news-details

المادية الجدلية كنهج في كتابة د. إميل توما التاريخية

في مئوية الشيوعي القائد والمؤرخ علينا التأكيد على انه قضى حياته من أجل مبادئه وأفكاره، وكتب كتاباته التاريخية والاجتماعية والأدبية من منطلقه الطبقي، متخذا المادية التاريخية، التي لم يحد عنها يوما والمادية الديالكتيكية الجدلية نهجا علميا، في هذا المقال لا أستطيع أن أخوض في كل ما كتبه إميل توما، ولكنني سأحاول وضع بعض النقاط التي ميزت الكتابة التاريخية لإميل توما، من خلال كتابين من مؤلفاته وهما جذور القضية الفلسطينية والحركات الاجتماعية في الإسلام مشددا على أمرين هامين اولهما، شرح التطورات التاريخية لإميل توما لها على اساس المادتين الجدلية والتاريخية، والآخر تعرية إميل توما للإمبريالية ودورها من خلال استخدام مصادر ووثائق من الأرشيف البريطاني والصهيوني وكشف التناقضات الموجودة في هذه المصادر‬.‬

في كتابه جذور القضية الفلسطينية يوضح د. اميل توما ارتباط رغبة بريطانيا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بتطور الفكر الاستعماري البريطاني. فقد وصلت بريطانيا الرأسمالية إلى أعلى مراحل تطورها، أي مرحلة الإمبريالية، واحتدم الصراع الاحتكاري وازدادت حدة الصراعات الاجتماعية، وأصبح الصراع بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية الصراع الجوهري، خاصة بعد تجربة كومونة باريس 1871، التي هزت الرأسمالية وأيقظتها على خطورة الطبقة العاملة التي اتسعت صفوفها بفضل التطور الصناعي، وتعمقت نضاليتها الثورية نتيجة لظروفها القاسية، وهنا لجأت الرأسمالية إلى مختلف الأساليب لوقف المد الثوري بطرق مختلفة كالقمع والعنف واللجوء إلى الاستيطان واللاسامية وبذلك حاولت صرف الصراع الاقتصادي الاجتماعي الطبقي عن مساره.

ويرى إميل توما أن الصهيونية التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر، استغلت اللاسامية لجذب طبقة البروليتاريا اليهودية بعيدا عن العملية الثورية والترويج أن اللاسامية هي ظاهرة أبدية بين كل الشعوب، محاولة طمس حقيقة كونها ناتجة عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية واحتدام الصراع الطبقي.

بهذا النهج الجدلي يظهر إميل توما توافق المصالح البريطانية الإمبريالية مع الحركة الصهيونية في المراحل الأولى لقيامها وحتى قيل قيامها (لو لم تكن الصهيونية موجودة لأوجدناها).

في تحليله لأسباب أعطاء وعد بلفور، يشدد إميل توما على الصراع الإمبريالي بين بريطانيا وفرنسا رغم كونهما في حلف واحد عشية الحرب العالمية الأولى، لكنه يشدد على الصراع الإمبريالي بين بريطانيا وألمانيا واستغلال الحركة الصهيونية لرغبة الحركة الإمبريالية في توظيفها من أجل مصالحها. وهنا يأتي د. توما بالكثير من الإثباتات من مصادر بريطانية وصهيونية، التي تؤكد الرغبة المشتركة والمصالح المتوافقة للحركة الصهيونية وللإمبريالية البريطانية وهنا  سأختار مثالين من الأمثلة التي أوردها: 

نص من صحيفة ساندي كرونيكل البريطانية بعنوان "سياسة بريطانيا في فلسطين ضرورة عبرية بريطانية": "لا يوجد جنس آخر في العالم كله يستطيع أن يقوم بهذه الخدمات غير اليهود، ولدينا في الحركة الصهيونية القوة المحركة التي ستجعل امتداد الإمبراطورية البريطانية إلى فلسطين مصدر كبرياء وركن قوة."

وفي خطاب لماكس نوردو من زعماء الحركة الصهيونية أمام اثنين من كبار الإمبرياليين، لويد جورج وجيمس بلفور يقول:"نعرف ما تتوقعونه منا، تريدون أن نكون حراس قناة السويس، علينا أن نكون حراس طريقكم إلى الهند عبر الشرق الأدنى، نحن على استعداد لأن نقوم بهذه المهمة العسكرية، ولكن من الضروري تمكيننا من أن نصبح قوة حتى نقدر على القيام بهذه المهمة."

أما في تحليله للصراع في فترة الانتداب، فهو يرفض التحليل العنصري للاحداث ويؤكد أن العداء للإمبريالية البريطانية ولحليفتها الصهيونية لم يكن على أساس عنصري كما يحاولون تصويره، وإنما هو امتداد للكفاح ضد الإمبريالية الذي قامت به الحركة القومية العربية الوحدة في سوريا الطبيعية مثل ثورة 1919 في مصر والثورة العراقية 1920  والنضال المسلح في سوريا من معركة ميسلون فصاعدا..

في مجال تحليله لتفوق الحركة الصهيونية على الحركة القومية العربية، إضافة للدعم اللامحدود للإمبريالية البريطانية لها، فإن الحركة الصهيونية كانت برجوازية عصرية تستند إلى إمبريالية قوية، أم قيادة الحركة القومية العربية فقد كانت إقطاعية لم تعكس القوى الاجتماعية المتضررة من سياسة الإمبريالية البريطانية ومن هنا يمكن تفسير مهادنة هذه القيادة للانتداب البريطاني، وكانت الطبقة البرجوازية العربية جنينية لم تنجح في الوصول إلى قيادة الحركة القومية العربية.

أما في كتابه الحركات الاجتماعية في الإسلام فيعتمد مؤرخنا في تحليله للحركات الاجتماعية في الإسلام على المادتين الديالكتيكية والتاريخية ويشير أن الإنسان اهتم بضرورياته الاقتصادية قبل كل شيء ويؤكد أن الكيان الاجتماعي للناس هو الذي يقرر وعيهم وهذا يعني التأكيد على العنصر الاقتصادي والاجتماعي كعنصر مقرر في التغيرات التاريخية.

إميل توما يحلل الصراع في مكة قبل الإسلام بأنه صراع طبقي بين أرستوقراطية مكة التجارية وبين الفقراء والمعدمين ويحلل الصراع بين معاوية وعلي هو صراع حزب الفقراء ضد الأغنياء، صراع بين اليسار واليمين، فهو يرى في سيطرة أقارب عثمان سيطرة الأغنياء على الفقراء ولذلك كان التمرد على عثمان وكذلك يرى في عدم مبايعة طلحة والزبير لعلي أي أسباب طبقية خالصة.

أما في الفصل عن الإسماعيلية فيركز إميل توما على قضية إلغاء الملكية الفردية وتوزيع الأرض على الفلاحين المحتاجين مجانا ويرى أن الكثير من الثورات كثورة القرامطة والزنج بمنظار ماركسي، أي صراع طبقات مستغلة ضد طبقات مستغِلة.

كذلك يحلل تقدمية او رجعية القيادات والاحزاب الإسلامية المختلفة وموقفها المؤيد او المعادي للسلطة بناء على عقيدتها. فيرى ان الجبرية التي رأت الانسان خاضعا للقضاء والقدر كانت موالية للسلطة وموقفها استسلامي.  اما القدرية التي ترى ان مصير الانسان بين يديه فهي تستطيع التمرد على السلطة ان ظلمت لذا كانت عنصرا معاديا للسلطة. المعتزلة كانت حركة تحرر عقلي وفكري لكنها تحولت الى ايدولوجية الطبقة الحاكمة بعد ان اتبعت طريقة الاكراه مع من يعارضها والاشعرية حركة بررت اعمال السلطة مهما كانت لانها خدمت السلطة واحتمت بها اما الإسماعيلية فهي حركة ثورية تمردت على السلطة واقامت أنظمة اشتراكية كدولة القراطمة مثلا.

ان هذا الفكر الذي تركه لنا اميل توما يجب ان يعمم خاصة في مدارسنا العربية حيث شوه قسم المناهج في وزارة المعارف الحقائق التاريخية وطمس الكثير منها. وقد بذلت جهودا في هذا المجال خلال اكثر من عشرين سنة في جريدة "الاتحاد" لكن ذلك لا يعطي الثمار المرجوة اذا لم يكن لنا تأثير من خلال الشبيبة الشيوعية في مدارسنا لإثارة وجهة النظر الفلسطينية في حصص التاريخ وحث المعلمين على مناقشة مادة الكتب الدراسية وقد اعددت مقالا قد نشرته في "الاتحاد" في آب 1994 عن احد كتب التدريس الذي لا يزال مقررا في مدارسنا العربية ومدى التشويه والضرر الذي يحدثه في عقول طلابنا والذي يؤثر سلبا على بلورة هوية الطالب القومية ومعرفته للحقيقة التاريخية لانها تصله من وجهة نظر صهيونية.

واعتقادي ان هذا الامر يجب ان يكون مثار نقاش للوصول الى اليات للعمل على تعميم هذا الفكر التاريخي الملتزم.




 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب