news-details

إميل توما نموذج المثقف الملتحم مع شعبه

يعتبر الرفيق إميل توما تحديا لمن عرفه وعاصره ولمن قرأه وغاص في تحليلاته  وكتاباته الأكاديمية منها والسياسية.

إميل توما هو بمثابة الحجة علينا، نحن السائرين على دربه أو الذين نمني أنفسنا شرف المسير على درب هذا الانسان الحقيقي والشيوعي حتى النخاع والذي أحب شعبه حباً ملأ عليه مشاعره وآمن بأخوة الشعوب إيماناً عميقاً لا تحفّظ فيه، كما طلب ان يكتب على ضريحه ومرقده الأخير في حيفا حيث عاش وبقي.

أقول ان اميل توما هو الحجة على القيادة السياسية للأقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل، وعلى قيادات الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة بشكل خاص، حيث هو القائد الكبير والتاريخي لشعبنا في أحلك الظروف، لم يكن بحاجة الى عضوية برلمان ولا الى رئاسة سلطة ولا حتى الى منصب آخر من أجل ان يثبت نفسه في وجدان شعبه وفي قلب رفاقه على مرّ الأعوام والعقود.

إميل توما كان مثالا للقائد الذي فرض احترامه على الجميع من خلال تواضعه الحقيقي غير المبتذل وصلابة موقفه ولين جانبه مع رفاقه، وفي تعامله مع أبناء شعبه ومع أبناء الطبقة التي لم يولد لها لكنه وهب عمره وعقله ونشاطه لها وهي طبقة العمال والطبقات الكادحة والشعبية من أبناء شعبَي هذه البلاد خصوصا والعالم عموما.

وهو أيضا الحجة على المثقفين والاكاديميين من أبناء شعبنا بقدرته على التوفيق بين البحث العلمي الجاد والتحيز الطبقي الواضح الذي لا مواربه  فيه ولا إبتذال. عندما تقرأ إميل توما الباحث تكون أمام نص محكم يأخذ أساسيات البحث العلمي الى قمم جديدة من جهة، ومن الجهة الأخرى لا لبس في انحياز الرفيق إميل الى من هم تحت فيستنبط الحركة التاريخية لمواضيع بحثه من خلال البحث العميق للمحركات المادية العميقة للتطور البشري، ويميط اللثام في كل كتاباته عن الصراعات المركزية التي حددت التطور التاريخي في كل مرحلة ومرحلة.

إميل توما، المؤرخ الماركسي بامتياز، لا يتناسى ولا يغمط حق الأفكار في تطور التاريخ بل نجده يعطيها حقها من جهة ويستقصي أصولها وأساساتها المادية في الواقع المعاش والظروف المادية التي طبعت كل فترة من فترات مواضيع أبحاثه، التي إمتدت على مدى تاريخ الشعوب العربية بشكل عام من قبل الاسلام الى العصر الحديث، وعلى مدى تاريخ الشعب الفلسطيني بشكل خاص وقواه الوطنية في مختلف أماكن تواجد هذا الشعب، ان كان في وطنه التاريخي أو في المنافي حيث تم طرد وترحيل القسم الأكبر منه.

إميل توما الباحث الجاد، كما هو القائد السياسي العظيم والمفكر الأبرز للحزب الشيوعي وللحركة الشيوعية في البلاد لم يقصر في البحث والتمحيص، ورد جذور القضية الفلسطينية الى أساسها الحقيقي والى التآمر الاستعماري للقوى الامبريالية التي لها مآربها الأوسع والأشمل من السيطرة على فلسطين، وكذلك ربيبتها الصهيونية كحركة استعمارية كولونيالية جاءت لتجتث أبناء وطن لتزرع مكانهم شعبا آخر في عملية هندسة تاريخية مسبوقة (وهذا لا يقلل من بشاعتها). الا ان إميل توما كما رفاقه فهم أيضا ان التناقض الأساس هو ليس بين الجماهير المضطهدة والمستعملة كأداه بيد الاستعمار والحركة الصهيونية وبين أبناء الشعب العربي الفلسطيني. بل هو بين أبناء هؤلاء جميعا وبين الاستعمار  وأذنابه من الحركة الصهيونية والرجعية العربية التي لا تقل مسؤوليتها عن الأضلاع الأخرى لهذا المثلث الدنس.

الرفيق إميل لم يعط للرجعية العربية "تخفيضا" لكونهم عربا بل كان حادا وواضحا في شملهم جميعا ضمن الثلاثي الدنس، وهي إحدى مقولات اميل توما الشهيرة التي أنتجت وعيا فلسطينيا وفهما سياسيا عميقا لم يكن واضحا لدى الجماهير الواسعة لأبناء شعبنا في بداية  المؤامرة وخلالها، وكان صوت إميل توما، البحثي والسياسي، ورفاقه كما الصوت الصارخ في البرية وكما السمك الذي سبح ضد التيار حتى استطاع لاحقا ان يصبح هو التيار، ولتصبح أقوال وتحليلات إميل توما ورفاقه حجر الزاوية في فهم نكبة الشعب الفلسطيني لا بل أكاد أقول، انها نكبة الشعوب العربية كلها والتي لم يتخطاها تآمر ذات الثلاثي الدنس وما أشبه اليوم بالأمس.

إذا ما تتبعنا كتابات الرفيق إميل توما نجد تجسيدا لما شغل بال هذا الباحث والقائد والمفكر الفلسطيني فنجده يكتب عن "العرب والتطور التاريخي في الشرق الأوسط" وعن " ثورة 23 تموز في عقدها الأول" ويتتبع "جذور القضية الفلسطينية"  ويعود لـ"فلسطين في العهد العثماني" ليضيفها الى "ستون عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية". وللأقلية العربية الفلسطينية بخصوصيتها السياسية والتاريخية وخصوصية نضالها داخل اسرائيل هنالك نصيب في كتابات إميل توما ليس فقط السياسية بل أيضا البحثية والتأريخية، فنجده يدوّن "يوميات شعب" احتفاء بـ 30 عاما على صحيفة الاتحاد والتي كان مؤسسها الأول ومطورّها بالإضافة الى رفاقه الأوائل الاخرين. ونجده كذلك يكتب عن "طريق الجماهير الفلسطينية  الكفاحي في إسرائيل" ليثري المكتبة العربية والفكر العربي بهذه الكتب وبغيرها أيضا.

لا شك ان كتابات الرفيق اميل هي زاد وزوّادة الناشط السياسي اليساري و المتحيّز لقضايا شعبه وهي كذلك مصدر هام للغاية لدراسة وفهم تطور التاريخ السياسي للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية، بالاضافة لفهم معمق لأصول الصهيونية المعاصرة وإمكانية مواجهتها.

إلا ان كتابين من كتب الرفيق اميل توما أثّرا بي بشكل خاص وفي نشاطي البحثي وكانا الى حد كبير جزءا من إيقاد جذوة إهتمامي البحثي لاحقا. وهما كتابا: "الحركات الاجتماعية في الاسلام" و"العملية الثورية في الاسلام" حيث شكل هذان الكتابان نقطة البداية للتعرف على زاوية نظر علمية ومعرفية جديدة للتاريخ الاسلامي وللتراث الاسلامي لم أكن في بداية الطريق وكطالب في المؤسسة التعليمية والمدرسية في اسرائيل على دراية بها حتى قرأت أبحاث إميل توما هذه من مكتبة والدي. بالاضافة طبعا الى الكتاب المرجع لمعاصر ورفيق إميل توما المفكر الشيوعي اللبناني حسين مروة "النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية".

لقد شكلت هذه الدراسات أفقا واسعا وعميقا لفهم التاريخ الحضاري لشعبي ولحضارتي من منظور تقدمي وعلمي حيث ينزه هذا التاريخ من شوائب المثالية المفرطة ويسبر غور القوى الاقتصادية والمادية التي شكلت، كما في كل شعب من الشعوب، تيارات وقوى منها التقدمي والثوري والباحث عن العدل والمساواة بين الجماهير الواسعة ومنها الرجعي والمحافظ والمتلفع بتفسيرات رجعية لنصوص الدين، وليّ عنق هذه النصوص من أجل تحقيق مآرب الطبقات المتنفذة داخل الدولة الاسلامية ولاحقا الدول الاسلامية المختلفة جغرافيا وتاريخيا.

لست هنا في سياق مراجعة نقدية أو علمية لكتابات الرفيق اميل، لكن أرى من الواجب علي كما من واجب أجيال كاملة من الباحثين وخصوصا الباحثين الشباب إرسال تحية شكر وتقدير إضافية للرفيق إميل ليس فقط لأنه مع رفاقه حافظ علينا كشعب، ولا لأنه زرع بنا مقولته  المشهورة التي وسمت وثيقة المؤتمر المحظور للجماهير العربية الفلسطينية داخل اسرائيل بأننا: "نحن أهل هذا الوطن، ولا وطن لنا غير هذا الوطن... حتى لو جوبهنا بالموت نفسه فلن ننسى أصلنا العريق .. نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني .. لم نتنازل ولا يمكن أن نتنازل عن حق هذا الشعب في تقرير مصيره وفي الحرية والاستقلال على ترابه الوطني". 

بل أيضا لأنه فتح لنا أفقا واسعا لإمكانية جمع  البحث العلمي العميق والواسع مع الالتزام السياسي الوطني والأممي الدقيق والذي يعتبر بوصلة لن يضل من إهتدى بنورها الثوري.

نحتفل بمئوية إميل توما الأولى وليس هناك ما هو أخلص تعبيرا بهذا الاحتفال من الاستمرار على خطاه وتطوير منهجه وفكره، هذا هو التحدي هذا هو الواجب.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب