news-details

اسرائيل فقدت قدرتها على التذكر بطريقة فعالة وبناءة| دانيل بارنبويم    

في السابع عشر من هذا الشهر تم رسميا تعيين الحكومة الإسرائيلية الجديدة. لتكون هذه الحكومة الخامسة والثلاثين في اسرائيل، بعد خمسة وسبعين عاماً على انتهاء محرقة اليهود. كجزء من اتفاقية الائتلاف، ستصوت الحكومة الجديدة على ضم اجزاء من الضفة الغربية: غور الأردن و المستوطنات، بناءً على "صفقة القرن للسلام" المقترحة من قبل إدارة دونالد ترامب. هذه الصفقة ليست صفقة سلام، انما هي خطوة في اتجاه معاكس للسلام، اتجاه كارثي.

لطالما اعتمدت اسرائيل على كونها ديمقراطية ليبرالية لإثبات جدارتها. كما بررت هذه الجدارة بادعاءٍ لأخلاقية نموذجية هي جذر اساسي للوجود اليهودي على مر الزمن. أحد تعاليم التوراه المركزية التي تقتبَس في تعبيرات دينية اخرى هي "العدالة، العدالة ستُتّبع". السعي وراء العدالة بالفعل كان من العقائد الأساسية في الديانة اليهودية منذ بدايتها. التعليم اليهودي الذي يدعو الى الشعور بالمسؤولية تجاه البشر اجمعين يعكس التزاما حقيقيا بمبادئ الاستقامة والعدالة. لكنّ دولة اسرائيل تستهلك جدارتها التاريخية وتخاطر بها بطريقة مؤذية لسببين مترابطين: اخلاقية ذاكرتها لمحرقة اليهود ومعاملتها للشعب الفلسطيني.

في نهاية القرن التاسع عشر، حلم ثيودور هرتسل بحلم جميل بوجود وطن قومي لليهود. للأسف، وفقط بعد مرور سنوات قليلة، تسللت كذبة إلى السرد: فلسطين هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". هذه العبارة ببساطة ليست صحيحة. في عام 1914 كانت نسبة اليهود فقط 12% من كامل عدد سكان فلسطين. لذلك لا يمكن لأي أحد أن يدعي بأن فلسطين كانت في ذلك الوقت أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض، وهذه الحقيقة تمثل صلب القضية الفلسطينية ورفض الفلسطينيين لتقبل وجود دولة اسرائيل. لذلك، اتهام الفلسطينيين باللاسامية غير مقبول، أولاً لأن الفلسطينيين هم أيضا ساميون وشعب سامي، وثانياً لأن رفضهم لتقبل الوجود اليهودي في الأرض التي هي اليوم اسرائيل له أساس تاريخي واضح وليست له أي صلة مع اللاسامية الاوروبية الشائعة التي وصلت درجات مرعبة في محرقة اليهود.

اسرائيل تتذكر ماضي الشعب اليهودي فقط لكنها فقدت قدرتها على التذكر بطريقة فعالة وبناءة. التذكر بطريقة بناءة يعتمد على دمج الذكريات بالفكر، خصوصا بما يتعلق بالماضي. هناك احتياج صحيح و ضروري لقول عبارة "أبدا مرة اخرى" عند التحدث عن محرقة اليهود، لكن لا يصح أن يكون هذه المنطلقَ الوحيد للحديث عن الماضي. لا بد أن يرتبط التذكر ببعدٍ بنّاءٍ اضافي.

محرقة اليهود يجب أن يُعترف بها من قبل كل العالم بما فيه الفلسطينيون. يجب أن تُفهم وتُدرس لضمان عدم حدوثها مرة اخرى ابدا وعلى الاطلاق. ادوارد سعيد ناصَرَ هذا المبدأ وكافح حماقة و قسوة الناكرين لمحرقة اليهود. ادوارد فهم أن عدم فهم الانهيار الانساني الذي تسببت فيه محرقة اليهود ونكرانها العنصري يفتح المجال لتكرارها، ويشكل إهانة قاسية لذكرى الناس اللذين هلكوا والذين نجوا. الفهم بالمعنى الشبينوزي له بعد اعمق: المعرفة والفهم مختلفان. المعرفة تراكمية لكن الفهم هو نتيجة عملية فكرية متعمقة تؤدي للحرية. عند تطبيق هذا المفهوم على ذكرى محرقة اليهود علينا الحصول على المعرفة عن طريق فهم ماهيتها لضمان عدم عبوديتنا لذكرى يجب أن لا تُنسى، لأن العكس سيؤدي الى تيارات عسكرية، غير ديمقراطية تهدد مستقبل الشعبين الإسرائيلي و الفلسطيني.

وحشية ولا انسانية محرقة اليهود امر يخص البشرية جمعاء. انا مقتنع بأن القدرة على رؤية المحرقة هكذا سيعطينا صفاء العقل والقدرة العاطفية للتعامل مع الصراع مع الفلسطينيين. إنْ كان صحيحاً أن الفلسطينيين لن يقبلوا باسرائيل من غير تقبل تاريخها بما فيه محرقة اليهود، فصحيح أيضا أن اسرائيل لن تتقبل الفلسطينيين ما دامت محرقة اليهود هي التبرير الأخلاقي الوحيد لوجودها.

وماذا عن اسرائيل و حكومتها الجديدة؟ أخلاقية الذاكرة لدى الحكومة الجديدة معيبة، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ الحكومة الجديدة مصممة على استمرار الاحتلال وبناء مستوطنات جديدة، و الآن تريد ضم اراضٍ اضافية. كل هذا يجعل الفلسطينيين متفوقين اخلاقيا. الاسرائيليون والفلسطينيون مرتبطون دائما. الاسرائيليون ليسوا فقط المستعمرين والفلسطينيون ليسوا فقط الضحايا. كلاهما "آخر" لكن فقط عند ضمهما يكونون وحدة متكاملة. لذلك من المهم أن يفهم كل منهما ليس فقط سرده الذاتي، لكن ايضا تجربة الآخر الانسانية.

الموسيقى تعلمنا ذلك: لا يوجد في الموسيقى سرد واحد، انما حوار وتطابق. وجود صوت واحد يكون ايديولوجية، و لا يمكن لهذا أن يحصل في الموسيقى.

 (موسيقي بارز، قائد أوركسترا أرجنتيني اسرائيلي، يحمل أيضًا جوازًا فلسطينيًا، أسّس مع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أوركسترا ديوان الشرق والغرب. يُنشر هذا المقال الخاص بالتنسيق مع الكاتب).

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب