news-details

أسرار تُنشر لأوّل مرّة| راضي شحادة

(من مفكّرة هاوية مسرح)

 

هاجس مسرحيّ: راضي شحادة

هاجس كاريكاتيريّ: خليل أبو عرفة

 

//خوفًا من الوقوع في هاوية الباسور والنّاسور:

 

    لم أُشاهد الكثير من المسرحيَّات في حياتي لِقلّتها في المحيط الذي أعيش فيه، ولوجود بدائل أخرى مثل التّلفزيون والصّحف والمجلّات ووسائل التّسلية الأخرى، والوسائل التي لها علاقة بذوق الإنسان وثقافته. هذه البدائل لا تكلّفك كبير جهد للحصول عليها أو الاستمتاع بها، ولكنّ المسرح يبقى مغامرة، فأنت بحاجة لسيّارة تقلك إلى مكان العرض إذا كان العرض بعيدًا عن بيتك، وظروف البيت لا تسمح لفتاة مثلي أو للفتيات بشكل عام بالخروج من البيت ليلًا إلّا إذا رافقني أحدُ أفراد أسرتي.

    لا يوجد تقليد في بيتنا من هذا النوع، فنحن لا نخرج لنشاهد مسرحيّة، كما نخرج عادة وبانتظام لسهرات الأعراس، ناهيك عن أنّ المغامرة لمشاهدة مسرحيّة رُبّما تقودك في النِّهاية إلى النّدم، لأنّه لا أحد يستطيع أنْ يضمن لك أنّ المسرحيّة التي تختارها لسهرتك ستلاقي استحسانك، ثمّ أين هي الأعمال المسرحيّة التي تجعلك كما قال المثل"بدّك تحيّره خَيّره"؟

    وتساءلت كثيرًا لماذا لا تتحوّل المسرحيَّات إلى جزء من برامج التّلفزيون، وقد اعتدنا على ذلك من خلال ما شاهدناه وما نتشوق لمشاهدته من مسرحيّات لـ"عادل إمام" و"دريد لحام" و"سمير غانم"؟

    لا أستطيع أنْ أميّز بالفعل بين مُشاهَدة المسرحيّة في التّلفزيون وأنْ تشاهدها على خشبة المسرح؛ ولكنّني خلال مشاهداتي لبعض المسرحيَّات على المنصّة وليس على الشّاشة، كان شعور غريب يتملّكني ويختلف عن شعوري عند مشاهدة برنامج تلفزيوني أو مسرحيّة مصوّرة في التّلفزيون.

    أنفاس النّاس من حولك تجعلك تحسّ بأنّك جزء من اللّهب، واختلاط أنفاسنا بأنفاس الممثّلين، ومساحة المنصّة وعمقها وارتفاعها وسوادها وإضاءتها وتعتيمها وجوّ التّرقب والانتظار، كلُّ ذلك يجعل من هذه الاحتفاليّة شيئًا مختلفًا عن قعدة البيت أمام التّليفزيون، وبِخاصّة إذا كانت المسرحيّة التي تشاهدها على المسرح "مش بايخة".

    خلال المسرحيَّات القليلة التي شاهدتها والتي لم أحْصِها، وهي لا تتعدّى على ما أذكر عدد أصابع اليدين، كنت أحسب كيف يكون وضعي لو كنت واحدة من الممثّلات المشاركات في التّمثيل، وبعد أنْ تخيفني الفكرة، أعود لأكتفي بدوري كمشاهدة عاديّة فأختفي بين الجمهور.

    وعندما تطول مدّة هواجسي المغامرة، وأنا أتخيّل نفسي على المنصّة مع باقي الممثّلات، يزداد شعوري بالحاجة إلى حب الظُّهور والانفجار بأحاسيسي أمام الجمهور، والبحث عن القُدرة على سَلْب أنظار جميع العيون المغروسة في منطقة الضّوء، منطقة التّمثيل، مَرْكز الحدث ومركز الثّقل...

    وأخاف من جديد لأنّ هذه العيون الكثيرة الـمُبحلِقة في الممثّلين تحتاج إلى شخصيَّة قويّة تستطيع أنْ تواجهها بِثِقة وبشجاعة وبشيء من الإبداع الـمُقنِع.

    وتساءلت وأنا غير واثقة من معرفتي الإجابة: تُرى هل عددُ الممثّلين الذّكور في جميع المسرحيَّات التي شاهدتها أكثر من عدد الإناث الممثّلات نابعٌ من أنّ الذّكور أكثر شجاعة وجرأة من الإناث؟ شككت للحظة بأنّ المجتمع يقبل مهنة التّمثيل للذّكور بنسبة أكبر بكثير من قبولها للإناث، وكدتُ أجزم أخيرًا بأنّ المسألة غير متعلّقة بالعضلات والقوة والشّجاعة.

    وأعود لأجلس بين الجمهور فأواجه حقيقة أُخرى، وهي أنّ دوري كمشاهدة يعطيني فرصة للمتعة بأقلّ جهد ومواجهة من دوري كممثّلة. المسؤوليّة التي أتحمّلها وأنا بين الجمهور أقلّ بكثير من المسؤوليّة التي يتحمّلها هؤلاء الممثّلون والممثّلات على المنصّة.

    إنّهم متوترون ودائمًا "على أعصابهم"، وقد قرأت خبرًا في إحدى الصّحف زاد من خوفي من التّفكير في مهنة التّمثيل، ومفاده أنّ معظم الممثّلين الـمُحترِفين في العالم يُصابون أو مصابون بمرض البواسير والنّواسير، وأمراض المعدة، ويعانون من تقلُّص في أوردة وشرايين القلب، ومن لخبطة في حركة المصارين، وكلّ ذلك بسبب التّوتّرات الشّديدة التي ترافق حياتهم الفَنِّيَّة، ناهيك عن أنّ قسمًا كبيرًا منهم، ومعظمهم غربيّون، مصابون أو سيصابون بمرض الإيدز وحبّ الذّات والعزلة.. والانتحار.. وقريبًا من خَبر الممثّلين المبوسرين والمـُنَوسرين جاء خبرٌ آخَر أربكني، ومفاده أنّ مخرجًا معروفًا من بلدنا يبحث عن ممثّلة بديلة لإحدى الممثّلات في مسرحيّته الأخيرة، ولم يذكر السّبب الذي من أجْلِه ستتركُ تلك الممثّلة تلك المسرحيّة أو رُبّما تلك المهنة..

    حاولتُ أنْ أحصي، بيني وبين نفسي، جميع الأسباب التي يمكن أنْ تؤدي بذلك المخرج البحث عن ممثلة بديلة، وإلّا فلماذا تركَتْه هي؟ رُبّما لأنّها وجَدَتْ وظيفة أخرى أقلّ تّوتّرًا وأكثر ربحًا.. رُبّما تزاعلت مع المخرج.. رُبّما تريد أنْ تتزوّج، فالزّوج مشروع نادرًا ما يتّفق والمسرح على ذمّة بعض الفنّانين المجانين.. رُبّما تكون حُبلى، والدّور الآن لا يناسبها وقد تَغيَّر شكل جسدها.. رُبّما يكون للأمر علاقة بالبواسير والنّواسير؟؟!!

    ورُبّمَات أخرى خطرت ببالي، ولكنّ طلَبَ المخرج للبديلة كان واضحًا ومغريًا، فهو لا يطلب من البديلة أنْ تكون محترفة في فنّ التّمثيل. المهم أنْ تهوى العمل وأنْ تكون متحمّسة وتحبّ أنْ تنتمي للأسرة المسرحيّة، وأمّا ما يتعلّق بالحِرفة المسرحيّة، فسوف يقوم المخرج بمساعدتها على إتقان الدَّور بالشّكل الذي يليق بمستوى المسرحيّة وبأسلوب المخرج وبشخصيّة العمل المسرحي.

     سُوسَة حُب الظُّهور على المسرح وعلى مساحات الوسائل الإعلاميّة الشّاسعة تنخر في عظامي. لا بدّ أنْ أكون شجاعة هذه المرّة، وأكثر شجاعة من الذّكور وأجرّب أنْ أضرب الحديد وهو حامٍ..

    اتّصلتُ به وشرح لي بكَرَم عن طبيعة العمل، ولكي تسير الأمور بشكل طبيعي اقترح عليّ أنْ أراقب الدّور الذي يُتوقّع أنْ يصبح دوري لاحقًا، علمًا بأنّ المخرج أفهمني بأنّ هنالك مرشّحات أخريات للدّور ليختار منهنّ لاحقًا الممثّلة الهاوية الملائمة للعمل.

    جلستُ بين الجمهور ورحت أنظر بحبّ استطلاع في وجوه الفتيات القليلات الجالسات بين الجمهور، فوجدتُ في كل واحدة منهنّ شيئًا مُقنعًا ملائمًا لها لتُرشَّح للدّور. تخيّلت أنّ نسبة كبيرة من الجمهور رُبّما تساورهم نفس مشاعر الصّراع بين نقطتين: أنْ يكون الإنسان مشاهِدًا، أو أنْ يكون ممثّلًا، أي أن يكون مشاهَدًا، أو مشاهِدًا.

لا بدّ أنْ يكون المخرج قد وجد من الـمرشَّحات الأُخريات مَن هي أكثر شجاعةً منّي لتقرر تبديل مكانها فتترك مكانها بين الجمهور لتأخذ مكانها على المنصّة. وإنْ لم ينجح في اختيار أنثى فسوف يختار ذَكرًا شجاعًا يقوم له بالدّور وتنتهي الحكاية.

    لم تكن جرأتي كافية هذه المرّة لاتّخاذ القرار، ولكنّني ما زلت أقلّب صفحات الصّحف والمجلات باحثة عن خبر جديد لأحد الـمُـخرِجين الباحثين عن هاويات مسرح، وأملي كبير بألّا يظهر الخبر هذه المرّة إلى جانب خبر الممثّلين المبوسرين والـمُنوسرين!!

    يبدو أنّه من السّهل أنْ تحسد الممثّل على ظهوره أمام الجمهور ونجاحه وتحقيقه لطموحاته، ولكنْ من الصّعب حقًّا أخذ مكانه على المنصّة، لأنّ ذلك يتطلّب جهدًا من نوع خاص، وجنونًا من نوع أكثر خصوصيّة، وبِخاصّة إذا كان المرشّح أنثى مثلي.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب