news-details

النائب منصور عباس، إنتبه: "يهوديّة إسرائيل" عُبوة لنسف ملف اللاجئين من شعبك| هشام نفاع

"إسرائيل دولة يهودية وستبقى يهودية. دولة إسرائيل ولدت كدولة يهودية. هذا هو قرار الشعب اليهودي الذي أقام دولة يهودية (...) هكذا ولدت وهكذا ستبقى". هذا الكلام للنائب منصور عباس. لن أجادله الآن في أن كل أقواله عن "الشعب اليهودي قرّر" هي محض وهم، فمن قرر هو المؤسسة الصهيونيّة، والفرق شاسع بينهما. ولن اتوقف للتهكّم الفلسفي على عبثيّة القول "هكذا ستبقى"، فليس هناك أكثر مقامرة وسطحيّة وعنجهية وتفاهة معًا، من الزعم عن أي شيء في الكون أنه سيكون على هذا الشكل أو ذاك مستقبلاً. انتَ لا تعلم ما سيكون، ونقطة.

لا أعرف إن كان النائب منصور عباس قد قرّر عن قصد تسطيح النقاش والتعامل مع يهودية الدولة كقدَر، أم أنه يتعامل معها هكذا لسطحيّة في تفكيره هو. مع أنني حقيقةً لا أشك في قدراته ولا في ذكائه. لكن ما يهمني قوله له ولمؤيداته ومؤيديه، جمهوره الذي أحترمه، إن قبول يهودية الدولة لها ثمن فادح على مجمل قضية شعبنا الفلسطيني.

فقد أضافت المؤسسة الإسرائيلية، في العقدين الأخيرين، شرطاً جديداً لقبول أي تسوية سياسية مع الشعب الفلسطيني، يقضي بـ"الاعتراف بيهودية إسرائيل". وهذا ما يصحّ وصفه بالشرط الاستباقي الذي يُملي نتائج التفاوض حتى قبل الخوض فيه. فلا حدود للابتكارات الإسرائيلية لتخريب تحقيق التسوية التي تزعم نيّتها وصولها.

هذا المطلب الذي يُعتبر استثنائياً، إن لم يكن عجيباً، في منظومة العلاقات الدوليّة، لا ينبع فقط من تأصّل الانغلاق العنصري المتعصب في المؤسسة الإسرائيلية. بل إنه تكتيك سياسي شديد الدّهاء. يُقال هذا انطلاقاً من التوجه الإسرائيلي الرسمي نحو تعريف الدولة كـ"يهودية".

فليست المسألة حضارية أو حتى رمزيّة، بقدر ما هي مسألة عدديّة تقاس بأدوات الديموغرافيا: عدد اليهود مقابل عدد الفلسطينيين. فهذه المؤسسة لا تكتفي بمطلب الاعتراف بوجود دولتها على أنه "تجسيد لحق تقرير مصير اليهود"، وهو التسويغ الشائع لوجود الدول القومية الحديثة، بل إنها تطالب العالم بالاعتراف بتعريفها الأيديولوجي لذاتها. بمعنى آخر، هذه المؤسسة تسعى لفرض العقيدة الأساس للحركة الصهيونية على أنها حقّ كوني يجب على الجميع الاعتراف به.

ولكن ما معنى أن تطالب أية دولة مُفاوضاً أجنبياً بأن يشاركها في تحديد طابعها، شرطاً لإنجاز تسوية معه؟ ألا تقوم حكومة اسرائيل بالتنازل بواسطة مطلبها المذكور عن جزء من سيادتها، بوصف السيادة قراراً حصرياً للدولة في تحديد شأنها الداخلي، وطابع أية دولة هو قرار سيادي وشأن داخلي؟ لكن المسألة مختلفة، سلطة إسرائيل وزعامة الصهيونية هي كل شيء، ما عدا ساذجة.

لأن المترتّب على انتزاع الاعتراف بيهودية إسرائيل هو أولاً تنظيف ساحة الحركة الصهيونية مما اقترفته أذرعها المختلفة من تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني خلال نكبة عام 1948 وبُعيدها. وثانياً، منحها فرصة الادّعاء بأن تطبيق حقوق اللاجئين الفلسطينيين غير ممكن، لأنه سيكسر المعادلة الديمغرافية، وبالتالي سيمسّ بيهودية الدولة التي هي "حقّ لها".

المسألة تتجاوز ساحة المعركة الرمزية، بل تندرج ضمن السياسة الإسرائيلية الفعلية. ففي جميع المراحل المختلفة منذ النكبة حتى اليوم، ظَلّ أكثر ما يؤرق المؤسسة الإسرائيلية، مسألة حقوق اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم بالقوة وبالسلاح وبالمذابح من بيوتهم ودمّرت المئات من قراهم. بل قد ابتكرت سابقة حين رفضت عودة اللاجئين بعد الحرب (حسب وصفها للنكبة). وها هو مؤرخ غير مشكوك بصهيونيته – بروفيسور يهوشوع بورات - يقول إن دولة إسرائيل منعت اللاجئين الفلسطينيين من العودة بعد توقف الحرب (1948) رغم أنه في الماضي أيضًا، هرب الناس من مناطق ضربتها الحروب، لكنهم عادوا دائمًا إلى ديارهم مع انتهائها. لكن دولة إسرائيل فرضت سابقة تاريخية بقولها إنه من الآن فصاعداً تغيّرت قواعد اللعبة: لم يعد هناك عودة للاجئين حتى بعد انتهاء الحرب. وهو يقرّ أن إسرائيل بواسطة منعها عودة اللاجئين الفلسطينيين قد ضمنت الشروط الضرورية لوجودها القومي (هآرتس، 2004).

لقد قادت السيرورة التاريخية إلى إجبار المؤسسة الإسرائيلية على الإقرار الرسمي بوجود الشعب الفلسطيني، وبالتالي بحقه في تقرير المصير في دولة مستقلة. فحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم تتعدّ القضية الفلسطينية في طروحات هذه المؤسسة إلحاق بعض ما احتلته من الأراضي الفلسطينية عام 1967 بالأردن وبمصر، كمسألة ترتيبات حدوديّة لا أكثر. لكن مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، المتوّجة بالانتفاضة الشعبية في كانون الأول 1987، فرضت بقوّة نوعيّة غير مسبوقة حق هذا الشعب في تقرير مصيره، بحيث لم يعد بإمكان المؤسسة الإسرائيلية مواصلة تجاهله.

مع ذلك، فالممارسات الإسرائيلية الفعلية اللاحقة ظلّت تضع علامات سؤال حادّة على النوايا والأهداف المخبّأة خلف جميع التصريحات البروتوكولية. انعكس هذا في عدم احترام ما وقّعته من اتفاقات، وكذلك في عمليات الاجتياح العسكرية الوحشيّة المتكررة التي حرّكها هدف سياسي هو تقويض البنية المؤسسية السياسية الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، حتى اليوم. يأتي كل هذا منعاً لنشوء ولو نواة مؤسسية لكيان فلسطيني مستقل. وحتى لو حاججت المؤسسة الإسرائيلية وادّعت موافقتها رسمياً على إقامة كيان فلسطيني مستقل، فستظل هناك حاجة إلى اختراق جدار الصوت التصريحي هذا، وصولاً إلى المضمون العميق. هذا المضمون يكشفه بالأساس الموقف الإسرائيلي الرسمي والفعلي من قضيّة حقوق اللاجئين الفلسطينيين.

فحتى اليوم، يقوم التوجّه الإسرائيلي على تفكيك القضية الفلسطينية، بل بعثرتها: من ناحية، تصرّ المؤسسة الإسرائيلية على صيغة المراحل، وهو ما بدأ منذما عُرف بـ"غزة وأريحا أولاً". ومن ناحية أخرى، تنثر ملفّات القضية الفلسطينية على محطات زمنية مستقبلية، تهتم بإرجائها على الدوام بأدوات القوة، العسكرية منها والاستيطانية. هذا ناهيك عن أنها تتوجّه إلى القضية برمتها كما لو أنها بدأت في حزيران 1967، وذلك خدمة لهدفها طيّ الملفات الأقدم والأصعب: ملفات 1948، وأولها ملف اللاجئين.

من الواضح أن أكثر ما يؤرق مؤسسة اسرائيل الرسمية هو قضية اللاجئين، لأن الخوض فيها، بل مجرد الاعتراف بالمسؤولية عن نشوئها سيقوّض معظم الرواية الرسمية المليئة بالثقوب التي تراكمت خلال عقود. فالغطاء الذي يوفره ناطقو المؤسسة لرفضهم مجرد الاقتراب الجدي من تلك القضية الجوهرية، هو ذلك الديموغرافي، أي المرتبط مباشرة بالمعتقد الغيبي الذي يُسبغ على الدول هويات غيبية. من هنا، لا يمكن إلا ربط مطلب الاعتراف بيهودية اسرائيل، بالمحاولة المتعنّتة المتشددة للتهرّب من استحقاقات قضية اللاجئين لكون عودتهم تمس بيهودية الدولة.

هذا هو الفخ. فلو تخيلنا سيناريو يتحقق فيه هذا المطلب، الاعتراف بيهودية الدولة، ستكون قد تحققت الغاية الاسرائيلية بإزالة قضية اللاجئين عن الطاولة بل من الوجود. كذلك فقبول هذا المطلب يفتح الباب على مصراعيه لخطر نشوء لاجئين جدد نتيجة «ضرورة الحفاظ على النقاء العرقي للدولة اليهودية»... فأي فلسطيني يسمع هذا الكلام، لا يلوح في رأسه سوى سيناريو واحد: ترانسفير جديد؟

لا أعرف إن كان النائب منصور عباس وكتلته يملكون الوقت والترف والاستعداد الذهني والنفسي لتناول السياسة بهذه الطريقة، لكن يجب أن يعرفوا أن الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة، وأن من يشتري سمكًا في البحر من تجّار السياسة الصهيونية، فسرعان ما سيظهر بشكلين محتملين: إما في قمة المأساة أو في قمة المهزلة. او حضيض كل منهما. فاستفيقوا، وتريّثوا، وتواضعوا، واستقيموا. كفاكم عبثًا فيما لا يُعبث به.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب