news-details

الساعات الأخيرة من حياة الأسرة المالكة في العراق (المجزرة - 3 والأخيرة)

أثناء اجتماع أبناء الأسرة المالكة في الحجرة الخلفية للقصر، استمعوا الى أحد قادة الثورة الزعيم الركن "عبد السلام عارف" يعلن من اذاعة بغداد عن مقتل جميع أفراد الأسرة المالكة، ويستفز المواطنين للهجوم على القصر، وما لبث أن بدأ ازيز الرصاص يقترب من حجرات القصر، وشوهد جنود وضباط من غير أفراد الحرس الملكي يتقدمون في الحديقة نحو القصر، إذ أن ضباط معسكر الوشاش بعد ان تم لهم الاتصال بقائد الحرس الملكي "اليامري"، عمد الى اصدار الأمر الى جنود الحرس الملكي بالتوقف عن المقاومة،  وعندئذ تقدم المهاجمون من جهة طريق الشام  ودخلوا الحديقة، وتقدم ضباط معسكر الوشاش الذين كانوا يحيطون بالقصر من مدخله الرئيسي، فوقف الرئيس عبد الستار السبع وهو يحمل رشاشًا بينما دخله آخرون بسلاحهم وهم يسألون الواقفين في البهو: أين هم؟  أشاروا الى الغرفة الخلفية، فتقدم ثلاثة منهم واقتحموا بابها وصوبوا رشاشاتهم الى من بداخلها  وصاح أحدهم: اطلعوا للخارج: قال الملك: يا أخي "على ويش كل الرشاشات هذه؟ شايفنا مسلحين؟ لو أردنا قتالكم، كنا قتلناكم". لم يجب الضابط، لكنه ابتعد عن الباب ووقف جانبًا ورشاشه مصوبًا اليهم وقال: اطلعوا للخارج، كانت الساعة قد بلغت السابعة والدقيقة العشرين، والرصاص ما يزال يتطاير في الحديقة على غير هدى، وها هو موكب الموت يخرج من القصر، من باب خلفي نحو الحديقة الخلفية، ويسير بمحاذاة الجدار تجنبًا للرصاص الطائش الذي كان ما يزال يتساقط على الجدران.

كان الموكب يسير في خط طويل، وكل منهم ممسك بيد الآخر، يتقدمهم ضابط طيار من الثوار، ويسير وراءه تمامًا الملك فيصل، فالأمير عبد الاله محتضنًا والدته الملكة نفيسة، كانت تجرّ نفسها جرًا، ثم الأميرة عابدية وقد تعلقت بأذيالها الطفلة غازية والأميرة هيام، فالخادم الأسود شاكر الذي جاء من الحجاز مع اسرة الملك علي، فالخادمة رازقية، فسائق الملك، أما الأنسة فيغمان السويسرية، فقد انعزلت في احدى الغرف. وكان يمشي قرب الملك كلبه باتي الذي لم يفارقه.

 كان الصمت يخيم على الموكب، ما عدا الطفلة غازية التي كانت ترتجف وتصيح "ستي ... ستي" وكانت الأميرة عابدية تصيح بها وتقول: اتركينا يا بنتي، روحي ما حدا وّياك، أي ما حدا يخفيك.. لكن الصغيرة أبت أن تتركهم، وبقيت متشبثة  بالأميرة.

سار الجميع في أثر الضابط حول القصر، حتى أدركوا الجهة الأمامية منه ولما وصلوا الى شجرة تدعى جهنمية الواقعة قرب حوض النافورة  امام مدخل القصر، أصابت رصاصة طائشة الطفلة غازية، وقتلت في الحال، فوقف الموكب وانحنت الأميرة عابدية على الطفلة ترفعها، فالتفت اليهم ضابط الطيران الذي كانوا يتبعونه  وقال بعصبية: "سيدي بشرفي ما يصير عليكم شي " .

وفي تلك اللحظة خرج من القصر ضابط يحمل رشاشًا من نوع - تومي غن – وكان هذا الضابط واقفًا مسندًا ظهره الى أحد الأعمدة، يتطلع نحو الموكب، الذي يبعد حوالي 20 مترًا وكان يدغدغ رشاشه، ويتربص والرصاص الطائش لا زال ينهمر، وكان الخوف يسود الموقف.

ولما رأى الحاضرون من الضباط والجنود الموكب الملكي يسير على هذا الشكل  تحولت الرهبة  الى خشوع، لكن هذا لم يمنع الضابط الواقف عند مدخل القصر ويراقب المشهد على بعد 20 مترًا بعينين شبه مغمضتين، ما لبث انتفض ووضع يده على الزناد، وصاح بأحد رفاقه، فنزل الرئيس عبد الستار السبع درجات المدخل الأربع قفزًا، وتقدم بخطوات واسعة نحو الموكب يسير وراء رفيقه،  سار على بعد سبعة أمتار منه،  ثم أشار بيده الى الضابط الطيار، فاقترب وسأله: هم دول كلهم، لم ينتظر طويلًا، بل ادار رشاشه باتجاههم، وآخذ يطلق صليات من الرصاص بكافة الاتجاهات، فتساقطوا جميعًا، الواحد تلو الآخر، وتحولوا الى كتل بشرية من اللحم والدم.

تصاعدت من وسط المجزرة صيحات رعب وعويل، وسقط الملك فيصل أرضًا، وانفجر صوت نسائي يقول: خاين خاين، انه صوت الملكة نفيسة تردد بالتركي، يا خونة يا خونة، وظل النداء مستمر حتى تحول الى انين، ثم انطفأ مع نفسها الأخير، وتوقف الضابط الذي اطلق النار على الأسرة المالكة، ووقف فوق الجثث الممددة، وأطلق رشاشه من جديد نحو الملك فيصل والأمير عبد الاله: فقال له رفيقه، لويش هذا؟ فأجاب حتى أتأكد، تفاصيل وقوع المجزرة ضد أفراد الأسرة المالكة، وردت في رواية أخرى، في كتاب "نهاية قصر الرحاب" تأليف محمد حمدي الجعفري .

يقول أن عبد الاله طلب من الملك التنازل عن العرش ومغادرة البلاد، وعندما أصبح أفراد الاسرة المالكة خارج القصر، ارتفع صوت الرئيس مصطفى عبد الله طالبًا الاستسلام من الملك وحاشيته، فسارع العميد طه البامري قائد الحرس الملكي يهدىء من روعه، وأخذ يكلمه باللغة الكردية، في هذه الأثناء تمكنت بعض المدرعات من التسلل داخل حديقة القصر فانتشر حولها بعض الجنود.

قبل الساعة الثامنة شوهد افراد الأسرة المالكة يسيرون وراء كل من المقدم محمد الشيخ لطيف، والملازم الأول تامر حمدان ـ وقد ظهر الملك فيصل مرتديًا قميصًا رمادي اللون، وينتعل حذاءه، فسارع في الحال برفع يده لاداء التحية العسكرية للحاضرين، مع ابتسامة خفيفة تراقصت على شفتيه، وكانت خلفه جدته الملكة نفيسة، يتبعهم عبد الاله، وكان يتمتم بكلمات غير مفهومة، وقد بدا شاحب الوجه مرتديًا ملابسه ووضع يده اليسرى في جبينه، أما يده اليمنى فقد كانت تحمل منديلًا أبيض، التفت خلفه ليرى زوجته واخته تسيران في الركب، تلحق مهما الخادمة رازقية والطباخ التركي وخادم آخر. وكانت الطفلة غازية تمسك بأذيال الأميرة عابدية التي كانت اشرقت على تربيتها منذ زمن ليس ببعيد.

صاح احد الضباط بأفراد الأسرة المالكة، والى جانبه مجموعة من الضباط المشاركين في الثورة، طلب منهم أن يجتازوا احدى الممرات في حديقة القصر  نفذوا طلبه واقتربوا من حوض للماء، توقفوا حيث اصبحوا بمواجهة القوة المهاجمة التي شكلت نصف حلقة دائرية، وفي  الحال سمع الجميع صوت اطلاق نار لم يعرف مصدره، فسارع جميع الضباط بفتح نيران اسلحتهم باتجاه موكب الاسرة المالكة، وقد اعتقدوا ان هناك خديعة في الأمر، فسقط افراد الاسرة بفعل النيران، ولم ينج منهم سوى الأميرة هيام، زوجة عبد الاله التي اصيبت في فخذها وتهاوت ارضًا، وتمكنت من الزحف الى ركن آمن، تقدم منها ضابط اعتقد انها صديقة للأسرة المالكة، فنقلها الى المستشفى كما تم انقاذ الخادمة رازقية بعد ان نقلت الى المستشفى.

وفي حدود الساعة الثامنة والربع صباحًا جرى أحد ضباط الحرس الملكي وهو عاري الرأس أزرار ثيابه مفتوحة وحذاؤه العسكري يخب في قدمه بلا رباط، الى دار الشريف حسين زوج الأميرة بديعة، وأحد أفراد الاسرة المالكة، وراح يطرق الباب بقوة، ولما فتحوا له الباب صرخ في وجوههم قائلًا:

 لقد ماتوا جميعًا، اخرجوا بسرعة، وقد تمكنوا من الهرب مع أولادهم الى السفارة السعودية، ومنها تم نقلهم الى خارج العراق.

(انتهى)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب