news-details

أعشاش التطرف الافتراضية - الدانمارك نموذجًا (2-2)


 

سياسي لا ديني

إن الخطاب الذي تحاول جماعات الإسلام السياسي فرضه وتقديمه كخطاب بديل عن خطاب النهضة والديمقراطية ودولة المواطنة والتنوير وحرية الرأي، في الواقع هو خطاب سياسي بامتياز يرتدي عباءة دينية مذهبية طائفية بغيضة. ومحاولة هذه المنظمات والمجموعات الدينية والدعاة المتشددين إظهار أنهم لا يبتغون سوى نشر الدين ومرضاة الخالق، لهو تدليس على الله قبل كل شيء وتضليل للعباد لأنهم أصحاب مشروع سياسي واضح المعالم، فهم يدعون إلى التغيير عبر النموذج السلفي المتشدد فقط من خلال تبني الأيديولوجية المتطرفة، وذلك خدمة لمصالح وأهداف جهات محددة، ولم تحاول معظم هذه الحركات خاصة الراديكالية منها أن تتبنى أفكارًا موضوعية وواقعية لتخليص الإنسان العربي من ظلم وقهر أنظمة الاستبداد العربية، ولم تناد بالديمقراطية ولا بدولة المواطنة ولا تهتم بالنهضة الاقتصادية، ويخلو خطابها من مضامين حداثية، ذلك أن أهداف هذه الحركات والجماعات وكل اهتمامها لا يتعدى تحقيق مشروعها السياسي الديني المتمثل في إعادة إقامة دولة الخلافة الإسلامية حتى في المجتمعات الغربية، ورفض كافة الأفكار الأخرى وجميع الصيغ والأشكال لمشاريع دول وطنية أو قومية  أو ديمقراطية حديثة، إذ عكس الداعي أبو بشار هذه الفكرة بأوضح معانيها حين ذكر أن كافة الأفكار البعثية والناصرية والقومية والعلمانية واليسارية والليبرالية مكانها "تحت الأقدام".

هذا الأمر يؤكد أن هذه الجماعات توظف الدين والشعارات الإسلامية كي تحوّل التناقض والصراع الاجتماعي الاقتصادي إلى تناحر ديني مذهبي طائفي، وإفراغه من مضامينه الموضوعية الطبقية الاجتماعية المنطقية التي يكابدها الفرد العربي بصفة يومية، ودفعه نحو مربع الانشغال الديني الغيبي، وهي هنا تقدم خدمة للغرب الاستعماري ولرأس المال المالي العالمي الذي لا يتناقض خطابه مع خطاب هذه الجماعات حقيقة.

 

تسطيح ملتبس

يتسلح أصحاب الفكر الإسلامي المتشدد بحجة أن العلمانية كفكر ودولة وشعار وتطبيق وممارسة قد ظهرت ونشأت في القارة الأوروبية لأسباب تتعلق بالحروب الدينية والصراعات بين الأفكار التنويرية والكنيسة، ويرى هؤلاء أن هذا لا ينطبق على المجتمعات الإسلامية. لكن هذا التفسير والتسطيح والتبسيط الملتبس يتجاهل حقيقة أن كلتا المؤسستين السياسية والدينية تسعيان للاستحواذ على السلطة. إن الوصول للحكم كان الحقيقة الوحيدة تاريخيًا في كافة الامبراطوريات والدول التي قامت، وأن الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين، وسيادة العقل الاحتكاري الذي يقوم على الفكر الواحد والزعيم الواحد هو السبب الرئيسي في ظهور الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي، وكذلك السبب في انهيار هذه الدول والامبراطوريات.

 لقد ارتبط على الدوام الاستبداد الديني بالاستبداد السياسي. كما أن نفوذ وقوة وسلطة رجال الدين في الإسلام لم تكن أبدًا أقل شأنًا ولا أخف حدّة ولا أبسط سلطة من نفوذ رجال الدين في الكنيسة، كما أن الأقصاء الديني واضطهاد الملل وقتل المخالفين وحرق الفلاسفة والعلماء والقمع الفكري في التاريخ الإسلامي لم يكن أقل منه في التاريخ المسيحي.

 

ليس الإسلام سببًا

إن أزمة الدول العربية والإسلامية التي دفعت هؤلاء المتطرفين إلى القدوم لدول الاتحاد الأوروبي ومنها الدانمرك، ليست أزمة ناتجة عن الثقافة السياسية الإسلامية، لكنها أعراض فاجعة لمعظم الدول ذات الاقتصاديات الناشئة والتي يعيش فيها الجهل والتخلف والأمية والبطالة والفقر مع التدين الشعبي وبعض مظاهر التطور والحداثة. إن الإسلام ليس سببًا للبؤس والشقاء الذي تعيشه معظم الشعوب العربية، ولا علاقة للإسلام بالمحن المتعددة التي يعاني منها العرب والمسلمون، لكن الكارثة المرعبة في فكر وسلوك الأحزاب وقوى الإسلام السياسي المتطرف الذين يقدمون قراءات سلفية متشددة، وكأن التاريخ والتراث عبارة عن صناديق كرتونية مرصوفة فوق الرفوف، وكل ما علينا هو تنظيفها من غبار السنين قبل استخدامها.

وفيما تكيفت معظم الأنظمة العربية مع المتغيرات الدولية وأظهرت قدرة على احتواء ظاهرة الإسلام السياسي، وضبطها كحركة معارضة، بل أن بعض هذه الأنظمة نافست الحركات الإسلامية على رعاية الدين والتدين، مما بلور واحدًا من عدة أسباب أدت إلى أفشال كافة مشاريع الجماعات الإسلامية، حيث أخفق الإسلام السياسي فكرًا وممارسة وخطابًا في تقديم الحلول التي اتهم التيار القومي واليساري بعجزهم عن تحقيقها. عجز هو الآخر وفشل مشروعه، فانتقل بعض أعضاء هذه المنظمات إلى تشكيل مجموعات مذهبية قبلية طائفية، وتحول جهاد هذه الجماعات من أجل مجتمعها وناسها كما في السابق، إلى جهاد في أبناء مجتمعهم ذاته وتهجيره وتكفيره، كما تفعل المجموعات المتشددة في الدانمرك وأوروبا، فيما عاد قسم منهم إلى أحضان التيارات السلفية التي بقيت تراوح في مكانها، وتجمد خطابها وتوقف اجتهادها منذ مئتي عام.

 

الإسلام ليس سببًا للبؤس والشقاء الذي تعيشه معظم الشعوب العربية، ولا علاقة للإسلام بالمحن المتعددة التي يعاني منها العرب والمسلمون، لكن الكارثة المرعبة في فكر وسلوك الأحزاب وقوى الإسلام السياسي المتطرف الذين يقدمون قراءات سلفية متشددة، وكأن التاريخ والتراث عبارة عن صناديق كرتونية مرصوفة فوق الرفوف، وكل ما علينا هو تنظيفها من غبار السنين قبل استخدامها

هذه المجموعات لم تستطع تجاوز النصوص التي وضعتها المؤسسة السلفية الأولى، ولم تتمكن من تطوير فكرها ولا تجديده، واقتصر نشاطها على طباعة كتيبات مواعظ وتفاسير مقتبسة من كتب الفقهاء، وعجزت حتى عن تقديم فلسفة جديدة سياسية لمفهوم الدولة الإسلامية التي تسعى لإقامتها.

على الرغم من أن الحركات الإسلامية قد ملأت فراغًا أحدثه فشل المشروعين القومي واليساري وتراجع دورهما وانحسار مكانتهما وسط الجماهير، إلا أن الإسلاميين رفعوا شعارات لا يتشارك معهم بها أحد.

إذا كان الإسلام السياسي ظهر نتيجة تطور تاريخي يرتبط بصورة شائكة بتزايد نفوذ الدولة المستبدة التي مارست الإقصاء والتهميش للجماعات الإسلامية، فإن السؤال الكبير سوف يظل عن دور الدين في الحياة العامة. ولهذا فإن الإجابة على هذا السؤال سوف تحدد مستقبل حركات الإسلام السياسي المرتبط بطريقة جدلية بالقضايا الكبيرة التي تعني الدول العربية والإسلامية وشعوبهما.

 

تحرك أمني أوروبي

في ظل عصر المعلوماتية أصبحت الشبكة العنكبوتية أحد أهم أسلحة الإرهاب الفكري الرقمي، حيث خدمت هذه الشبكة الجماعات المتطرفة لبث سمومها وحقدها وأفكارها المتصلبة، بحيث بلغ عدد هذه المواقع التي تروج الأيديولوجية المتشددة حوالي 4500 موقع في لألمانيا وحدها، وبضع مئات في الدانمرك.

لقد بدأت في الأعوام القليلة المنصرمة أجهزة الاستخبارات الغربية في العديد من الدول الأوروبية تركيزها على مراقبة حركات وجماعات الإسلام السياسي، ومكافحة الفكر الإسلامي المتشدد، حيث ان دول القارة تقع في مرمى نيران المتطرفين والمتشددين الإسلاميين، وأصبحت ظاهرة الإرهاب تحظى بأولوية لدى هذه الأجهزة الأمنية، خاصة بعد سلسلة الهجمات التي تعرضت لها بعض المدن الأوروبية. وأوضحت دراسة صدرت عن مكتب حماية الدستور في ألمانيا العام 2014 وهو جهاز استخباراتي أنه سوف تظل جماعات الإسلام السياسي تحت المراقبة، حتى تلك التي لا تمارس العنف، وأن السبيل الوحيد لمكافحة التشدد والتطرف والإرهاب عابر القارات هو تنسيق وتوحيد الجهود الأمنية داخل دول الاتحاد الأوروبي وخارجه. كما تُجري الحكومة الفرنسية مشاورات مع رجال دين مسلمين حول استحداث قوانين جديدة لمكافحة التطرف الفكري في صفوف بعض المسلمين المقيمين بفرنسا.

كذلك تواجه بريطانيا المزيد من التهديدات حيث تتزايد المخاوف الأمنية من نشاط المجموعات المتطرفة، وفي تقرير أصدرته مؤسسة "بوليس اكستغينغ" العام 2017 بعنوان "حرب الانترنت الجديدة" يتضح حجم الخطر الذي تشكله هذه الجماعات في الفضاء الالكتروني. وأشار التقرير أن بريطانيا في المرتبة الخامسة من حيث نشاط ونشر المحتويات والأفكار المتشددة في الأنترنت.

ومن المعلوم أن دول الاتحاد الأوروبي تستفيد من البيانات والمعلومات التي تحصل عليها من بريطانيا، وفق اتفاق "العيون الخمس" لتبادل المعلومات بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا.

وفي تقارير أوروبية أخرى تمت الإشارة إلى أن حوالي ثلثي الهجمات الإرهابية "76 في المئة" نفذها أفراد كانوا ضمن مجموعات تروج للفكر المتطرف عبر الانترنت. ولهذا السبب قامت الشرطة الأوروبية "يوروبول" بإنشاء مشروع "افحص الانترنت" لتبادل المعلومات حول نشاط الجماعات المتطرفة لمواجهة الفكر المتشدد التي تؤدي إلى أعمال إرهابية.

إن مواجهة خطر نفوذ التشدد والتطرف والغلو والكراهية والعنصرية في شبكة الإنترنت، من قبل كافة العقلاء والمنظمات المدنية والمؤسسات الرسمية، والذي أصبح يكتسح أفكار الشباب بواسطة خطاب دعائي ولغة تحريضية مقيتة وأساليب تدغدغ وجدانهم الديني، بات شأنًا ملحًا ليس في الدانمرك وحدها، ولا في الغرب، بل في العالم أجمع، خاصة في منصات التواصل الاجتماعي.

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب