news-details

العظماء (23) ياسر عرفات قائد الكفاح الفلسطينيّ (2)| علي هيبي

 

كانت "اتّفاقات أوسلو" محلّ جدل ونقاش ومواقف متباينة بين الكثيرين من المثقّفين والمحلّلين السّياسيّين وأصحاب الرّأي الفلسطينيّين، باعتبارها لم تحقّق الاستقلال الوطنيّ التّام ولم تفضِ إلى دولة مستقلّة بلا قيود، بل أفضت إلى حكم ذاتيّ وتبادل اعتراف بين إسرائيل والمنظّمة، الأمر الّذي ضمن لإسرائيل وجودها المهزوز شرعيًّا والّذي انتظرته منذ قيامها الكولونياليّ الاحتلاليّ، وثمّة من يرى من الفلسطينيّين أنّ "أوسلو" حقّق بعض "الإنجازات" أبرزها اعتراف إسرائيل لأوّل مرّة بوجود الشّعب الفلسطينيّ وبقيادة ممثّله الوحيد "منظّمة التّحرير الفلسطينيّة" وبكيان فلسطينيّ له في أجزاء من "الضّفّة الغربيّة" وَ "قطاع غزّة". ولكنّ "المنظّمة" (م.ت.ف) الّتي اعترفت بها إسرائيل هي ليست رائدة وقائدة الكفاح الثّوريّ الفلسطينيّ بل هي المنظّمة المقصوصة الجناح والمنزوعة الحول والطّول، والّتي اعترفت بحقّ إسرائيل في العيش بسلام على 78% من التّراب الفلسطينيّ ووافقت على تعديل فقرات الميثاق الوطنيّ الدّاعية للعنف والنّضال ضدّ إسرائيل، ووافقت على إرجاء القضايا الكبرى "العالقة": القدس، اللّاجئين، المستوطنات، الأمن والحدود لثلاث سنوات تتمّ بعدها المحادثات بين الطّرفيْن حول الوضع الدّائم أو الحلّ النّهائيّ. كلّ ذلك قدّمته "المنظّمة" لإسرائيل قبل أن تخلع إسرائيل لباسها العدوانيّ وقبل أن تتنازل عن حلمها بأرض إسرائيل الكاملة، وقبل أن توقف البناء الاستيطانيّ والتّوسّع ونهب الثّروات الفلسطينيّة الأساسيّة. لقد صارت إسرائيل قطرًا شقيقًا كما وصفها الفنّان "دريد لحّام" (1934) في المسرحيّة السّاخرة "كاسك يا وطن" وأصبح العرب اثنتيْن وعشرين قطرًا "بفضل" أنظمتهم الطّوائفيّة، "القوميّة" وغدوا مللًا ونحلًا وطوائف كما كانوا في زمان ملوك الطّوائف في "الأندلس" المفقود.                

قلت في قصيدة لي بعنوان "أيّتها الدّيار العامرة ابشري بالخراب"، ستنشر في ديواني القادم الّذي سيصدر قريبًا بعنوان "ابن رشد يورق في الاحتراق": 

"سامَ قُدسَ المكانِ ملوكُ الطّوائفِ خسفًا

ثُمَّ استباحوا طهارةَ عِرضِ السّنينْ

وصاروا عِبادَ الطّوافِ السّياسيِّ

حولَ الدّنانِ معَ الماجنينْ

وصاروا أدْوَرَ مَنْ أدارَ كؤوسَ المدامِ

وأمتنَ مَنْ أتى بمُتونِ الكلامِ

حولَ التّفاوضِ وفتحِ الفخذيْنِ وارتعادِ الفرائصِ 

أمامَ السّننِ الدّوليّةِ ومهزلةِ الالتزامِ

بحثٍّ حثيثٍ أسندوا بعدَ جهدٍ جهيدٍ

سبيلَ السّلاحِ لكرسي كُساحِ السّلامِ

جموحَ الخيولِ لكبحِ اللجامِ

وصاروا يتامى يستعطفونَ الصّحونَ

ملاعقَ ذلِّ السّؤالِ ولقمةَ خبزٍ كسيرٍ فوقَ خُوانِ اللئامِ".

أمّا المعارضون لهذه الاتّفاقات، ومن أبرزهم: الشّاعر الكبير "محمود درويش" (1941 – 2008) والمفكر الشّهير "إدوارد سعيد" (1935 – 2003) فقد قالوا: "منظّمة التّحرير الفلسطينيّة" حوّلت نفسها من حركة تحرّر وطنيّ إلى ما يشبه حكومة بلديّة صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة. وهناك من قال: "أوسلو ميّت ولم يبقَ منه إلّا ما يخدم مصالح إسرائيل، ولم يكن إلّا محطّة للهروب من الواقع العربيّ الّذي ضيّق الخناق على الفلسطينيّين آنذاك، ولذلك على الفلسطينييّن شقّ طريقهم من جديد لمواجهة الأخطار". وفي ذكرى مرور خمسة وعشرين عامًا على هذه الاتّفاقات تناولت صحف عربيّة بالنّقد واصفينها بأنّها كانت "خطيئة سياسيّة"، كما رأى البعض أنّ "أوسلو" مهّد لزيادة حدّة الإرهاب الإسرائيليّ. وقد وصف موقع "فلسطين اليوم" الاتّفاق بأنّه "مشؤوم"، بينما وصفه موقع "الخليج أونلاين" الإماراتيّ بأنّه خطيئة سياسيّة يدفع الفلسطينيّون ثمنها منذ ربع قرن. أمّا الإعلاميّ الفلسطينيّ "عبد الباري عطوان" (1950) فقد وصف الاتّفاقيّة في صحيفة "رأي اليوم" بأنّها "مصيدة"، وقال: "في مثل هذا اليوم قبل ربع قرن، دخلت قيادة "منظّمة التّحرير الفلسطينيّة" والشّعب الفلسطينيّ أكبر مصيدة في العصر العربيّ الحديث، نصبها لها الإسرائيليّون وحلفاؤهم الغربيّون وبعض العرب بدقّة، ودخلت في دهاليزها وهي مفتوحة العينيْن، مصدّقة كذبة السّلام وإقامة الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة، وهي كذبة فضحتها الوقائع اللّاحقة على الأرض".

ورغم ما هناك من مواقف متباينة مؤيّدة أو معارضة، تبقى محادثات " مدريد" ومبادئ "أوسلو" ومباحثات "واشنطن" وكلّ ما تمخّض عنها منذ ذلك الوقت حتّى اليوم خطيئة ارتكبتها أميركا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربيّة بحقّ الشّعب الفلسطينيّ العظيم وبحقّ قيادته الوطنيّة وبحقّ الكفاح الفلسطينيّ والمقاومة المشروعة بكافّة الأشكال والوسائل، ومن أبرزها الكفاح المسلّح والانتفاضة الشّعبية. لقد انتصرت حركة "26 يوليو" على الطّغمة الدكتاتوريّة في كوبا بالسّلاح والمقاومة الشعبيّة، وانتصر حزب "المؤتمر الوطنيّ" على نظام التّفرقة العنصريّة الأبيض في جنوب أفريقيا بالسّلاح والمقاومة الشّعبيّة، وانتصر الحزب "الشّيوعيّ" وحركة "الفيتكونغ" في فيتنام على أربعة استعمارات بالسّلاح والمقاومة، وانتصرت حركة "الضّباط الأحرار" على العدوان الثّلاثيّ بالسّلاح والمقاومة الشّعبيّة الباسلة. فكيف ستنتصر الثّورة الفلسطينيّة بالتّفاوض فقط، وبلا سلاح أو مقاومة على أعداء أشدّ عتوًّا وأكثر شراسة وحقدًا وعنصريّة!

 

ومع ذلك يبقى عرفات رمزًا عظيمًا:

فقد قاد مختلف مراحل النّضال الوطنيّ منذ انطلاقة الثّورة المعاصرة بحنكة القائد المكافح والرّمز ذي الدّراية الواسعة والإرادة الحديديّة والصّمود الأسطوريّ أمام كلّ التّحديّات، وبقدرة قائد مثل "أبو عمّار" كان يمكن تحويل الكثير من الانتكاسات إلى انتصارات سجّلها له التّاريخ النّضاليّ الفلسطينيّ والعربيّ والإنسانيّ، والّتي ستكتب سطورها بماء من ذهب وخيوط من نور لتبقى شاهدة على عظمته الّتي لم تكن محلّ جدل أو نقاش أو تباين في الآراء. ستذكرها الأجيال القادمة إلى أمد بعيد. لقد كان "ياسر عرفات" إجماعًا وطنيًّا فلسطينيًّا شاملًا. رغم سقطة "أوسلو" فقد يكبو الهمام، يبقى "ياسر عرفات" زعيمًا فلسطينيًّا وعربيًا من فريق الرّئيس الوطنيّ المصريّ والقوميّ العربيّ "جمال عبد النّاصر"، لقد كان القائد الوطنيّ الكبير والمؤسّس لمسيرة الكفاح والمعلّم الأوّل في مضامينها الثّوريّة وزعيم الثّورة الفلسطينيّة الميدانيّ الّذي حمل روحه على كفّه، الشّهيد الرّمز "أبو عمار":

"فإمّا حياةٌ تسرُّ الصّديقَ       وإمّا ممات يغيظُ العدا"

ورحم الله الشّاعر الفلسطينيّ المناضل "عبد الرّحيم محمود" (1913 – 1948)

ولذلك أصبح "ياسر عرفات" ما صار عليه، فكلّ شجرة كانت ذات يوم بذرة ونبتة صغيرة، لكنّ بعض الأشجار تموت في منتصف الطّريق وتتحوّل إلى حطب جافّ وبائس، أمّا تلك الغرسة الّتي ستطول فروعها إلى السّحاب، فهي الّتي تملك المواصفات الّتي ستوصلها ذات يوم إلى هناك، وقد كان "ياسر عرفات" واحدًا من تلك الأشجار التي غرست جذورها عميقًا، وانتصبت وظلّت واقفة طيلة مسيرة النّضال والإثمار، وما زالت فروعها تتمدّد محلّقة إلى سماء مجد الحياة والكرامة، وحين استشهد مات واقفًا كالأشجار الباسقة والدّائمة الإيناع والبراعم وخضرة الكفاح.

رئيس دولة فلسطين العتيدة ومؤسّس حركة التّحرير الوطنيّ الفلسطينيّ "فتح " مفجّرة الكفاح المسلّح في الفاتح من كانون الثّاني سنة (1965) وكان قائدها العامّ، ورئيس منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وقد جعلها الممثّل الوحيد للشّعب الفلسطينيّ المعترف به عربيًّا ودوليًّا. وكان إلى جانب ذلك كلّه الدّاعم الأوّل لتأسيس "كتائب شهداء الأقصى" الذّراع العسكريّ لحركة "فتح". كان القائد "ياسر عرفات" صاحب رحلة طويلة من المطاردة والمقاومة والمثابرة والثّبات. ففي كلّ موقع له ذكرى، وفي كلّ مواجهة كنت تجده حاضرًا بين المقاتلين لرفع معنويّاتهم، تعرفه جيّدًا أزقّة المخيّمات في لبنان، يهاجم هنا ويتصدّى هناك ويخطّط للقادم.

 

أين نشأ، من أين بدأ:

يصعب أن تكتب عن قائد شعبنا الفلسطينيّ وتبقى ملازمًا للموضوعيّة العلميّة، لأنّ شخصيّة كشخصيّة "أبو عمّار" تفرض عليك بعضًا بل كثيرًا من العاطفة الجيّاشة والمشحونة بالأحاسيس الذّاتيّة والمواقف المتماهية نحو "ياسر عرفات" الإنسان والقائد والمجنَّد عند كلّ ذرّة تراب من تراب فلسطين وعند كلّ حرف من حروف أسماء قراها ومدنها وجبالها وتلالها وأنهارها وجداولها وخِرَبها، وعند كلّ مفصل من مفاصل تاريخها المجيد على مدى الاحتلالات المتوالية والمتغيّرة: التّركيّة والإنجليزيّة والصّهيونيّة والنّضالات الفلسطينيّة الثّابتة على مدى الظّلم الاستعماريّ. لقد كان لي شرف لقائه ومعانقته لمرّة واحدة، هي ما استطعت إليه سبيلًا مع وفد من الحزب الشّيوعيّ والجبهة الدّيمقراطيّة من الدّاخل الفلسطينيّ، في مقاطعة "رام الله" بعد رجوعه إلى أرض الوطن. لقد كان "ياسر عرفات" على طول مسيرته أصعب الأرقام أمام جحافل التّكالب على فلسطين العربيّة. فأين نشأ ومن أين بدأ هذا الهمام الّذي كبا جسدًا في غمرة التّخاذل العربيّ الرّسميّ وخنوع أنظمة لا تجيد إلّا القمع لشعوبها وإلّا الانبطاح أمام أعداء تلك الشّعوب، وعلى رأسها الشّعب الفلسطينيّ الصّامد والصّابر والقابض على الجمر، ولكنّ "ياسر عرفات" لم يكبُ روحًا وكفاحًا ورمزيّة للنّضال الوطنيّ والحضاريّ، وظلّ منارة تهدي الثّوّار في العالم العربيّ والعالم الواسع إلى سارية ضياء الكفاح الوطنيّ والنّضال الثّوريّ، تتعلّم منه كي تحظى بالعدالة والحرّيّة والاستقلال والكرامة.

تؤكّد دراسات علم النّفس وعلم الاجتماع حقيقة اكتمال الذّات الفرديّة بواسطة المجتمع الّذي تعيش فيه، فالشّخصيّة الإنسانيّة تتكوّن من مكوّنيّن غير منفصليْن: الذّات الفرديّة والذّات الجماعيّة وكلاهما تكمّل الأخرى فالفرديّة تنبثق من الدّوافع الدّاخليّة للذّات والاجتماعيّة تتغذّى وتتأثّر من خلال تفاعل الشّخصيّة وانخراطها في البيئة والمحيط الاجتماعيّ فتزداد بهذا نضوجًا واكتمالًا. ومع أنّ الإنسان كلّ لا يتجزّأ فإنّه ليس بناء ثابتًا بل متغيّرًا ومضطربًا مع تغيّر حركة المجتمع واضطراباته الدّائمة، ولذلك لا بدّ عند دراسة شخصيّة لها أهمّيّتها التّاريخيّة ومكانتها السّامية ومسيرتها العظيمة كشخصيّة "ياسر عرفات"، كي ندرك أسرار مكوّنات عظمتها لا بدّ من التّجزيئات والتّقسيمات الّتي تكوّن الشّخصيّة المتكاملة.          

في أحد أحياء "قاهرة المعزّ" عاصمة مصر العروبة، في 4 آب سنة (1929) ولد "محمّد عبد الرّحمن عبد الرّؤوف عرفات القدوة الحسينيّ" ورأت عيناه النّور، لأسرة فلسطينيّة تنتمي لعائلة "القدوة" الغزّيّة والّتي تعود جذورها لقبيلة "الحسينيّ" المقدسيّة ذات التّاريخ الوطنيّ المجيد، والّتي أنجبت كوكبة من المناضلين الفلسطينيّين، أبرزهم شيخ المجاهدين الفلسطينيّين "موسى كاظم الحسينيّ" (1853 – 1934) أوّل من رفع صوته متحدّيًا الانتداب البريطانيّ، ودعا للاحتجاج في أوّل مظاهرة غضب شعبيّة انطلقت سنة (1920) إلى آخر مظاهرة كانت في "يافا" سنة (1933) وفيها انهال عليه رجال الأمن البريطانيّ بضربات شديدة على رأسه، وظلّ طريح الفراش حتّى استشهد في يافا سنة (1934) أمّا ابنه "عبد القادر الحسينيّ" (1907 – 1948) فكان قائد جناح من أجنحة المقاومة الفلسطينيّة للانتداب البريطانيّ ولحليفته المغتصبة الحركة الصّهيونيّة قبل سنة النّكبة (1948) وقد قاد عدّة معارك ضدّ العصابات الصّهيونيّة، استشهد في إحداها، وقد دامت لثمانية أيّام متواصلة، استشهد في "القدس" سنة (1948) إمّا حفيده ونجل "عبد القادر" فهو  "فيصل الحسينيّ" (1940 – 2001) فقد كان قائدًا سياسيًّا ومناضلًا ضدّ الاحتلال سنة (1967) فقاد المظاهرات وسجن أكثر من مرّة، وكان قائدًا من قادة الانتفاضة الأولى وأحد أعضاء الوفد الفلسطينيّ في محادثات "أوسلو" وقد وصفه داعية التّرانسفير الوزير العنصريّ "رحبعام زئيفي" (1926 – 2001) بِ "الإرهابيّ بن الإرهابيّ" - اغتيل "رحبعام زئيفي" على يد أفراد من "الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين" سنة 2001 في "القدس" انتقامًا لاغتيال قوّات الاحتلال الإسرائيليّ للقائد "أبو علي مصطفى" (1938 – 2001) القائد في الجبهة الشّعبيّة - لأنّ "فيصل الحسينيّ" دافع عن عروبة "القدس" بعد أن كان مسؤولًا عن ملفّها في السّلطة الفلسطينيّة، ورئس "جمعيّة الدّراسات العربيّة" أو ما سمّي "بيت الشّرق" ولقّب بِ "أمير القدس" وظلّ يمارس مقاومته بكافّة أشكالها حتّى توفّي في الكويت سنة (2001).

 

وعودة إلى ياسر عرفات:

على هذا النّبض الوطنيّ والعلميّ والجهاديّ ولد ونشأ في أجواء "القاهرة" المقاومة للانتداب البريطانيّ، كانت جدّته مصريّة، أمّا أبوه "عبد الرّؤوف القدوة" (1860 – 1952) فغزيّ كان تاجرًا للأقمشة في حيّ "السّكاكيني"، حيث ولد "ياسر عرفات" ابنًا سادسًا لأسرة من سبعة أخوة، أصغرهم "فتحي عرفات" (1933 – 2004) الطّبيب الّذي أصبح رئيسًا لِ "مؤسّسة ياسر عرفات"، وأمّه "زهوة أبو السّعود" (توفّيت في 1933) مقدسيّة تعود جذورها لعائلة "الحسينيّ" وقد توفّيت وعمر "ياسر" أربع سنوات، فكانت هذه صدمة أولى ألمّت بالطّفل الصّغير. في هذه الأجواء المصريّة قضى مراحل طفولته وشبابه المبكّر، ومن هذه الأجواء كما يبدو جاءت لهجته المصريّة. ومنذ صغره كان منخرطًا ببيئته المصريّة والفلسطينيّة، وبعد موت الأمّ انتقل مع أخيه الأصغر "فتحي" ليعيش مع خاله "سالم أبو السّعود" في "القدس" وظلّ فيها حتّى سنّ الثّامنة.

كانت "القدس" ملعب الطّفولة المحبّب، هناك بالقرب من "الحرم القدسيّ" وقبّة "الصّخرة" وحائط "البراق" وكنيسة "القيامة" نما عشقه لهذه المدينة الّتي ظلّت عزيزة على قلبه وظلّ وفيًّا لها، المدينة الّتي رفض التّنازل عنها ودفع حياته الغالية ثمنًا لذاك الوفاء. وفي "القدس" كما في سائر فلسطين ترين أجواء الاحتلال والنّضال والمقاومة، كيف لا يشعر "ياسر" بذلك وهو المولود سنة ثورة "البراق" سنة (1929) وقد عاش وهو ابن السّابعة إرهاصات ثورة سنة (1936) الّتي قادها الشّيخ "عزّ الدّين القسّام" (1883 – 1935) وفي "القدس" الّتي كان يتردّد إليها كثيرًا في شبابه تعرّف لاحقًا على الحاجّ "أمين الحسينيّ" (1895 – 1974) الّذي لعب دورًا في الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ، ومن ثمّ عاد "ياسر عرفات" والتقاه في بداية سبعينيّات القرن الماضي وقال له وهو يشدّه من بزّته العسكريّة وبلهجة عامّيّة: "أنا سلّمتك إيّاها نظيفة وخلّيها نظيفة يا أبو عمّار".

نما حبّه للنّضال منذ طفولته، إذ كان يدعو أخاه الصّغير: "تعال نلعب لعبة تحرير فلسطين"، وفي أحداث الثّورة الكبرى تلك بدأ يمارس كفاحه الفعليّ وهو ابن سبع سنوات، إذ ساهم مع أترابه برشق الحجارة على الدّوريّات البريطانيّة وبوضع المسامير تحت عجلاتها، ومن أبرز الأحداث الّتي رسخت في أعماقه الطّفل الجريحة وعمّقت من كراهيته للظّلم والاحتلال حادثة اعتقال خاله واقتياده إلى السّجن وحين اعترض الطّفل انهال الجنود بالضّرب على رأسه حتّى سال دمه.

 

وعودة إلى القاهرة:

بعد أن تزوّج أبوه زوجة ثانية، مصريّة تدعى "نظيرة غزّولي" عاد "ياسر" إلى القاهرة مع أخوته: "إنعام" الكبرى (1916 – 1999) وَ "د. جمال" (1919 – 1989) وقد كان سفيرًا لفلسطين في "الخرطوم" وَ "صنعاء"، وله كتابات سياسيّة وتاريخيّة وأدبيّة وَ "يسرى" وَ "مصطفى" وَ "خديجة" وَ "فتحي" الأصغر، ليعيشوا مع أبيه في حيّ السّكاكينيّ"، كان أبوه صارمًا في تربية أبنائه، متديّنًا، معتدلًا، قائمًا بالفرائض الدّينيّة، وقد علّم أبناءه ونمّى فيهم أصول الدّين الحنيف، السّمح والمعتدل واحترام الآخرين بغضّ النّظر عن انتماءاتهم أو أعراقهم، فنما "ياسر" على تربية التّسامح الدّينيّ، في الحيّ الّذي سكن فيه المسلم إلى جانب المسيحيّ واليهوديّ، لقد نشأ في بيئة متديّنة محافظة ولكنّها منفتحة وتحترم الأديان الأخرى، وقد كان يذكر أباه فيقول: "توفّي أبي دون أن يترك لي إرثًا مادّيًّا، ولكنّه أورثني كنزيْن: الشّجاعة والإيمان الدّينيّ" وتوفّيت زوجة الأب الثّانية السّيّدة "نظيرة"، فتزوّج من ثالثة مصريّة أيضًا هي "فاطمة الزّهراء حمدي" وأنجبت ولدًا واحدًا وابنتيْن اثنتيْن. لقد رعى "ياسر" أخاه الصّغير "فتحي" وأحبّ "إنعام" أخته البكر الّتي رعته واعتبرها أمًّا ثانية، وكان الشّبّان الثّوار من "فتح" عندما يجتمعون في بيته يطلقون عليها لقب "أمّ المؤمنين" لعنايتها الفائقة بهم، وكانت في صغره تلومه وتعنّفه إذا هرب من المدرسة فيقول لها: "نعم سيّدي الجنرال"، فالحسّ العسكريّ كان ينمو فيه منذ نعومة أظفاره ومنذ خشونة الظّروف الوطنيّة. وكثيرًا ما كانت تجري وراءه لتردعه لصغر سنّه عن المشاركة في المظاهرات، فلا يرتدع رغم أنّها كانت تمنع عنه المصروف ويواصل نشاطه الكفاحيّ الغضّ. ومنذ صغره كان تبدو عليه علامات تحمّل المسؤوليّة وأمارات الشّخصيّة القياديّة نحو الأسرة والمحيط، فقد كان يقوم بكلّ الأعمال المنزليّة ويحضّر يوميًّا فطور الأسرة ويقوم بعمليّات التّنظيف المنزليّ وترتيب الملابس وغيرها، إنّ هذا الإحساس المبكّر بالمسؤوليّة جعل من هذا الطّفل البريء رجلًا واعدًا وقائدًا يشار إليه بالبنان. وعندما مات قطّه شيّعه بجنازة عسكريّة كان هو قائدها وخطيبها، ومن هنا نما حبّه للقراءة والخطابة والمشاركة في المظاهرات، وقد ألقى خطابًا في إحداها، وغدا "عرفات" صاحب الخطابات الحماسيّة والنّاريّة. لم يصبح هذا الطّفل قائدًا من فراغ، بل من امتلاء عنفوانيّ منذ طفولته. وكان منذ صغره قادرًا على الإقناع بمنطق سليم، فيذكر أنّ أخته "إنعام" شكت إليه حالة أخيه "فتحي" الصّحيّة الّذي لا يأكل اللّحم، وأرادت من "ياسر" أن يقنعه بتناول اللّحوم المهمّة لبنية الجسم، فقال له: "الأسود تأكل اللّحوم والخِراف تأكل الأعشاب، أنا أحبّ أن أكون أسدًا فهل تحبّ أنت أن تكون خروفًا"! فاقتنع "فتحي" بكلام أخيه وكان "ياسر" آنذاك ابن الثانية عشرة من عمره بينما عمر "فتحي" ثماني سنوات.

 

مراحل تعلّم وبدايات كفاحيّة:

سوف يتخرّج "ياسر عرفات" مهندسًا من جامعة "القاهرة" سنة (1955) تتويجًا لهذا الميل نحو الهندسة والتّخطيط والتّنظيم منذ الطّفولة، وتتويجًا لمرحلتيْن تعليميّتيْن في الابتدائيّة والثّانويّة، كان يصنع من كلّ الأشياء الطفوليّة أشكالًا للأسلحة. بعد عودته إلى القاهرة للعيش في كنف أبيه وزوجته الجديدة التحق "ياسر" بمدرسة "مصر الابتدائيّة" في هذه المرحلة المبكّرة أظهر ميلًا نحو المعرفة والثّقافة، وهو الأمر الّذي تبلور فيه في المرحلة الثّانويّة، في هذه الأثناء عايش الطّفل الكبير أحداث معارك الحرب العالميّة الثانية في "العلمين" على أرض مصر، ورأى آلاف اللّاجئين وهم يتدفّقون على "القاهرة" من "الإسكندريّة" وغيرها، أولئك الّذين تعرضّت منازلهم للقصف والهدم، والجرحى الّذين أصيبوا جرّاء القصف، لقد رأى صور اللّجوء وأدرك معاناة اللجوء ومعانيه مبكّرًا، كان يزور هؤلاء اللّاجئين والجرحى في المستشفيات هو وأصدقاؤه، كنوع من التّعاطف ومن الإحساس بالظّلم والمعاناة الّتي ألمّت بهؤلاء البسطاء، وكموقف رافض لهذه الممارسات والجرائم، ومن هذه الصّور تولّد فيه الميل إلى متابعة أخبار السّياسة والتّعرّف على أنواع الأسلحة.

سنة (1942) الحرب العالميّة الثّانية في صميم معمعانها وعلى جبهات متعدّدة في العالم، و"ياسر عرفات" طالب في المدرسة الثّانويّة، في سنّ الثالثة عشرة يميل إلى قراءة الصّحف والمجلّات والكتب التّاريخيّة والأدبيّة والدّينية، لقد كانت قراءاته صورة تعكس المناخ الّذي تربّى وترعرع فيه وعايش أحداثه وواكبها واضطرب مع اضطراباته المتغيّرة والمتسارعة، في سنة (1943) حضر ابن عمّه "محمّد جرّار القدوة" من "غزّة" إلى "القاهرة" لمتابعة دراسته الجامعيّة فزوّد "ياسر" القارئ النّهم بمجموعة من المجلّدات في التّحليلات السّياسيّة والاجتماعيّة والموسوعات التثقيفيّة في مجالات المعرفة الرّحيبة.

نستطيع القول أنّه في هذه الفترة ومع نهايات المرحلة الثّانويّة بدأ "ياسر عرفات" نشاطه السّياسيّ المبكّر من خلال النّقاشات الّتي أثيرت حول تحرير الوطن والاستعمار ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان، ورغم كلّ هذا التّراكم للأحداث والمتغيّرات السّياسيّة فقد غزا الحبّ الفطريّ، الرّقيق، الرّومانسيّ، العفيف قلب اليافع "ياسر"، فوقع في هوى "نادية" جارته وصديقته وزميلته في المدرسة. كان ذاك هو الحبّ الأوّل السّاذج الّذي انتهى بعد انشغال العاشق بالسّياسة والكفاح. (يتبع)

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب