news-details

الإعلام والصحافة في مواجهة العنف والجريمة – إعلام سلطة أم إعلام مجتمع؟| شادي نصار

تَداول المختصّون في الإعلام والصحافة والسينما آثار العنف والجريمة والعدوان على وجدان وسلوك المشاهد والمتابع والقارئ منذ عقود كثيرة، وقد تعدّدت الأبحاث والنظريات التي تطرّقت الى هذا السياق وأكثر من ذلك، فقد اختصّت مساهمات مهنية وأكاديمية في بحث دور الإعلام والصحافة في التعامل مع العنف والجريمة، وحاولت هذه المساهمات التمييز ما بين الدور المهني للإعلام عبر التوثيق والمصداقية وما بين الدور المجتمعي للإعلام والذي يتحمّل مسؤولية نبذ ومعالجة العنف وإظهاره كعلامة هدّامة وذات أثرٍ رجعي مرفوض بشكل واضح، وتتّسع هذه المساهمات والبحوثات لتشمل قدرًا عظيمًا من الأنواع المختلفة للإنتاجات الأدبية، السينمائية والمسرحية، الإعلامية والصحافية بمختلف صورها المكتوبة والمصوّرة المرئية، وفي هذه المقالة سنسلّط الضوء أكثر على الدائرة الإعلامية والصحافية وخصوصًا في ظلّ عصرها الجديد الذي يتربّع على عرش وسائل التواصل الاجتماعية.

وتنطوي مقالتي هذه تحت شراع البحث في أسباب وآثار وسبل مواجهة العنف الذي يستشري أكثر فأكثر داخل مجتمعنا العربي الفلسطيني في البلاد، وانّني أنظر الى واقع هذا العنف كسلوك مُكتسب أكثر من موروث، والفرق هناك مهم وضروري، فإنّ نظرية فرويد التي تُبرز دور الجينات الموروثة في التأثير على السلوك والوجدان الفردي والمجتمعي ونظرية سكينر التي تُبرز دور وتأثير البيئة على سلوك الفرد قد تم مواجهتها بقوة من قبل العالم الاجتماعي ألبرت باندورا، الذي طرح نظرية "التعلم الاجتماعي" التي تُبرز دور التفاعل المتبادل والمستمر بين المحددات الشخصية والمحددات البيئية، كما وتُظهر التفاعل المتواصل بين الموروث وبين تأثير البيئة على سلوك الفرد عبر النماذج المُقلّدَة وعمليات الحفظ والنمو المعرفي وتنظيم المعلومات والسلوكيات وغيرها من الأمور.

 ولكي نربط ما بين باندورا ومقالتنا هذه سنتطرق الى باب من أبواب نظرية "التعلم الاجتماعي" التي أشارت الى "التعلم بالنمذجة" أو التعلم بالملاحظة، ويُوصف هذا النوع من التعلّم والاكتساب بالعملية التي من خلالها يلاحظ الشخص أنماط سلوك الآخرين ويكوّن فكرة عن الأداء ونتائج الأنماط السلوكية الملاحظة، وتستخدم الفكرة كمعلومة مشفّرة لتوجيه أنماط الفرد السلوكية المستقبلية، ولقد تعلم الناس معظم العناصر السلوكية التي يظهرونها إما عن قصد وإرادة أو بغير قصد ولا إرادة عن طريق النمذجة. والنمذجة تقلل عبء المحاولة والخطأ ومزالقها، وذلك لأنها تمكّن الفرد من التعلم عبر المثال المحتذى، أي ما ينبغي أن يعمله حتى قبل أن يحاول فعله.

وتتزايد سهولة النمذجة باكتساب الفرد للمهارات عبر الملاحظة الانتقائية والترميز الذاكري، والتآزر بين الأجهزة الحسية الحركية، والفكرية، وبالحكم على نتيجة السلوك الملاحظ الذي يصدر عن الآخرين، وبتقليد السلوك الذي يصدر عن النموذج، ويرتكز التعلم بالنمذجة على "التعزيز البديل" حين يُكتسب السلوك عن طريق الملاحظة، أي لا يكتسب بطريقة مباشرة، والتعزيز البديل هي العملية التي بها ينظم الناس أنماطهم السلوكية ويغيرونها على أساس ما تعرض له الآخرون كنماذج يحتذى من نتائجها حين أصدروا هذه الأنماط السلوكية نفسها وحين غيروها. أي أن الناس يلاحظون أفعال الآخرين وما تلقاه هذه الأفعال من ثواب أو عقاب، أي ما يترتب عليها من نتائج إيجابية أو سلبية.

وبعد هذا التوضيح، يمكن فهم العلاقة المباشرة ما بين الإعلام والصحافة وما بين التأثير على السلوك المجتمعي والفردي، فلا حاجة فعلًا لشرح آليات التواصل الاجتماعي الحديث الذي يركّز كلّ قوته على استخدام فكرة النموذج والترميز وتفعيل غالبية الأجهزة الحسية والفكرية عند المستخدم والمتابع عبر القدرة التكنلوجية المتطورة التي وصلت الى أيدي المستهلكين، والمتمثلة بأدوات النقل المرئي والصوتي السريع والمعقّد. ولتبسيط ذلك، دعونا نضع أمامنا مقارنة بين عصرين، عصر الصحف المطبوعة مقابل عصر أدوات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك واليوتيوب، فإذا اخترنا في العصرين إبراز شخصية سياسية معينة كشخصية مهمة ومؤثرة يمكن اعتبارها نموذجًا يحتذى بأفكاره وسلوكه، فقد كان تأثير هذا الاختيار في عصر الصحيفة المطبوعة ينحصر في مدى المصطلحات البلاغية المستخدمة في النص المنشور، وفي فترة متقدمة انضم لذلك النص الايحاءات النفسية الناتجة عن الصور المختارة، والآن دعونا نحاول مرة أخرى فرض نفس الاختيار الترويجي ولكن عبر الأدوات الحديثة، وهنا نرى الفرق البالغ في تأثير الاختيار وتأثير النموذج المعروض، ففي هذا العصر يمكن نقل النموذج بالنص والصورة والصوت والفيديو والبث المباشر، بل يمكن فرض النموذج كنموذج حي ساعة بساعة يفرض على متابعيه مراقبة مستمرة لا تتوقف، وهذه المراقبة المستمرة تعني الاستمرار بالتأثّر والاكتساب والملاحظة.

ولا يمكننا المرور مر الكرام على مثل هذه القضية التي تعالج المجتمع والتأثير عليه بدون أن نُلقي التحية على رفيقنا كارل ماركس، فقد أثارت نظرية "صراع الطبقات"، التي حاول ماركس من خلالها تفسير تاريخ المجتمعات، تساؤلات مهمة حول دور السلطة والطبقة الحاكمة في السيطرة على أدوات الإعلام كأداة قمع تشبه الى حد كبير أداة الشرطة والجيش، ولا يمكن إخفاء العلاقة الواضحة ما بين رأس المال الكبير وما بين المحرّكات المركزية للإعلام والصحافة، ويتجلّى ذلك في كل العالم وفي إسرائيل بشكل فاضح بالوضوح، فقد تقلّص عدد أصحاب رأس المال المسيطر على الإعلام الإسرائيلي ليكون بين أيدي قلّة قليلة تُعرف علاقاتهم بالبنوك الضخمة في البلاد وبالرموز السياسية الفاسدة وعلى رأسها بنيامين نتنياهو. انّ تطرقنا لكارل ماركس لا يهدف لوصولنا الى نتنياهو في هذا المثال انّما يهدف الى عرض الإعلام والصحافة كأداة قمع ممكنة بأيدي رؤوس المال والسلطة، وفي سياق الحديث عن الإعلام والعنف علينا أن نبحث في العلاقة ما بين رؤوس المال والسلطة وما بين العنف والجريمة، ولهذا نعتمد في حديثنا على نظرية "صراع الطبقات" الماركسية، فإنّ هذه النظرية تعرض وضوح مآرب السلطة الدائمة والشرسة في اعتماد "الاستنساخ الطبقي" عبر كل الأدوات المتوفرة مثل الإعلام، التربية والتعليم، الأمن والبنوك وغيرها من الأمور، ويُقصد بالاستنساخ الطبقي المساعي السلطوية والقمعية في فرض الفروقات الطبقية كأمر واقع، بل أكثر من ذلك، فإنّ السلطة تعمل بشكل منظّم من خلال أدواتها على رسم مسارات تنتهي من حيث بدأت، أي دوائر مغلقة يتقدم بها الناس بتأثير الإمكانيات والفرص والأدوات والوعي لتصل في نهاية المطاف لتكون في ذات الطبقة الاجتماعية-الاقتصادية التي عاش فيها أهلهم وأجدادهم، ومن هنا فإنّنا نفهم ببساطة بأنّ عرض الفقر والفروقات المادية بين الطبقات المجتمعية كأمر واقع سيتوازى بدون أدنى شك مع عرض نتائج الفروقات المادية (مثل الآفات المجتمعية من عنف وجريمة) كأمر واقع أيضا، ومن هنا يبرز دور الإعلام والصحافة ما بين أداة تخدم مصلحة رأس المال والسلطة أو أداة تخدم مصلحة تقدم وتطور المجتمع.

ولا حاجة فعليا لعرض التعريفات المختلفة للعنف والجريمة والعدوان في هذا المقال، ولكنني سأتطرق الى مراحل تطور آثار العنف المُكتسب من خلال "التعلم الاجتماعي" وهي: العدائية المكتسبة من أحداث معينة ساهمت في صناعة محرّك ومنشّط نفسي عدائي، وثانيا الميل العدواني الذي يساهم في بناء توجّه أو نزعة عدائية، وثالثا السلوك العدواني المتمثّل بالرغبة والإرادة الظاهرة، ورابعا العنف الظاهر كاستجابة وتعبير وشكل للسلوك المسبق، وخامسا الإرهاب كممارسة متطرفة وواضحة وصل بها التعبير والشكل العنيف الى وسيلة.

تؤثرّ أدوات الإعلام والصحافة على المتابع من خلال مستويات مختلفة أوّلها معرفيّة عبر المعلومات والموضوعات والقضايا، ووجدانية عبر المشاعر والاستجابة العاطفية، وسلوكية عبر تنشيط أو خمول نزعات معينة، وتساهم هذه المستويات المختلفة من التأثير على تغيير مواقف ومعارف المتابع، وتعمل على تنشئة إثارة اجتماعية أو عاطفية، وتفرض أيضا ضبطًا اجتماعيًا وتكريسًا للأمر الواقع، ومن هنا نصل أخيرًا الى الدور الممكن للإعلام والصحافة في مسار مجابهة العنف والجريمة، أو نقيض ذلك، في دعم وترويج العنف والجريمة.

ولكي نختتم هذا المقال علينا أن نشير الى بعض الوقائع المهمة، انّ الإعلام العصري محكوم بغالبيته بسلطة السوق الخاص، أي بسلطة التنافس والربح، ولهذا الواقع آثار بشعة على أساليب صياغة الخبر والمقالة والتقرير وغيرها من الأمور التي يتم انتاجها في مختلف وسائل الإعلام والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعية، ولكننا لن تطرق الى أبعاد هذه الآثار التي يفرضها السوق على الإعلام وبنفس الوقت اننا مجبرون بأن نتحمل المسؤولية المجتمعية وأن نفرض حوارا ونقاشا مع كل وسائل الإعلام والصحافة (العربية المحلية على الأقل) حول دول الإعلام في التعامل مع توثيق ونقل أخبار العنف والجريمة، وكيف أنّ بإمكان الأدوات هذه أن تتخذ دورًا فعالا وتقدميا في مواجهة تأثير السوق على مساقات العنف والجريمة الإخبارية، أي تحييد هذه المضامين الإخبارية من حلبة التصارع على عدد المشاهدات والمتابعات، وتفضيل نقيضها عليها بشكل مصحح، انّ تحمّل مسؤولية كهذه يحتاج الى ثورة معلوماتية وميثاق شرف وتعهد مجتمعي يفرض على وسائل الإعلام نهجًا مهنيًا ومسؤولًا في نقل الأحداث والأخبار الخاصة بالعنف والجريمة وألّا تكون هذه الوسائل المحلية مرآة لنهج إعلام السلطة ورأس المال الكبير الذي يملك أجندة حاصة تتعارض مع أجندة المجتمع الذي يواجه خطر الموت والقتل.

ويسأل البعض "كيف يمكن لوسيلة الإعلام أن تغيّر نهجها في نقل الأخبار المرتبطة بالعنف والجريمة؟" وللإجابة على هذا السؤال نحتاج الى ورشات مهنية تستقطب أصحاب أدوات الإعلام، والمحررين والمنتجين والمختصين الأكاديميين بالإعلام والصحافة، وبعلم النفس والمجتمع، ولمثل هذه الورشات تجارب عدة حدثت في العالم العربي والعالم كلّه، ولمثل هذه الورشات والندوات تقارير ملخصة تحتوي على الكثير من القوانين المقترحة والإرشادات والتوصيات التي تمكننا من بناء ميثاق عام للتعامل الصحفي والإعلامي مع العنف والجريمة وسأطرح عنا بعض الجمل التي اقتبستها  من ورقة علمية صدرت عن "الندوة العلمية حول الاعلام والأمن" تحت اشراف جامعة نايف للعلوم الأمنية في السودان، وتوصي هذه الورقة في سياق معالجة نشر الجريمة بالوقوف الى جانب المجتمع ضد الجريمة، ومراعاة الدقة وتجنب التهويل والمبالغة، والابتعاد عن استخدام الألفاظ المثير والاكتفاء بالتلميح، وعدم ذكر الأسماء والعناوين الا في الحالات الاستثنائية، وعدم نشر الجريمة والعنف في الأماكن البارزة ضمن وسيلة الاعلام، والامتناع عن تمجيد المجرمين، والإقرار بمبدأ المسؤولية المجتمعية، وتوفير المعلومات الأمنية واحترام سيادة القانون في ذلك، وغيرها من المقترحات الطويلة والمنظمة بشكل مختص.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب