news-details

المادية التاريخية هي المقاربة العلمية لدراسة التاريخ

تبحث المادية التاريخية عن اسباب التطورات والتغيرات في المجتمع البشري بالوسائل التي ينتج بها البشر عامة ضروريات الحياة، والطبقات الاجتماعية والعلاقة بينها الى جانب الهياكل السياسية واساليب التفكير في المجتمع تكون البناء الفوقي للمجتمع بينما النشاط الاقتصادي هو البناء التحتي للمجتمع وتربط البناء الفوقي والتحتي علاقات جدلية، تحدث تطور تراكمات كمية محددة الى ان تتراكم هذه التغييرات الكمية وتحدث القفزة الكيفية أي الثورة الاجتماعية وبالنسبة للنظام الرأسمالي هذه القفزة الكيفية الثورة الاجتماعية تقود الى بناء مجتمع المستقبل مجتمع حرية الانسان.

مصطلح المادية التاريخية ظهر لأول مرة في كتاب فريدريك إنجلز "الاشتراكية الطوباوية والعلمية" في عام 1880، ويتضح اهتمام ماركس المبدئي بالمادية في اطروحة الدكتوراه الخاصة به، التي قارنت بين الذرية الفلسفية (المذهب الذري) لديموقريطيس والفلسفة المادية لإبيقور، وكذلك قراءاته الوثيقة لآدم سميث وكتاب آخرين في الاقتصادي السياسي الكلاسيكي. ولعل اوضح صياغة قدمها ماركس للمادية التاريخية كانت في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" لقد استطاع ماركس في مؤلفه رأس المال من وضع وصياغة الديالكتيك – الجدل – بشكل ملموس إبان تحليله للمجتمع الرأسمالي وكشف قوانينه، وكذلك هناك فضل اساسي لرفيقه إنجلز في تناول الديالكتيك وقوانينه ففي مؤلفاته ضد دوهرينغ، وديالكتيك الطبيعة ولودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية تمكن انجلز من عرض المادية الجدلية والتاريخية بشكل مفصل وعميق وعلمي. فبالنسبة لماركس وانجلز الديالكتيك هو "علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الانساني والفكر"، (ضد دورينغ ص 69).

والكشف عن القوانين الموضوعية للحركة في الطبيعة والمجتمع والتي تتحكم في التطور والحركة هو ما يمكن الانسان من الوعي بواقعه وتغييره، فعبر الكشف عن هذه القوانين الجدلية المادية التاريخية الموضوعية والتي تتحكم في تطور المجتمع الرأسمالي، وتحويل هذه المعرفة الى قوة مادية عبر امتلاك الجماهير لها وخاصة الطبقة العاملة والاحزاب الشيوعية وتوجيهها نحو العمل الثوري ونحو الثورة والتغيير. وهذا لا يمكن ان يحدث الا اذا عملت الاحزاب الممثلة للطبقة العاملة بشكل مدروس من اجل تكوين أناس مخلصين للفكر الشيوعي وعيا وممارسة متطورين من جميع النواحي وبصورة متناسقة ويتميزون بالاخلاص والمثابرة والحفاظ على المبادئ والقيم الانسانية العالية متبنين العقائد الشيوعية، وممارسة النشاط الاجتماعي السياسي الرامي الى بناء مجتمع جديد – مجتمع المستقبل – مجتمع حرية الانسان المجتمع الشيوعي. 

وهذا الامر يلزم كل من ينتمي الى الفكر الماركسي اللينيني ان يكون مخلص لرفاقه ولجماهير الشعب الواسعة، يمارس العمل السياسي بشكل هادف منتظم وممنهج، صادق وأمين رافض للأنانية، وحب الذات رافض لمفاهيم التكتلات على اساس شخص او عائلي او طائفي مترفع عن العصبية كل عصبية ومنها العصبية القومية، لأن الاممي الحقيقي هو القومي الحقيقي والقومي الحقيقي هو الاممي الحقيقي. فعلى الانسان الشيوعي المتبني للفكر الماركسي والمتعمق بالفلسفة المادية الجدلية التاريخية يجب ان يكون شخص متكامل، وعامل اجتماعي وسياسي نشيط، رافض للانتهازية والحلقية، والغدر ومكافح ضد كل من يخون المبادئ والقيم الشيوعية والانسانية، وعليه ان يتحلى بالعقيدة الماركسية اللينينية العلمية وبثقافة رفيعة وله سجايا اخلاقية راقية، كريم بكل ما لهذه الكلمة من معنى ويلازمه شعور المسؤولية العميقة امام الطبقة العاملة والمجتمع بأسره، يعمل بأسلوب خلاق ويُطور كفاءاته وكفاءات من حوله. على الفرد المتبني للفكر الماركسي والفكر المادي الجدلي التاريخي العمل على الترقي الفكري والاخلاقي، فالجمع بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية يؤمن نجاح العمل السياسي الثوري ويعمق الثقة بين كوادر الاحزاب الشيوعية والطبقة العاملة وبين جماهير الشعب الواسعة، وهذا لا يمكن ان يكون بدون دراسة الفلسفة الماركسية اللينينية، وكل مكوناتها مثل المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي والنظرية الشيوعية العلمية.

ومهم جدا تذليل رواسب الماضي في وعي الناس وتصرفاتهم ومكافحة الافكار الرجعية والقوى الرجعية بكل اشكالها وعلى شن نضال هجومي لا هوادة فيه ضد هذه القوى الرجعية، وأمام الحركة العمالية في جميع البلدان وخاصة في عالمنا العربي النضال ضد الانتهازية وقوى التخريب والخيانة داخل منظمات حركات العمال وأحزابها السياسية، خدمة طبقة رأس المال، فالفاخوري وغيره ليسوا بأفراد بل هناك خطة مدروسة ومبرمجة واستراتيجية تمارسها طبقة رأس المال للتخريب ولاضعاف الدور الثوري للطبقة العاملة وأحزابها. علينا ان نذكر بان الحياة الاجتماعية متعددة الاشكال ولا يمكن ارجاعها الى الاقتصاد وانما هي ترابط معقد من العلاقات الاقتصادية والسياسية والاخلاقية والحقوقية وغيرها من العلاقات بين الناس، ولا شك ان للافكار والنظريات والآراء الاجتماعية دورا عظيما في التاريخ، فهي، إذ تعكس النظام الاقتصادي، توجه نشاط الناس وتؤثر من خلاله على تطور المجتمع وعلى الاقتصاد من جملته. قال ماركس ان الافكار تصبح قوة مادية عندما تستحوذ على الجماهير، لذلك مهم جدا على من ينتمي الى الاحزاب اليسارية وخاصة الاحزاب الشيوعية ان يكون دارس ومتمكن من الفكر الماركسي وخاصة الفكر المادي الجدلي التاريخي من اجل توجيه نشاط الطبقة العاملة وجماهير الشعب الواسعة، لا بل كل نشاط الناس لكي تصبح هذه الافكار قوة مادية تعمل على التغيير الثوري للمجتمع الرأسمالي.

لم تكن افكار كارل ماركس ابدا اكثر راهنية مما هي عليه اليوم، ويتضح هذا في التعطش الكبير للنظرية الماركسية الذي نشهده في الوقت الحاضر. فأفكار ماركس وفلسفته المادية التاريخية صمدت امام اختبار التاريخ، وستبقى منتصرة، والآن اصبح نقاد الماركسية، وخاصة بعد ازمات الكساد والانكماش الاقتصادي الرأسمالي، مجبرين على الاعتراف بان الرأسمالية تحمل في طياتها بذور فنائها، وأنها نظام فوضوي وعبثي ويتميز بالازمات الدورية التي ترمي بالناس الى البطالة وتسبب في الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية وقد تؤدي الى كارثة انسانية بسبب تغير المناخ والبيئة.

في شهر تموز 2009 وبعد حدوث الركود الاقتصادي عقدت صحيفة الإيكونوميست ندوة في لندن لمناقشة مسألة: ما هي مشكلة الاقتصاد؟ يكشف ذلك ان عددا متزايدا من الاقتصاديين لم يعد يثق في صلاحية النظريات السائدة، وقد ادلى الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، باعتراف مدهش حيث قال: "خلال الثلاثين سنة الماضية كان تطور نظرية الاقتصاد الكلي عديم الفائدة بشكل عجيب في احسن الاحوال او انه كان، في اسوأ الاحوال، ضارا بشكل مباشر". وهذا الحكم عبارة عن رثاء مناسب لنظريات الاقتصاد البرجوازي. ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره (ماركس موضوعات عن فورباخ الموضوعة 11)، "ان وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع "المدني" ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع البشري، او البشرية التي تتسم بطابع اجتماعي (موضوعات عن فورباخ الموضوعة 10)، والآن اصبحنا نرى الكثير من المقالات التي تعترف بان ماركس كان على حق في آخر المطاف. وحتى صحيفة الفاتيكان الرسمية لوسير فاتوري رومانو، نشرت مقالا عام 2009 يشيد بتشخيص ماركس لعدم المساواة في الدخل، مما يشكل نقطة جيدة لصالح الرجل الذي كان قد اعلن ان الدين أفيون الشعوب. وصار كتاب رأس المال، الكتاب الاكثر مبيعا في المانيا، وقد تم نشره في اليابان بنسخة مصورة.

كذلك كتب جورج ماغنوس وهو محلل اقتصادي بارز في بنك يو.بي.اس  مقالا تحت عنوان مثير: "اعطوا كارل ماركس فرصة لإنقاذ الاقتصاد العالمي" بنك يو.بي.اس يتخذ من سويسرا مفرا له، مؤسسة مالية رائدة، لديه مكاتب في اكثر من 50 دولة ويمتلك اصولا بأكثر من 2 تريليون دولار، إلا ان ماغنوس كتب في مقال له في صحيفة بلومبرغ فيو، ان "الاقتصاد العالمي اليوم يحمل أوجه تشابه كثيرة مع ما تنبأ به ماركس، في مقالته يبدأ من خلال وصف واضعي السياسات الذين يكافحون من اجل فهم موجة الذعر المالي والاحتجاجات وغيرها من المشاكل التي يعاني منها العالم" وينصحهم بأنهم سيحسنون صنعا لو قاموا بدراسة اعمال اقتصادي توفي منذ زمن بعيد، هو كارل ماركس، "لنتأمل على سبيل المثال تنبؤ ماركس حول كيف ان الصراع الكامن بين الرأسمال والعمل سيعبر عن نفسه، وكما كتب في رأس المال، فان سعي الشركات لتحقيق الارباح والانتاجية سوف يؤدي بها بطبيعة الحال الى تقليص متواصل لحاجتها الى العمال، مما سيخلق "جيشا" صناعيا احتياطيا من الفقراء والعاطلين عن العمل: "تراكم الثروة في قطب هو بالتالي، في الوقت نفسه، تراكم البؤس في القطب النقيض".

ويتابع جورج ماغنوس المحلل الاقتصادي في بنك يو.بي.اس قائلا "ان العملية التي وصفها ماركس تظهر في جميع انحاء العالم المتقدم، ولا سيما في الجهود التي تبذلها الشركات الامريكية لخفض التكاليف وتجنب توظيف أيدي عاملة، والتي عززت ارباح الشركات الامريكية وحصتها من اجمالي الناتج الاقتصادي الى اعلى مستوى لها خلال اكثر من ستة عقود، في حين ان نسبة البطالة تقف عند 9.1% وبقيت الاجور الحقيقية راكدة". "ان عدم المساواة في الدخل بالولايات المتحدة قد وصل الى حد ما، الى اعلى مستوى له منذ عشرينيات القرن العشرين، قبل عام 2008 تم حجب التفاوت في الدخل بسبب عوامل مثل تسهيل عملية الاقتراض، مما سمح للأسر الفقيرة بالتمتع بأسلوب حياة اكثر ثراء، لكن المشكلة الآن عادت الى الواجهة". ففي المرحلة الراهنة دخلت الرأسمالية في حلقة مفرغة حيث فائض الانتاج وانخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية وارتفاع مستويات الديون تولد انعدام الثقة بين المستثمرين، والتي من شأنها ان تعكس بدورها على شكل ازمة حادة في البورصة وانخفاض اسعار الاصول وانهيار الاقتصاد الحقيقي للمجتمع الرأسمالي، وكما قال ماركس "فالرأسمالية يمكن، عند نقطة معينة ان تدمر نفسها".

لذلك ما زال شبح الماركسية ومكوناتها وخاصة المادية التاريخية والاقتصاد الماركسي يطارد طبقة رأس المال، لذلك مهم جدا دراسة كتابات ودراسات كارل ماركس والتسلح بهذه الفلسفة في ممارسة النضال الطبقي الثوري ضد طبقة رأس المال بمنتهى الوعي ومكافحة الانتهازية بكل اشكالها، وأقول هذا لأنه هناك فترات وأحداث في تاريخ الاحزاب الشيوعية واليسارية، ادت الى ان تكون الغلبة الى جانب اكثر العناصر انتهازية وانعزالية، وحتى خيانة الامانة وعدم الاخلاص والاكثر تأخرا من الناحية الفكرية، وهنا اتذكر احد "القادة" الذي طلب من احدهم في اجتماع لهيئة مركزية لاحدى المؤسسة اليسارية قائلا "أترك الدياليكتيك وسجل سأحارب انا وحدي الفقر"، وقول آخر "ألا تعلم بان اغلب النشاطات عبارة عن كومبيتوت؟" وآخر يدفع رفيقه للعمل في مجال معين مثلا الترشح لسلطة محلية، ويرافقه في الزيارات البيتية ويعود الى نفس البيت ويدعو الى عدم التصويت له، وآخر يقول "لا يوجد رفيق ظلم مثل هذا الرفيق" ونفسه كان شريك في ممارسة هذا الظلم، واحداث وامور اخرى كثيرة، بعيدة كل البعد عن الاخلاق والممارسة الثورية الماركسية الانسانية الصحيحة.

وهناك البعض يتشدقون بكلمات لا معنى لها حول "تنظيم المنظمات" بل ومطالبة اعضاء هذه المؤسسة او هذا الحزب صراحة بان يعملوا في حقل التنظيم، وفي نفس الوقت يدافعون ويعملون على تغطية كل فوضى وكل تبعثر بكلمة المؤسسة او الحزب. ولهذا من المضحك المبكي التحدث عن هذا الفرع او ذاك او عن الحزب بوصفه وحدة سياسية اذا كان هذا الحزب لا يستطيع ان "يمنع" حلقة بمرسوم من ان تعتبر نفسها جزءا من الكل!، وإلا فما الفائدة من تحديد طرائق وشروط الفصل من الحزب؟. وهناك العديد من المثقفين وحاملي الشهادات لديهم تصرفات وطروحات تتميز بالاعتراف بالتنظيم الحزبي بصورة "افلاطونية" فقط ويمارسون اشد صور الانتهازية والذاتية واقامة الكتل، وممارسة الفوضوية، كما قال لي احدهم "كل العمل كومبينوت"، وهذه الممارسات الانتهازية تمارس ضد اصحاب المبادئ واصحاب الفكر الواعي الثوري والبعيدين كل البعد عن ممارسة او تأييد أي مصلحة شخصية وبعيدين ورافضين لكل اساليب كسب المال بطرق غير شريفة، لا بل والعمل على تحييد هؤلاء الاشخاص بتوجيه من قبل مؤسسات رسمية، وحتى مخابراتية، فمثلا في اسرائيل كل نشاط سياسي اجتماعي ثقافي يعتبر ساحة عمل (שטח פעולה)، يتم ادخال عملاء من اجل افشال هذا العمل او ذاك، او تحييد الشرفاء ونظيفي الايدي والعمل على تحييد هؤلاء بشكل مطلق عن العمل الجماهيري الايجابي، والعمل على ادخال "عناصر غير امينة" في صفوف المؤسسات والاحزاب، خدمة  لطبقة رأس المال وضد مصلحة الطبقة العاملة، "وليس ثمة ما يدعو الى الدهشة اذا كان مذهب ماركس الذي يهدف مباشرة الى تنوير وتنظيم الطبقة المتقدمة في المجتمع المعاصر ويشير ان النظام الحالي سيستعاض عنه حتما، بأوضاع جديدة، من جراء التطور الاقتصادي، ليس ثمة ما يدعو الى الدهشة اذا اضطر هذا الشعب الى ان يخطو كل خطوة في طريق الحياة، بعد نضال شديد" (لينين في الايديولوجية والثقافة الاشتراكية ص 38).

ولكي ننجح في هذا النضال الشديد أي الدفاع عن الماركسية ونشرها وتعميق معرفتها ودراستها كفلسفة مادية جدلية تاريخية مرتبطة بعالمنا الراهن وتعمل على تغيير المجتمع الرأسمالي من خلال إحداث الثورة الاجتماعية واقامة مجتمع المستقبل، مجتمع حرية الانسان لا بل مملكة الحرية على الارض، ومن اجل ذلك لا بديل عن حزب ماركسي لينيني يمارس رسالته الثورية بشكل مدروس صارم وحازم يعالج ويعمل على إحداث القفزة الاجتماعية – الثورة.


** المراجع:

  • مدخل الى المادية الجدلية – موريس كورنفورث

  • ماركس انجلز – مختارات

  • الشيوعية العلمية – معجم

  • الناس والعلم والمجتمع – اعداد فريق من المؤلفين

  • لينين – ضد الجمود العقائدي والانعزالية في الحركة العمالية

  • لينين – مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

  • اصول الفلسفة الماركسية – تأليف جورج بوليتزر

  • لينين بعض خصائص تطور الماركسية التاريخي

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب