة غير الفعالة مثل الاتحاد السوفيتي، حيث كان التوظيف يعتبر حقًا وواجبًا مقدسًا على حد سواء، اخترع النظام العديد من الوظائف لايجاد عمل للجميع (ولهذا السبب في المتاجر السوفيتية احتاج الأمر ثلاثة عمال لبيع قطعة من اللحم). لكن، بالطبع، هذا هو نوع المشاكل ذاتها التي من المفترض أن تحلها المنافسة في السوق الحرة. وفقًا للنظرية الاقتصادية، على الأقل، فإن آخر شيء ستفعله شركة تسعى للربح في سوق المنافسة الحرة هو صرف أموال زائدة على العمال الذين لا يحتاجون حقًا إلى توظيفهم. لكن لا يزال، بطريقة ما، يحدث ذلك في الواقع.

وفي حين أن الشركات قد تضطر  لتقليص حجم العمالة بشكل قاس بين الفترة والأخرى، فإن تسريح العمال وتسريع العمل يقع على عاتق تلك الفئة من الأشخاص الذين يشغلون وظائف حقيقية، اولئك الذين يصنعون المنتجات وينقلونها ويصلحونها ويحافظون عليها. ومن خلال "تركيبة سحرية" لا يمكن لأحد أن يشرحها تمامًا، يبدو أن عدد  الذين يشغلون الوظائف الورقية يتزايد ويتقاضون رواتب بشكل يتصاعد ويتضاعف، ويجد المزيد والمزيد من الموظفين أنفسهم، على عكس العمال السوفييت في الواقع، يعملون 40 أو حتى 50 ساعة أسبوعًا على الورق، لكنهم بالفعل وبمقياس الانتاج يعملون 15 ساعة في الاسبوع تمامًا كما توقع كينز، بسبب أن بقية وقتهم في العمل يقضونه في تنظيم أو حضور ندوات تحفيزية أو تحديث صفحاتهم على فسيبوك أو مشاهدة مسلسلات تلفزيونية على الانترنت.

من الواضح أن التفسير ليس اقتصاديا هنا: بل هو تفسير أخلاقي وسياسي. لقد اكتشفت الطبقة الحاكمة أن المواطنين السعداء والمنتجين الذين لديهم وقت فراغ في أيديهم يشكلون خطرًا على المنظومة (لنفكر في ما بدأ يحدث عندما اقتربنا من شيء مماثل عندما انخفضت ساعات العمل في الستينيات). ومن ناحية أخرى، فإن بث شعور بأن العمل هو قيمة أخلاقية في حد ذاته، وأن أي شخص لا يرغب في الخضوع لنوع من انضباط العمل المكثف لمعظم ساعات يقظته لا يستحق شيئًا، هو أمر مفيد للغاية بالنسبة للطبقة الحاكمة.

ذات مرة، عندما كنت أفكر في النمو اللامتناهي الواضح للوظائف الإدارية في الأقسام الأكاديمية البريطانية، توصلت إلى تصور محتمل عن الجحيم. الجحيم عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين يقضون معظم وقتهم في العمل في مهمة لا يحبونها ولا يجيدونها بشكل خاص. لنفترض أنه تم تعيين عمال لأنهم يجيدون صناعة الخزائن بشكل ممتاز، ثم اكتشفوا أنه من المتوقع منهم أن يقضوا وقتًا طويلاً في قلي السمك. وهذه المهمة-قلي السمك- لا تحتاج حقًا لمن يقوم بها -أو على الأقل، هناك عدد محدود جدًا من الأسماك التي تحتاج إلى قلي-. ومع ذلك، بطريقة ما، أصبح هؤلاء العمال مهووسين ومستائين من فكرة أن بعض زملائهم في العمل يقضون وقتًا أطول في صنع الخزانات حقًا، ولا يقومون بنصيبهم العادل من مسؤوليات "قلي السمك"، وبعد فترة طويلة يتراكم في مكان العمل كومة عديمة الفائدة من السمك المقلي بشكل سيء. أعتقد أن هذا التشبيه يعيطنا وصفًا دقيقًا للغاية لكيف تعمل الديناميات الأخلاقية لاقتصادنا.

أدرك جيدًا أن أي ادعاء من هذا القبيل ستواجه اعتراضات فورية: "من أنت لتحدد ما هي الوظائف" الضرورية "حقًا؟ ما هو "الضروري" على أي حال؟ أنت أستاذ في علم الأنثروبولوجيا، ما هي "الحاجة" لذلك؟ هل وظيفتك "ضرورية" ؟ (وبالفعل فإن الكثير من قراء الصحف الصفراء قد يعتبرون وجود وظيفتي هو بحد ذاته تعريف للإنفاق الاجتماعي المهدر). وعلى أحد المستويات، هذا صحيح بشكل واضح. لا يمكن أن يكون هناك مقياس موضوعي لتقدير القيمة الاجتماعية.

بالطبع لن اتبرع بأن أخبر شخصًا مقتنعًا بأنه يقدم مساهمة ذات مغزى للعالم من خلال وظيفته، أنه في الحقيقة لا يفعل ذلك. ولكن ماذا عن أولئك الأشخاص الذين هم أنفسهم مقتنعون بأن وظائفهم لا معنى لها؟ منذ وقت قريب، تواصلت مع صديق قديم من أيام المدرسة لم أره منذ أن كان عمري 12 عامًا. لقد دهشت عندما اكتشفت أنه في هذه الأثناء، أصبح أولاً شاعراً، ثم المغني الأول في فرقة موسيقى روك مستقلة. لقد سمعت بعض أغانيه فعلا على الراديو ولم أكن أعرف أن المغني كان شخصًا أعرفه بالفعل. كان من الواضح أنه كان بارعًا ومبتكرًا، وعمله بلا شك أدى إلى تحسين واضاءة حياة العديد من الناس في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، بعد بضعة ألبومات غير ناجحة، خسر عقده وعمله، وابتلي بالديون، ولديه طفلة حديثة الولادة عليه أن يعيلها، فانتهى به الحال، على حد تعبيره، "باختيار الخيار الطبيعي  للاشخاص الذي فقدوا أي اتجاه في حياتهم: كلية الحقوق". وهو يعمل الآن محامي شركاتي في شركة بارزة في نيويورك. كان هو من اعترف من تلقاء نفسه بأن وظيفته كانت بلا معنى على الإطلاق، ولا تساهم بشيء في العالم، وفي تقديره الخاص، لا ينبغي أن تكون موجودة حقًا.

هناك الكثير من الأسئلة التي يمكن طرحها هنا، بدءًا من، ماذا يمكننا أن نستنتج عن مجتمعنا الذي يبدو أنه يولد طلبًا محدودًا للغاية بالشعراء والموسيقيين الموهوبين في سوق العمل، ولكن يبدو أنه يولد طلبًا غير محدود للمتخصصين في قانون الشركات؟ الإجابة: إذا كان 1٪ من المجتمع يسيطرون على معظم الثروة، فإن ما نطلق عليه "السوق" يعكس ما يعتقدون هم أنه مفيد أو مهم ومطلوب في السوق. ولكن الأهم من ذلك، يبدو أن معظم الأشخاص في هذه الوظائف هم في نهاية المطاف يدركون تفاهتها. في الواقع، لست أعتقد أنني قابلت محامي شركة لم يعتقد أن وظيفته كانت "وظيفة تافهة". الشيء نفسه ينطبق على جميع الصناعات الجديدة المذكورة أعلاه تقريبًا. هناك فئة كاملة من المهنيين الذين يتقاضون رواتبًا عالية، إذا قابلتهم في حفلة وقلت لهم بأنك تفعل شيئًا قد يُعتبر مثيرًا للاهتمام (عالم أنثروبولوجيا، على سبيل المثال)، وستجدههم يتجنبون مناقشة أي شيء يخص مجال عملهم بطريقة أو باخرى. ثم أعطهم بعض كؤوس المشروب، وسوف يطلقون الخطابات حول مدى غباء وعبثية عملهم حقًا.

نحن نتكلم عن عنف سيكولوجي عميق هنا. كيف يمكن للمرء أن يتحدث عن الكرامة في العمل بينما يشعر المرء في أعماقه أن وظيفته لا ينبغي أن توجد اصلاً؟ كيف لا يخلق ذلك إحساسًا بالغضب والحنق والاستياء العميق. ولذلك فقد توصلت الطبقة الحاكمة في مجتمعنا إلى حل عبقري، كما في حالة "قلي السمك"، ضمان توجيه هذا الغضب الذي نتحدث عنه ضد أولئك بالتحديد الذين يقومون بالفعل بعمل هادف، من يقومون فعلاً بـ"صنع الخزائن". على سبيل المثال: في مجتمعنا، يبدو أن هناك قاعدة عامة مفادها أنه كلما كان عمل الفرد يفيد الآخرين، كان أجره أقل. مرة أخرى، من الصعب العثور على مقياس موضوعي لتقدير "ضرورة" وظيفة ما، ولكن إحدى الطرق السهلة لفهم ذلك هي طرح السؤال التالي: ماذا سيحدث لو اختفت هذه الفئة بأكملها من الناس؟ قل ما تريد عن الممرضات أو جامعي القمامة أو الميكانيكيين، لكن من الواضح أنهم إذا اختفوا في لمحة بصر، فستكون النتائج فورية وكارثية. عالم بدون مدرسين أو عمال ميناء سيقع في مشكلة في أقرب وقت، وحتى عالم بدون كتاب خيال علمي أو موسيقيين سيصبح مكانًا أقل بهجة وجمالاً. لكن ليس من الواضح تمامًا كيف سيعاني العالم في حالة اختفاء جميع الرؤساء التنفيذيين في الشركات الخاصة، أو جماعات الضغط، أو باحثي العلاقات العامة، أو خبراء التأمين، أو المسوقين عبر الهاتف، أو المستشارين القانونيين. (حتى أن البعض يظن أنه قد يتحسن بشكل ملحوظ). ومع ذلك، باستثناء حفنة من الاستثناءات التي تم الترويج لها جيدًا (مثل الأطباء الذين يقومون بعمل ضروري ويتقاضون أجرًا جيدًا نسبيًا)، فإن قاعدة  أنه كلما كان عمل الفرد يفيد الآخرين، كان أجره أقل، تنطبق بشكل مدهش.

والأمر الأكثر انحرافًا ،انه  يبدو أن هناك شعورًا واسعًا بأن هذه هي الحال الطبيعية التي يجب أن تكون عليها الأشياء. هذه إحدى نقاط القوة السرية لليمين الشعبوي. يمكنك أن ترى ذلك عندما تثير الصحف الصفراء الاستياء وتحرض على الغضب من عمال مترو الانفاق لانهم قاموا بشل لندن أثناء اضرابهم المتعلق بتحسين ظروف عملهم: حقيقة أن عمال مترو الانفاق يمكنهم شل لندن تظهر أن عملهم ضروري بالفعل، ولكن يبدو أن هذا هو بالضبط ما يزعج الناس. الأمر أكثر وضوحًا في الولايات المتحدة، حيث حقق الجمهوريون نجاحًا ملحوظًا في تعبئة وتحشيد الناس للاستياء والغضب من معلمي المدارس، أو عمال مصانع السيارات حينما اضربوا من أجل رفع معاشاتهم وتحسين ظروف عملهم، في حين لم يتوجه الغضب ضد مسؤولي قطاع التعليم أو مديري صناعة السيارات الذين تسببوا بالفعل في حدوث هذه المشاكل. يبدو الأمر كما لو انه يقال لهم "لكن يتوفر لك أن تعلم الأطفال! أو أن تصنع سيارات! يتوفر لك الحصول على وظائف حقيقية! وفوق ذلك، لديك الجرأة والوقاحة  بالمطالبة بالحصول على  معاشات الطبقة الوسطى والرعاية الصحية؟".

لو أن  شخصًا بذل جهده لتصميم نظام عمل مناسب تمامًا للحفاظ على قوة رأس المال واستمرار المنظومة الرأسمالية، فمن الصعب أن ترى كيف كان بإمكانه القيام بتصميم أفضل من المنظومة الموجودة حاليًا لذلك. العمال الحقيقيون المنتجون يتعرضون للضغط والاستغلال بلا هوادة. وباقي المجتمع مقسم بين طبقة مرعوبة ومنبوذة عالميا، وهي طبقة المعطلين عن العمل، وطبقة أكبر تتقاضى رواتبًا في الأساس مقابل عدم القيام بأي شيء حقيقي، في مواقع مصممة لجعلهم يتماهون مع وجهات نظر وأهواء الطبقة الحاكمة- ولا سيما توجهاتها المالية- ولكنها في ذات الوقت تزرع فيها غضبًا عارمًا ضد أي شخص يتمتع عمله بقيمة اجتماعية واضحة لا يمكن إنكارها. من الواضح هذا أن النظام لم يتم تصميمه بشكل واع. بل تشكل عبر ما يقرب من قرن من التجربة والخطأ. لكن هذا هو التفسير الوحيد لماذا، على الرغم من تطور قدراتنا التكنولوجية، لا نعمل جميعًا 3-4 ساعات في اليوم.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب