news-details

إميل توما والحل الديمقراطي للقضية الفلسطينية 1944-1947 (1)

سأحاول في هذه المساهمة الإضاءة على تصوّر إميل توما للحل الديمقراطي للقضية الفلسطينية، وذلك بالاستناد إلى عدد من المقالات التي نشرها في صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية وفي مجلة "الغد" المقدسية خلال سنوات 1944-1947.  

والواقع، أنالحل الديمقراطي للقضية الفلسطينية لم يكن سوى مظهر من مظاهر سياسة عامة انتهجتها عصبة التحرر الوطني في فلسطين، التي كان إميل توما واحداً من قادتها البارزين. فقد توقعت العصبة، منذ تأسيسها في مطلع سنة 1944، أن تكون الديمقراطية في مركز نضالات شعوب العالم بعد القضاء على النازية والفاشستية، وأكدت الارتباط الوثيق بين الديمقراطية والتحرر الوطني في فلسطين، فدعت إلى ضمان الحريات الديمقراطية للفئات الشعبية، وخصوصاً حقها في التنظيم والتعبير، كي تتمكن من الانخراط في نضال الحركة الوطنية ضد الاستعمار والصهيونية، وارتأت أن هذا النضال لن ينجح ما لم يتم نشر الديمقراطية في صفوف الحركة الوطنية، لا سيما عن طريق انتخاب قيادتها في مؤتمر شعبي تمثيلي، وما لم تتحقق وحدة وطنية ديمقراطية.

وعليه، وقبل أن اتوقف عند تصوّر إميل توما للحل الديمقراطي للقضية الفلسطينية، سأتناول بالتحليل هذه المظاهر الديمقراطية الأخرى لسياسة عصبة التحرر الوطني، كما عكسها إميل توما في مقالاته.

 

مرحلة جديدة في النضال الوطني

انطلق إميل توما من أن فلسطين مرّت، في تاريخها الحديث، بمراحل عديدة، اعتمد خلالها شعبها العربي، في نضاله ضد الاستعمار والصهيونية، على أساليب تفاوتت أهميتها وتأثيرها "باختلاف وتفاوت المرحلة التاريخية التي تمر في وقتها على العالم"، وأنها دخلت، عقب الحرب العالمية الثانية، مرحلة جديدة، تتميّز، على الصعيد العالمي،بانتصار قوى الشعوب على النازية والفاشستية، وباتساع نفوذ الاتحاد السوفياتي والدول الديمقراطية، وبامتداد الوعي الديمقراطي ما بين الحركات الشعبية في بريطانيا وفرنسا وأميركا وغيرها من البلدان. كما تتميّز، على الصعيد العربي، بسير سوريا ولبنان على طريق استكمال حريتهما، وبسير مصر والعراق نحو استقلالهما وسيادتهما التامة. وفي هذه المرحلة،تشكّلت الجامعة العربية التي عبّرت "عن تعاون الشعوب ضد الاستعمار، وإن كان هذا البناء ضعيفاً مهادناً، إلا أنه قفزة إلى أمام سيكون لها أكبر الأثر".

واعتبر إميل توما أن هذه المرحلة الجديدة هي أدق مرحلة تمر فيها قضية فلسطين، "فهي تواجه آخر أو أواخر مؤامرة يحيكها الاستعمار وأعوانه لإبقاء الوضع الراهن في فلسطين وإيقاف تطورها نحو استقلالها وحريتها"، وهو يرى في الصهيونية "أجيراً أميناً يساعده في الإبقاء على نفوذه وسيطرته". وهذه المرحلة تتطلب، كما قدّر إميل توما، أن تنتهج الحركة الوطنية العربية "سياسة وطنية صحيحة"، لن تتبلور إلا بعد التوقف عند أخطاء الماضي ودراستها، ومن أبرزها ابتعاد الحركة الوطنية عن الاتحاد السوفياتي والحركات الشعبية في بلاد المستعمرات والبلاد المستعمرة، ورفضها"التوجه نحوها لأخذ تأييدها ومساندتها"، ومناداتها "بحسن نية الاستعمار، ألمانيا مرة وبريطانيا أخرى"، واعتمادها في سياستها الداخلية والخارجية "على مساندة القوى الرجعية بدلاً من التوجه نحو القوى الديمقراطية" وعزلها  الجماهير الشعبية عن النضال الحقيقي، بحيث ظهرت الحركة الوطنية "حركة جزئية تعبر عن فئة ضئيلة من الشعب العربي المناضل".

وبعد أن انتقد إميل توما أولئك الذين "يريدون اعتبار نضالنا الوطني نضالاً محلياً ينفصل في جوهره  وفي أهدافه عن نضال شعوب العالم في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية"، خلص إلى أن الحركة الوطنية العربية في فلسطين باتت اليوم تقف أمام مفترق طريقين لا ثالث لهما: "فإما التعاون مع الاستعمار، وهذا يوصلنا إلى العبودية والرق، وإما التحالف مع الشعوب عدوة الاستعمار والصهيونية، وهذا يوصلنا إلى الحرية والاستقلال"، مؤكداً أن هذه الحركة هي اليوم غيرها بالأمس، إذ "انضمت إلى القيادة والأحزاب التقليدية قيادة ومنظمات شعبية لم يعد من الممكن تجاهلها" (1).

 

عصبة التحرر الوطني وليدة هذه المرحلة الجديدة

كانت عصبة التحرر الوطني في فلسطين، في تقدير إميل توما، وليدة هذه المرحلة الجديدة في النضال الوطني،ونتيجة حتمية للتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الفلسطيني، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية: "ففي ظروف الحرب الجديدة، أخذت الطبقة العاملة العربية التي بلغت الستين ألف عامل من حيث العدد –كما كتب- تسرّع في التطور الحاصل في مضمون الحركة الوطنية، [و] لم يعد النضال من أجل التحرر الوطني وقفاً على مطالب السيادة الوطنية، بل تعدى هذه المطالب فأصبح المطلب السياسي العام مشتملاً أيضاً على المطالب الاقتصادية والاجتماعية وعلى المطالب الديمقراطية عموماً"، الأمر الذي بات يفرض على الحركة الوطنية العربية تغيير الأساليب التي تنتهجهافي نضالها "مع التأكيد على المضمون الاجتماعي للنضال ضد الاستعمار والصهيونية".

لقد جاءت عصبة التحرر الوطني –كما تابع- لتعبّر عن هذا الواقع الجديد "الذي قاد إليه نمو الطبقة العاملة العربية المنظمة، ونمو الفلاحين والمثقفين والطلاب والتجار الصغار"، فهي بدأت عهدها الجديد في سنة 1944 "حين لم يكن في البلاد من يعترف بصفة الحرب التحريرية غير أنصارها، ولقد اعتمدت حين بدأت على التقدير الصادق بأن الحرب الكونية الثانية ستأتي بنتائج تساعد شعبنا على النضال الاستقلالي". واختلفت العصبة  عن المنظمات السياسية الأخرى التي تقوم بدورها في الكفاح الوطني "في أنها تسير وفق فلسفة سياسية تعتمد على التطور الاجتماعي أولاً وعلى القوى الشعبية التي تؤدي دورها في المجتمع ثانياً"، و"ترى في الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين والمثقفين طبقة الطليعة التي تقود النضال الوطني وتعمل على إيصال المجتمع الإنساني إلى ما يتمناه من عدالة اجتماعية وسلم واستقرار دائمين". وهي عندما تؤكد المضمون الاجتماعي للنضال الوطني، "تجند بذلك جماهير الشعب في النضال العام من أجل تحقيق الاستقلال والديمقراطية والمستقبل الآمن"، إذ إن الترويج لمطالب الشعب اليومية "يُدخل إلى الحركة الوطنية جماهير لم تكن نشيطة في النضال السياسي من قبل، وهذا ما يقود إلى تقوية الحركة الوطنية في نضالها العام، وهذا في الوقت نفسه يعكس أثره على الحركة الوطنية وعلى قيادتها، ويقود إلى إنقاذها من جميع الاتجاهات الرجعية التي يدخلها الاستعمار بمؤامراته على الحركة الوطنية".

ومن منطلق فلسفتها السياسية هذه، اعتبرت عصبة التحرر الوطني العالم "وحدة لا تتجزأ في الحرب وفي السلم"، ورأت حلفاءها "في الحركات الوطنية في البلاد العربية والهند والمستعمرات الأخرى"و "في الطبقة العاملة وطلائعها الأحزاب الشيوعية في أوروبا وأميركا" و "في الاتحاد السوفيتي والدول الديمقراطية في البلقان". ومن منطلق هذه الفلسفة السياسية كذلك، نبهت العصبة الشعب الفلسطيني إلى الذين يعتنقون سياسة التعاون مع بريطانيا،" لما في ذلك من كوراث" على النضال الوطني، وكانت في طليعة الذين دعوا إلى توحيد الجهود وأول من وضع الأسس الصحيحة "لقيام هيئة وطنية عليا تقود النضال وتحشد قوى الشعب للقيام بهذا النضال"،وأول من طالب بإثارة قضية فلسطين أمام مجلس الأمن وحمل "لواء الدعوة للحل الديمقراطي الوحيد للمشكلة الفلسطينية" عندما دعت "لجلاء الجيوش الأجنبية عن فلسطين ولجعل فلسطين دولة مستقلة حرة ديمقراطية تؤمن فيها الحقوق الديمقراطية لجميع المواطنين" (2).

 

الترابط بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي 

قدّر إميل توما أن الظروف الذاتية في فلسطين "لم تكن في يوم من الأيام كما هي اليوم، من حيث الحيوية والإرادة والرغبة" في النضال لدى جماهير الشعب، معتبراً أن من واجب القيادة الوطنية "أن تزيد في هذه الحيوية والإرادة والرغبة بتوجهها السياسي الصحيح، وبإظهار وجوه الأمل من المستقبل"، وانتقد بعض الأشخاص الذين يريدون "تحت ستار الوطنية والدفاع عن اقتصادنا الوطني، أن يمنعوا عن العمال والموظفين ممارسة حق مقدس من حقوقهم، حق التنظيم في جمعيات ونقابات تسهر على مصالحهم". فالعمال والموظفون العرب العاملون في الصناعة والتجارة الوطنية هم –كما أكد-"أول من يحافظ على اقتصادنا الوطني، وأول من يعمل على تنميته وازدهاره  لأنهم يرون في ذلك مصلحتهم ومصلحة الوطن وأبنائه"، وهم يعرفون بالتجربة "أن الرفع من شأنهم يساعد على السير باقتصادنا الوطني إلى الأمام"، وأن التجارب في فلسطين وفي العالم أجمع بيّنت أن الحركة الوطنية "تنمو ويشتد ساعدها كلما تمكن الشعب من ممارسة حقوقه الديمقراطية، وعلى الخصوص منها حق التنظيم".

وعارض إميل توما، في الوقت نفسه، الدعوة إلى فصل النضال السياسي عن النشاط الاقتصادي، وانتقد أولئك الذين يرون أن  الواجب الوطني "يفرض الاهتمام بالاقتصاد الوطني وتوجيه الشعب نحوه والعدول عن النضال السياسي العام"، ويرجعون انتكاسات الحركة الوطنية "إلى أسباب اقتصادية بحتة"، مؤكداً أن عدم تقدم الصناعة والتجارة الوطنيتين "لم يكن عائداً إلى قصور في النشاط الاقتصادي، أو إلى تهاون المهتمين بالمشاريع المالية، بل بالعكس تماماً، فقد كان ناتجاً عن عدم وجود أوضاع إدارية تساعد على تنمية اقتصادنا العربي"، الأمر الذي يبرز أهمية النضال السياسي "لتغيير الأوضاع الإدارية في فلسطين بشكل يؤمن مصالح اقتصادنا الوطني النامي، وذلك بأن تسيطر على إدارة فلسطين السياسية والاقتصادية القوى الشعبية الديمقراطية".

وشدّد إميل توما على ضرورة أن يختط الاقتصاد الوطني لنفسه خطة "تتلاءم مع أوضاعه الاقتصادية وتنسجم مع وضعه السياسي"، بحيث يستقل "فيتبع تطوراً يأخذ بعين الاعتبار ثروتنا الطبيعية ومواردنا الإنتاجية بدلاً من التطلع إلى ربط اقتصادنا باقتصاد أجنبي"، وهو ما يعني "أن نعمل على تمتين علاقاتنا الاقتصادية بالأقطار العربية".وأعرب، في هذا السياق، عن تحفظه على شعار مقاطعة البضاعة الصهيونية أو البضاعة الأجنبية، معتبراً أن هذا لا يمكن تحقيقه في الأوضاع الحالية، ومقترحاً أن يحل محله  "شعار تشجيع وتنشيط الصناعة الوطنية والنضال ضد السياسة الاستعمارية التي تقف أمام تطور صناعتنا واقتصادنا"، على اعتبار أن المقاطعة "واقعة حين تظهر الصناعات الوطنية وتقدم إنتاجاً مرضياً"، وهذا ما يدفع الاستعمار "إلى مقاومة الصناعة المحلية في جميع البلاد المستعمرة" (3).

 

انتقاد سياسة قيادة الحركة الوطنية والدعوة إلى قيام وحدة وطنية ديمقراطية

انتقد إميل توما السياسة التي انتهجتها القيادة التقليدية للحركة الوطنية التي لا تزال -كما كتب في أيار 1946- "ترفض التعاون مع القوى الشعبية في البلاد، ولا تزال تعتمد في سياستها الداخلية والخارجية على مساندة القوى الرجعية بدلاً من التوجه نحو القوى الديمقراطية"، معتبراً أن هذه القيادة لم تفلح في حل أي.

 

إميل توما والحل الديمقراطي للقضية...

مشكلة من المشاكل التي تواجهها فلسطين: "فالهجرة والبيوع والاحتلال والإرهاب ما زالت قضايا لم تستطع حلها، كما لم تستطع حل قضية الاستقلال والحرية"، وذلك نتيجة الأساليب الخاطئة التي اعتمدتها في إدارة دفة النضال الوطني، وتساءل: "كيف يمكن لحركة تستهدف الحرية والاستقلال أن تنتهج أساليب تتعارض مع أهدافها هذه؟ كيف يمكن لحركة تريد التحرر من النظام الاستعماري القائم أن تنتهج أساليب تعزز [هذا] النظام وتسمح له بالبقاء؟..إن الأساليب هي جزء من الأهداف لا يمكن فصلها أو عزلها، فإما أن ننتهج أساليب استقلالية تؤدي إلى أهداف استقلالية أو أن ننتهج أساليب "تعاونية" ستؤدي حتماً إلى ضرب هذه الأهداف النضالية". وخلص إميل توما إلى أن من واجب هذه القيادة "أن تنسق أهدافها وأساليبها، وعليها قبل كل شيء رفض أساليب المفاوضة والمساومة"، والسير "في السياسة الصادقة الوحيدة أمامنا، سياسة فضح الاستعمار وعدم السير بذيله وعدم التفاوض معه ومقاضاته أمام الأمم المتحدة وفي مجلس أمنها".

وقدّر إميل توما أن القيادة التقليدية، ممثلة بالهيئة العربية العليا، التي قررت الجامعة العربية، في حزيران 1946، تأليفها بصفتها "القيادة الوحيدة" للحركة الوطنية العربية في فلسطين، لن يكون في مقدورها، بحال من الأحوال، أن تعدّل من أساليبها وأن تنتهج السياسة الناجحة في معارك الحركة الوطنية "ما بقيت على هذا التجميع الخاص في معزل عن القوى الوطنية الجديدة التي يقودها التطور الطبيعي لمجتمعنا الفلسطيني  إلى أن تتبوأ مركزها اللائق بها في الحركة الوطنية" (4). 

فتجارب حركات التحرر الوطني، وخصوصاً تجربة سوريا ولبنان،-كما تابع- أثبتت أن النضال في سبيل الاستقلال لن ينجح  إلا بتجنيد قوى الشعب جميعها وإقامة جبهة شعبية على قاعدة برنامج سياسي موحد، مقترحاً، مع رفيقه خالد زغموري وباسم  اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني، خطة واقعية للنضال اليومي يسير حولها البحث لتأليف وحدة وطنية ديمقراطية، تضمنت المطالب الآتية:"دفع الخطر الصهيوني عن فلسطين بالإصرار على تنفيذ النقاط الإيجابية التي جاءت في الكتاب الأبيض من وقف الهجرة وبيوع الأراضي؛ النضال في سبيل الحريات الديمقراطية؛ إفساح المجال أمام الشعب للاشتراك في إدارة الحكم"؛ بحيث يشكّل العمل على تنفيذ هذه المطالب "خطوة عملية لتحقيق الهدف الوطني العام وهو استقلال البلاد وتحررها التام". أما بخصوص الجانب التنظيمي، فقد اقترحت هذه  الخطة تأليف هيئة تحضيرية تمثل الأحزاب الوطنية، وتعمل "على عقد مؤتمر عام ينتخب الشعب فيه ممثليه انتخاباً مباشراً على أساس الاشتراك الإسمي في المؤتمر، الذي يكون من حق كل عربي بلغ الـ 21 عاماً في المدينة والقرية، وتتفق الهيئة التحضيرية على النسبة المئوية للتمثيل وتؤلف لجاناً تحضيرية فرعية في المدن توزع أوراق الانتساب للمؤتمر وتتقاضى الاشتراك ثم يصير الانتخاب للمؤتمر"، وينتخب المؤتمر في اجتماعه الأول "قيادة الجبهة الشعبية ويتفق على سياسة الحركة الوطنية العامة". 

لقد أكد إميل توما أن مثل هذا المؤتمر الشعبي الكبير هو "طريق الشعب إلى القيادة، ولا طريق غيره اليوم ولا بعد اليوم"، وهو الذي عليه أن ينتخب "هيئة وطنية عليا ديمقراطية تقود النضال وتضع خطوطه"، وتعمل على "تعديل الانحراف الخطير الذي طرأ على حركتنا الوطنية"، وتستوحي  خطوط نضالها"من السياسة الواقعية والنظرية العلمية"، وتوحد قوى الشعب الفلسطيني"مع الشعوب الحرة والقوى الصادقة لا مع أنصار الاستعمار والمساومين من أعوانه" (5). (يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب