news-details

التغيير يبدأ من «الجذمور» - جوليان أسانج

كيف تصنع المعلومة العالم؟ من أجلِ الإحاطة بمشروع ويكيليكس، سأقترح عليكم تشكيلاً بسيطاً للسلوكيات: كيانٍ ما، شخص أو مُنظمة - يُلاحظ مُحيطه، يؤفهِم (Conceptualize) هذهِ الملاحظات، ثمّ يعمل على ضوء هذه المفاهيم. نعم؟ الآن إذا تفاعلت مجموعةِ كيانات، سيتغيّر المستوى، مما يعني أن السيرورة ليست خطيّة، ويُمكنها أن تتفرع بطريقةٍ غير متوقعة. تأثيرات بعض الكيانات، تغيّر الوسط، وبالتالي، مُلاحظةِ الآخرين. تدركون إذن أن مُلاحظة يُمكنها خلق مفهوم، قد يؤدي بدورهِ نحو فعل، سيرتد إلى تسلسل. بمعنى آخر، التمكن من المعلومة، تأثير في العالم أيضاً. على أسس كهذهِ، تساءلت كيف يُمكن تطوير حجم المعلومات الجاهزة بدايةً، كي يتمكن الفاعلون العقلانيون من التصرّف بالطريقةِ الأكثر مُلاءمة. في المُنطلق لم يكن ويكيليكس غير هذا: سعيٌ من أجل تزويد الفاعلين، بأقصى ما يمكن من المعلوماتِ الصحيحة حول مُحيطهم.

(جوليان أسانج، مُقابلة سجالٌ حول تغيير العالم، مجلة - philosophie magazine)

منذُ أوساط القرن الماضي نمت سجالاتٌ عديدة، في فهمِ إمكانيّات الثورةِ، التي تؤدي بدورِها لتغيير العلاقاتِ الاجتماعيّة والسياسيّة؛ في العالمِ الثالث انطلقت وتوسّعت النظريّات وحركاتِ التحرر الوطنيّ، على أساساتٍ النظريّة الماركسيّة، وركيزتُها المعياريّة الاستقلالِ والحريّة، ولذلك العلاقاتِ التبعيّة فرضت على العالمِ الثالث (نظريّا على الأقلّ) بأن ينحو نحو هدمِ العلاقاتِ الاجتماعيّة الاستعماريّة، ويهدف إلى التغيير الجذري، أي نقطع جذرٌ التبعيّة واستبدالهِ بجذرٍ جديد مُستقلّ. وفي العالمِ الأوّل نمت طروحاتٍ «جذموريّة» ترفضُ التغيير الجذريّ في المُجتمعِ، السياسيةِ والاقتصاد، ترفض ثُنائيّة (الهدمُ-البناء)، وتستبدلُها بُثنائيّة (الإصلاح- التجديد)، نرى ذلكَ بوضوحٍ في فرنسا والثورةِ الطُلابيّة في عامِ 1969، أو سياساتِ حزبُ العمل في بريطانيا وأيضاً نجد ذلك في ازدهارِ النظريّة الكينزيّة الاقتصاديّة. 

«الجذمور» هو جزءٌ يُقطع من ساقِ بعض النباتات ويُستخدم في إعادةِ انباتِها، قد وضعهُ جيل دولوز كمصطلحٌ في علم الاجتماع والسياسةِ، ليُشير إلى بدايةِ العملِ الثوريّ من الوسط، على عكسِ الجذر، مما يعني رفضهِ للأصوليّة والجذريّة، ويرى بأن الإمكانيّات الثوريّة تبدأ من قلبِ الموجود، تنسيق للجهودِ الفرديّة على شكلِ الشبكةِ كما نجدُها في «الجذمور». السياقاتِ المعرفيّة التي شكّلت جيل دولوز كفيلسوفٍ فرنسيّ، هي سياقاتٌ أوروبيّة، تطوّرت فيها العلاقاتِ الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة على أساسٍ الاستعمارِ والقوّة العسكريّة والتقنيّة، مما يُنتجُ سلطةً مُحكمة في الداخلِ الأوروبيّ كما يُبيّن ميشيل فوكو من مجالاتِ السُلطةِ الحديثة في المُجتمع وإعادةِ تشكيلهِ من خلالِ المؤسسات، ليكونَ موافقاً لمصالحِها. لذلك أجدُ بأن الفصل النظريّ بينَ العملِ والإمكانيّة الثوريّة وفقاً للجغرافيا السياسيّة ضروريّ لفهمِ الواقع، وقُدرتنا لفهمِ مشروعِ جوليان أسانج، مُتعلق بالـ«الجذمور».

يبدأ جوليان أسانج حديثهِ، من ضرورةِ كسبِ المعلومةِ والحقيقة، في جميعِ المجالاتِ السياسيّة والاجتماعيّة، للبدءِ في عمليّة تغييرٍ للعالم، ومواجهةِ التحديّات البيئيّة والانسانيّة التي خلقتها المنظومةِ العالميّة الامبرياليّة. النقاباتِ العُماليّة قد انتهت وتمّ تفكيك قوّتها السياسيّة في العديدِ من دولِ المركز الرأسماليّ منذُ ثمانينيّات القرنِ الماضي، وبدايةِ عهدٍ جديد تحت قيادةِ مارغريت تاتشر ورونالد ريجان. ويصعدُ أسانج في سياقٍ معدومِ الفاعليّة الانسانيّة.

 من خلالِ كسبِ المعلومة تزداد الفاعليّة الانسانيّة في العصرِ الحديث النيو ليبرالي؛ طروحاتِ أسانج تخلقُ مفهوماً جديداً للمُمارسةِ الانسانيّة نحو التغيير، في عصرِ التقنيّة والمعلوماتيّة والانترنيت، ملكيّة المعلومات السياسيّة محصورةٌ على نخبٍ ومجموعاتٍ صغيرة. كسرُ الاحتكار المعلوماتيّ والشكلِ التراتبيّ للمعلوماتِ والحقيقة، ثمّ تفرّعها من الوسطِ للجميعِ، وبذلكَ خلقٍ منظوماتٍ وكياناتٍ فاعلة تضغطُ على حكوماتِها «الديمقراطيّة»، وإعادةِ تشكيل السياساتِ الدوليّة على أساسِ الحقيقةِ والفاعليّة الانسانيّة وأيضاً استعادةِ الأثر الجمعيّ للشعوبِ الأوروبيّة. 

وفي قسمٌ آخر من المُقابلةِ، يتحدّث عن أثرِ كسبِ المعلومةِ في سياساتِ دولِ المركز الرأسماليّة، حولَ مُجريات الثوراتِ العربيّة الراهنة، ويرى بأن المعلومةِ كانت آليّة تقويض للعلاقات والدعمِ الأمريكيّ لديكتاتوريّة مصر وتونس، وفي تصريح نائب رئيس الولايات المتحدة جو بيدن بأن حُسني مبارك ليسَ ديكتاتوراً في السابع والعشرين من يناير، وتلا ذلك نشرُ البرقيّات والوثائق حولَ تجاهل الولاياتِ المُتحدة، قضايا التعذيب ومُمارساتٍ فاسدة للنظامين تجاه الشعوب قوّضت إمكانيّات الدعمِ والضغط على هيلاري كلينتون للتُراجع عن تصريحات جوبيدن، مما مكّن انكسارِ هذهِ الأنظمةِ. 

ما يجعلُ مشروع جوليان أسانج أكثرُ تعقيداً للعملِ بديمومةٍ وتراكمٍ، أن التصريحات الكاذبة التي يُطلقها القادة والسياسيين لحمايةِ مصالحهم في العالم، هي عمليّة دائمةً ومُستمرة وضروريّة في السياسةِ الدوليّة الامبرياليّة والتي تنحو للحربِ والنهبِ. بمعنى الكذب كما يطرحهُ الباحثُ الأمريكيّ جون ميرشايمر في العلومِ السياسيّة، هو ليسَ عارضا على السياسةِ الدوليّة الواقعيّة، بل مُركب شرعيّ لتحقيقِ المصالح القوميّة. مثلاً في لقاء بينَ رونالد ريجان وخروتشوف حولَ الانسحاب من دولِ شرق أوروبا، اتفق أن يتم ذلك بشرطٍ وضعهُ خروتشوف: بأن لا تدخل الولاياتِ المتحدة وتنشرُ صواريخها، وكان اتفاقٌ شفهيّ. ولكن فورَ انسحابِ الاتحادِ السوفيتيّ، نشرت الولاياتِ المُتحدة صواريخها الموّجهة على الاتحاد السوفيتيّ سابقاً، وأصبحَ تحتَ تهديدٍ مُستمر. وأيضاً الكذبُ حيالَ غزوِ العراق في عام 2003، عندما أصبحت كارثةً استراتيجيّة للولاياتِ المُتحدة، زادَ إيمانُ الجمهور بأن الكذب والخداع مسؤول عن بدايةِ الحرب. بذلكَ، أصبحت السياسةِ الدوليّة سوقٌ وتجارةٌ في الكذبِ والخداع، على حدّ قولِ جون ميرشايمر، وفقَ الحاجاتِ الامبرياليّة.     

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب