news-details

أسانج والحرب على الحقيقة

في المؤتمر الصحفي لويكيليكس، 23 تشرين الأول\كتوبر 2010، تم الإعلان عن أكبر تسريب في تاريخ المؤسسة العكسرية الامريكية. تم نشر "سجلات حرب العراق". هناك، كان جوليان أسانج، مؤسس ومحرر منظمة ويكيليكس، قد استهل كلام المؤتمر بالقول: "هذا الكشف الذي لدينا، هو بالأساس عن الحقيقة". 

 من بين التفاصيل والقصص المرعبة التي  تضمنتها هذه الوثائق التي كُشف عنها، كانت مجموعة ادلّة عن مقتل 15,000 مدني عراقي عملت الحكومة الامريكية ومؤسساتها على اخفائها عن الجمهور. من بين الـ150,000 ألف عراقي الذين قتلوا 80%  منهم كانوا من المدنيين الأبرياء الذين لم يشاركوا في أي عمل مقاومة.

 في صياغته لهدف المبادرة، صرّح أسانج قائلًا: "نأمل في تصحيح بعض الاعتداءات التي شُنت على الحقيقة، الاعتدءات التي شُنت ما قبل الحرب، وأثناء الحرب والتي استمرت ما بعد الانتهاء "الرسمي" للحرب". هذه هي المعركة  التي يخوضها أسانج وأمثاله من الصحافيين، يقاتلون في معركة مضنية على جبهة الحقيقة ضد السُلطة.

وفي حين أن وجدان معظم الصحفيين اليوم يخلو من الأمانة فيما تمتلئ جيوبهم بالمال، يمكن رؤية أن هذا الخطاب الأخلاقي السياسي يؤثر في العديد من الصحافيين والصحفيات الشرفاء حول العالم، مثل جوليان أسانج. الصحافيون الذين وقفوا باستمرار بانحياز تام إلى المظلومين والمضطهدين، الذين يتم قمعهم على نطاق واسع بواسطة البروبغاندا التي تفرزها الأجهزة الإعلامية السائدة، العنصرية والجهل والقمع المستمر للحقيقة وتلفيق الأكاذيب من قبل النخبة السياسية الحاكمة. هؤلاء الصحافيون، يرون عملهم بمثابة نداء أخلاقي، مهمة لا نهاية لها، للكشف عن الحقيقة. إذا كيف نفهم هذه اللغة التي ترتكز على مفهوم الحقيقة؟ كيف نفهم الواقع السياسي من خلال منظور هذا (النموذج)؟ ما هو تاريخ هذا التقليد الراديكالي؟ والأهم من ذلك، ما هو دورها التاريخي؟

 

أي جريمة تلك التي اقترفها  أسانج ليواجه حكمًا بالسجن لمدّة ١٧٥ عامًا في الولايات المتحدة (اذا تم تسليمه من لندن)؟ لماذا كان يقضي فعلياً عقوبة سجن لمدة سبع سنوات ، في الغرفة الصغيرة بالسفارة الإكوادورية ، ليتعرض للغدر ويتم بيعه من قبل الدولة التي كان من المفترض أن توفر له اللجوء، مقابل الاستثمار الأمريكي؟ جريمته هي: "قول الحقيقة في وجه السلطة". والرسالة التي تريد الولايات المتحدة إرسالها  لأسانج والعالم: "الحقيقة لن تكشف ابدًا". إن أكثر ما يقض مضجع نظام الولايات المتحدة في هذه الحالة هو المصداقية العالية للمعلومات وجودة الأدلّة الملموسة التي جُمعت من قبل ويكيليكس. أدلة لا يُمكن انكارها حتى من الدولة التي تحاول وصم أسانج بأنه عدو. التهم الموجهة إلى أسانج لا تتعلق بدقة أو عدم دقة الرعب المكشوف والعنف العشوائي في العراق، لا يوجد أي سبيل للتشكيك في هذه الحقائق اساسًا-التنكيل بالسجناء ، القصف الشديد للمساحات العامة والمدنية، والقتل العشوائي للأطفال والنساء والرجال العراقيين، استهداف الصحافيّن إلخ ... وفقًا لمنطق الولايات المتحدة ، بينما لا تستطيع انكار كل هذه الجرائم ، فإن الجهة الوحيدة التي يجب أن تتعرض للمحاسبة والمحاكمة هي الشخص الذي كشف هذه الجرائم. ويكيليكس ، وفقا لبيان أدلى به وزير الخارجية ، مايك بومبو، هو "جهاز استخبارات عدائي"،  وأسانج يدعم أهداف "الديكتاتوريين الأعداء". هذا التدليس بحق أسانج بالتعامل معه على أنه "جاسوس وخائن" هو أجلى تجسيد لمحاولة النظام الأمريكي تجريم الحقيقة وقول الحقيقة.

ليس على المرء أن ينظر إلى أبعد من العراق والحرب على العراق حتى يرى كيف تقع الحقيقة ضحية لحرب إمبريالية رأسمالية، حيث القوة وحدها من تفرض الحقائق، وترسم الحدود ما بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر. كما تقول السردية الأمريكية: فإن الولايات المتحدة هي "محرر" ، و "ناشرة الديمقراطية" ، و "قوة الخير في العالم" ، و "حامية بتوكيل سماوي للجنس البشري". أما العراقيون فـ"متعصبون" و"متخلفون"، يعبدون "ديكتاتورًا وحشيًا". إنهم يقاوموننا "نحن" لأنهم "إرهابيون"، وهذه هي المهمة الأخلاقية للولايات المتحدة  في "الحرب على الارهاب"- القضاء على الإرهاب أينما كان. ما هي اذَا الأوهام التي يتبناها المواطنون الامريكيون لشرعنة تصرفات الحكومة (وتمويلها بالضرائب) التي لم تتوقف عن الحرب في تاريخها إلا لمدة سنة واحدة؟
توجد مجموعة كاملة من الأساطير حول "الاستثنائية الأمريكية" وديمقراطيتها التاريخية والقيادة الأخلاقية للولايات المتحدة على النظام العالمي والاستعلاء الغربي وهلم جرا ... هذه السرديات يتبناها سياسيون أمريكيون والعسكريون وإلاعلاميون عبر كل الطيف السياسي. من خلال الإيمان بالشر المطلق الكامن بـ"الآخر الطاغية"، الذي يحمل "أسلحة دمار شامل" ويحمي القاعدة. وما بعد صدمة 11 سبتمبر، أصبحت سردية الأمريكي "الخيّر" والنوايا "الديمقراطية" النبيلة أكثر صعوبة للتشكيك في المخيال الغربي، فعلًا، أصبحت هذه الرواية هي العدسة الأخلاقية التي من خلالها ينظر الفرد الغربي على واقع الحرب.

هنا بالذات يصبح دور أسانج "مزعجًا" للآلة السياسية-الإعلامية الأمريكية ككل.

بدايةً، إن الوقائع التي سربتها ويكيليكس ونشرتها بشأن الحرب على العراق وأفغانستان فككت الصورة الأخلاقية الذاتية للتيارات السياسية الأمريكية الليبرالية منها والمحافظة على حد سواء، والتي يبدو أنها تتحد دائمًا في الحرب على العالم الثالث. لا يمكن وضع أسانج جنبًا إلى جنب مع أيٍ منهم، حيث أن ممارسته غير مدفوعة بالانتماء السياسي الواضح، بل بـ"الالتزام بالحقيقة". فمثلًا، يلوم الليبراليون في الولايات المتحدة أسانج على إسهامه في فوز دونالد ترامب من خلال الكشف عن رسائل البريد الإلكتروني السرية لهيلاري كلنتون التي كانت تتنافس ضده في ذلك الوقت، الأمر الذي عرضها لفضائح متعددة. من المذهل حقًا النظر إلى المشهد الاعلامي في الولايات المتحدة من كلا الطرفين "المتعارضين". في حين أن الإدارة الامريكية تستخدم اتهامات لا أساس لها في ملاحقة أسانج عبر البحار وتسعى نحو سحق حرية الصحافة الحقيقية، فإن الأصوات الصحفية "المعارضة" المزعومة، أي وسائل الإعلام الليبرالية المملوكة للشركات الكبرى التي تروج لسردية "روسيا-جيت"(على غرار فضيحة نيكسون "واترجيت") والتي تدور حول الوهم بأن ترامب عميل روسي – هي ذاتها التي تتهم أسانج بأنه "اداة روسية" نشطة تهدف إلى التدخل في الشؤون الأمريكية.

ففي وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة، تعتبر الحقائق ثانوية أمام المصالح السياسية للاعلام المملوك لأصحاب الشركات. نموذج أسانج للصحافة يسلط الضوء على الفجوة بين الحقيقة كما هي، وحقيقة المؤسسة الرأسمالية السياسية في وجوهها المتعددة؛ ويصبح دور المواطن والمواطنة هنا هو الاختيار بين الاثنين. هذا النموذج من الصحافة يضع الحقيقة قبل السياسة، أي على عكس الصحافة السائدة التي تبيع الحقيقة السياسية المعلّبة أو "حقيقة السياسة" ، يختار أسانج هنا نهج "سياسة الحقيقة".

نستطيع تتبع أثر هذا "التقليد" في النظرة التنويرية الليبرالية العالمية عن وجود "واقع موضوعي" يجب على المثقف اكتشافه من خلال العلم التجريبي والعقلانية. علاوة على ذلك، يمكننا أن نرى كيف أن أسانج يعتمد بسياساته الراديكالية على مفاهيم ليبرالية أساسية مثل "حرية التعبير عن الرأي". والدقة الكاملة لكل دليل من الأدلة التي تم جمعها في ويكيليكس تثبت تقدير أسانج العالي للمنهج العلمي العقلاني الأمبيري. لكن دعونا نعاين هذا الموقف "الأخلاقي" من خلال أفكار أحد أتباع "تقليد الحقيقة"، إدوارد سعيد. في مقاله "اذن للسرد"، يشرح سعيد كيف أن الرواية الغربية-الإسرائيلية حول غزو لبنان عام 1982، سيطرت على وعي الغربيين على الرغم من الأدلة الدامغة التي تثبت وحشية وتعسف العنف الإسرائيلي وهمجيته. وبدلاً من الاعتراف برواية الشعب الفلسطيني واللبناني الذي كافح في الحرب، فهناك "لا-سردية" معينة سيطرت على الوعي الغربي: حيث يكون التناقض بين "نحن" المتحضرين ضدهم "هم" الإرهابيين العنيفين بطبيعتهم.

هذه السرديات المخيالية تم شرعنتها من قبل ماكينة الاعلام "الضابطة" والتي لا تزال سائدة في الحرب على العراق. بالنسبة لسعيد، كانت الحرب على لبنان، هي حرب سرديات ايضًا، لحقيقتين تكافحان من أجل الاعتراف. لذلك، شدّد على أهمية جمع الأشخاص المستضعفين لأدلة دامغة ولأرشفة وتدوين كل شيء. مع ذلك ، أكد على أن "الحقائق لا تتحدث من نفسها". لذا، بينما ادّعى أن التوثيق مهم من أجل بناء صوت الحقيقة الخاص بالشعب المقموع، لكي تواجه هذه الحقيقة السلطة، يجب أن تكون مضمونة في شكل ما من أشكال السرد، الذي يضمن تاريخ حاضر وتطلعات الناس الذين يكافحون.

يبقى السؤال إذًا، هل يكفي قول الحقيقة؟ ليس هناك شك في أن نشر المعلومات التي توضح بالتفصيل حقيقة اشتباكات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على سبيل المثال، يسهم في بناء سردية الشعوب الواقعة ضحية تحت براثن الامبريالية الأمريكية. صحيح أنه بسبب مؤسسات مثل ويكيليكس، ظهر العديد من الحلفاء لهذه الشعوب في الغرب، وحلفاء منظمين ايضًا. ومع ذلك، هل يمكن لسردية متماسكة وسياسية فاعلة ومؤثرة أن تولد بواسطة مجرد السعي وراء الحقيقة؟ وبمجرد أن تحولت هذه الحقيقة إلى معارضة منظمة للنظام، ألا نعتبر أنه في المعادلة بين الحقيقة والسلطة، تحتاج تلك الحقيقة إلى قوة لكي تنتصر؟ ربما.

لكن ربما يكون وجود مثل هذه اللغة والممارسة الباسلة أمرًا بالغ الأهمية في أيامنا هذه. ليس فقط بسبب انعدام وجود يسار جاد في الغرب، وليس فقط بسبب روح "ما بعد-الحقيقة" الساذجة التي تسود الاعلام المسيطر، ولكن أيضًا لأنه بينما تحتاج الحقيقة إلى قوة سياسية للانتصار، لا يمكن لأي إرادة سياسية أن تنتصر بدون "حقيقة" تضفي الشرعية على سرديتها.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب