news-details

السيرة الذاتية للخرائب| د. هنيدة غانم

 

1. الأليف الموحش

يستخدم فرويد مصطلح الـuncanny للإشارة إلى الشيء الأليف الذي يحمل في طيّاته غرائبية تبعث الرعدة، مثل صورة حبيب تلمع عيونه الجامدة في العتمة، وقد تكون أقرب ترجمة له إلى العربية هي "الأليف الموحش"، كونه يجمع بين الشيء القريب جدًا لنا والذي يبعث في ذات الوقت على الخوف؛ وكانت الكلمة الألمانية التي استخدمها فرويد بالأصل لوصف هذه الحالة هي Unheimliche وهي كلمة مركبة من heimliche التي تعني البيتي و un التي تتقدم المفهوم لتسلب معناه، فتعطينا فعليًا بيتًا يحمل دوره ونقيضه فيكون: الحميمي الغريب، الأليف الموحش: أم تأكل أطفالها، لعبة طفل تتحول إلى شبح في الليل .

البيوت عادة مخزن أرواحنا وعقدة وجودنا، ليس غريبًا أن يتّخذها يونغ أنموذجًا لفهم معمارية البنية النفسية، ولا أن يستند إليها باشلار لتحليل وفهم تشكل المعاني الشاعرية والصور الشعرية...

البيوت تنحتنا على هديها، نحن صلصال نفخت البيوت روحها فينا فصرنا: أشخاصا بغرف وسراديب ومساحات للضيوف وحواكير أو ياخور معتم وغرفة نوم حشر فيها عشرة، ومطبخًا صغيرًا فيه خليط من الصراخ والبهارات والكلام المتداخل والفوضى مرة والهدوء مرة.

ولأن البيت ألفة وحميمية وجدران رفعت لتحمي ساكنها من الخارج الموحش والمهدد فإنّ تحطمها وتكسرها يكسر الروح، ويرميها في هاوية سحيقة، المسألة ليست ذكريات ولا مسكنًا ومأوى فقط، المسألة ان فقدان البيت هو فقدان الأمان البدئي والأولي الذي يسيج الروح قبل كل شيء ويحصنها أمام تهديدات الخارج الموحش والمنفلت، حين تنهار جدران البيت تنهار جدران حماية الروح، وتصبح عصبًا مكشوفًا.

البيوت نحن، أو بكلمات أدق البيوت مرايا أرواحنا، جدرانها المهدمة تبعث في أجسادنا رعشة خوف ورعدة، لأننا نرى فيها قوقعتنا تتكسر، وروحنا تلطمها الريح، ليس أدق إذن من القول إننا بلا بيت نكون في العراء، حتى لو وضعنا في عمارات عالية، العراء لا تكسوه الجدران بل الألفة.

لذلك يظل فقدان البيت الخاص في النكبة هو الفقدان الأعظم والأصعب الذي لا يعوض الجيل الأول والثاني، أي الجيل الذي نفخت فيه البيوت روحها وأطلقته.

 

٢. الشق:

البيت في الصورة، الذي ينتصب بجسده المكسور، يقع في الشق المقابل لقريتي المرجة في الأراضي التابعة لقرية دير الغصون، قريتي التي كبرت الآن وصار يسكنها حوالي ألف شخص كانت قبل النكبة مجرد خربة صغيرة لبيوت مترامية على مساحات واسعة من الأراضي، بعد النكبة وثم اتفاقية وقف إطلاق النار وضع الحد الفاصل بين البيوت المترامية تلك التي وقعت غربي الخط، صارت اسرائيل وتلك التي شرقه صارت ضفة.

يقول أبي رحم الله روحه التي ترفرف فوق المكان، إن عدد البيوت في الجانب الشرقي كان يفوق عدد البيوت في الجانب الغربي للحد، أي أن المكان المقابل المهجور هو قريتنا في كابوسها، مرآتها بدونها، هذا هو الحميمي الموحش الذي ما كان فرويد سيضعه بشكل أوضح.

في عالم آخر كانت هذه البيوت ستكون جزءًا من قريتنا أو ربما نكون نحن جزءًا من هامشها، نكون جزءًا متواضعًا حتى!!

على أية حال، بعد النكبة هجرت البيوت تدريجيًا في الشقّ الشرقي من الحدود، وخبت القناديل. هناك صار الليل كحلًا والعتم عميقًا. الكلاب وبنات آوى وحدها تجرأت على شق الصمت بلا وجل...

خيّم الصمت هناك وظلّ الصخب هنا، وفي المشهد الذي انبلج في وادٍ مثقل بالتناقضات كانت تنتصب صور تعلن العصيان على منطق القطع الذي شق البلاد، اذ برغم هجران بيوتها التدريجي ظلّت كروم الزيتون في الشق الشرقي نظيفة أنيقة وسناسلها منظمة بدقة، ظلّت أراضيها محروثة، كما بقي زيتونها منقبًا، أما في جانبنا فكان الحال على النقيض تمامًا، فبالرغم من أن البيوت ظلت على حالها ولم يهجرها سكانها، غطى الشوك والنتش الأراضي من حولنا وانقض العليق على الزيتون وخنقه، واكتست الكروم بغبرة الإهمال ونعيق الهجران.

وأنا لم أكن حقًا أعرف ما هي الحدود لكني كنت أشعرها والأمر حقًّا مثير، يمكنني طبعًا أن أكتب دراسة عن الحدود لكنها ستكون كلامًا مدروسًا، تتوسطها البرودة ولغة الحديد والمعادن. الشعور معمار ومرايا، أعمدة وباطون وجدران وزجاج يعكس صورًا، الشعور بيت وماء، لذلك يحاور الجدران بلغةٍ أخرى مختلفة عن لغة النظريات الصدئة.

هكذا هي حال الحدود كنت أقول، لا بدّ أنها تمتلك قوى خفية تجعلها قادرة أن تقطع الجبال بالسيف والجسد بالخوف والعروق بتيار الغرابة، ترفع قبضتها عاليًا حتى الغيم ثم تهوي بقوة دون حساب، تشق كل شيء، تشقه بدقة متناهية، حتى الهواء تقصه، تصير الأشياء كلّها اثنين: أم هنا وابن هناك، أرض هنا وبيت هناك، محراث هنا وفلاح هناك.. تلة هنا وتلة هناك ومرايا تنسل من مرايا، تضع أرواحًا أمام هجران والنقصان أمام أجساد.

 

٣. الهجران: محاولة استنطاق:

يعود البيت المزين بالقوس المدرج لعائلة حسين أبو حسنة من دير الغصون التي استشهد ابنها راضي في معركة قاقون ودفن هناك، أما البيت الثاني فيعود لعائلة الشيخ محمد العباس الذي استشهد أيضًا في معركة قاقون لكنه دفن بالقرب من بيته على التلة التي أطل منها على قاقون، اذ هاجم وهب كما يروي أهل البلد إلى بارودته للدفاع عنها.

قبره اليوم يطل على خرائب قاقون وخرائب بيته. مرآة تقابل مرآة وخرائب تنسل منها خرائب بيت وقبر متكسر الزوايا..

يقال بدأ الهجران في التلة المقابلة في سنوات الخمسين، حين قتل ضابط مستعرب عند الواد الذي علم الشق وفصل المكان بين التلتين، حينها كما اليوم لا يتم الاكتفاء باعتقال المنفذ بل الانتقام بالتنكيل بالروح من خلال إعدام البيت. وهكذا كان، فجر البيت الذي حطه حظه العاثر بمحاذاة الحدود. سمع سكان تلتنا الانفجار الذي هزّ بيوتهم وقلوبهم وأبقاهم مرعوبين، ليفهموا ويعلموا كيف تدار الاشياء.. الآن!

فرّ سكان البيت قبل التفجير بأرواحهم، ثم فرّ جيرانهم مفزوعين، ثم فر جيران جيرانهم، وظلّت بيوت أخرى على حالها تحاول الاستمرار بالحياة.

تلة شقها واد مرصوف بحجارة صوان، مكان واحد صار مكانين، الخط المدعو الأخضر بشهادة الميلاد كان هو الوحيد غير الأخضر وسط الحقول الصغيرة والتلال المغروسة بالزيتون، والخط قال: هنا شرق وهناك غرب، هنا عرب وهناك يهود، هنا اسرائيل هناك أردن.

هنا مرايا تنسل من الوادي ترتفع وتتولد من جديد، مرايا كثيرة تتكسر، وتصنع من الصورة ألف قصة تحتاج من يلملمها لنفهم على الأقل لماذا تتسرب في عروقي رعشة وخوف كلما اقتربت من حطام بيت؟

هناك على التلة المقابلة، بيوت فرغت تدريجيًا، منها ما فرغت خوفًا ومنها تعبًا ومنها انكسارًا.

البيت بالقوس المدرج، ذاك الذي سقط صاحبه في المعركة في قاقون، هجره سكانه وذهبوا الى القرية الكبيرة، هزم الهجران روحه وانكسر على حزنه كئيبًا مخروسًا.

البيت الثاني ظلّ صامدًا وواقفًا على حاله رغم الخوف، لكن للخوف حساباته، تركه سكانه ليلاً وعادوا إليه مع كلّ فجر. يقال كانت تأتي صاحبته إليه كل يوم، تطبخ وتكنس وتخبز فيه، وتعمل في الأرض هي وزوجها ثم يعودان للنوم في القرية القريبة وهكذا دواليك.

وظل البيت كقلعة منتصبة بحجارته ومعماره الجميل، حتى جاء يوم في الانتفاضة الثانية، غيمة سوداء مرّت فوقه، نعيق بوم وتمتمة أشباح سالت من مسامات المكان كله، انفجار هز أرجاء البيت وحوّله إلى كتلة ردم وحطام، بيت آخر أعدم وروح أخرى تكسرت.

الادعاء: اختباء مطلوبين فيه!

حين جاءت صاحبة البيت لتطمئن عليه لطمتها الصدمة، شلّت قدرتها على النطق، تركت عقلها معلقًا على شجرة هناك وعادت إلى بيتها الآخر الذي سلته من مرآة بيتها الأول، عادت كائنًا آخر لا يشبه ما كان.

 

٤. في العودة إلى الأليف الموحش:

كيف يرى العاقل الذي جنّ صورته حين ينظر عميقًا في المرآة ويطيل النظر؟

أظنه يرى طفلاً خط الشيب رأسه، عروسًا بثوب أسود. فارسًا يركب حصانًا أعمى.

ما الذي تراه البيوت العامرة حين تطيل النظر في البيوت المكسرة الخربة؟

ترى قبرها. ترى مستقبلها وحاضرها وماضيها اختلطا معًا، ترى التلة والواد..

ترى لا وعيها الذي اجتهدت لتدفنه في عمق الأرض!

الأمر مرعب حقًا لأنه يجمع الأليف والغرائبي. هناك يلتقي الحميمي بالموحش، ويتكشف لنا البيت اللا-مسكون بالمعنى المزدوج للمسكون بالأرواح الهائمة للاجئ ربط ظله في المكان وانسل منه كسيرًا ولمسكون بأناس يطلون كل يوم على البيوت المردومة ويتحسسون روحهم.

فلسطين كلّها مرايا متقابلة، من جوفها تخلق قصص بلا نهاية، بين عوالمها تتحرك الصور ذهابًا وإيابًا، بين الحاضر الذي ينظر الآن إلى صورته المهشمة والماضي الذي هرب من حراسه واختبأ في الوادي.

وأنا مسكونة بالنظر إلى الخرائب:

كلّما قلت هنا سأنهي الحكاية، سأضع نقطة الفصل، تتمرد على النهاية، النقطة تصير فاصلة وتنسلّ منها جمل جديدة عن قصص أخرى.

الحدود ولادة قصص، والمرايا المتقابلة ولادة بدايات وخواتم لا تنتهي، وبين شقي التلة المشطورة ما زلت لا أعرف كيف ابدأ كتابة الحكاية.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب