news-details

انهيار بقايا المنظومة الحزبية بعد انتخابات آذار 2020| برهوم جرايسي

سرعة الانشقاقات في الكتلة البرلمانية التحالفية، التي تبعت انتخابات آذار 2020 الأخيرة، رافقها انهيار بقايا المنظومة الحزبية الإسرائيلية، إذ لم يعد حزب واحد من الأحزاب الإسرائيلية التي تدور في فلك الحكم، من الممكن الإشارة اليه، بأن مرجعيته مؤسسات الحزب، أو حتى لديه استراتيجية وبرنامج سياسي واضح قائم على رؤية ثابتة.

فحتى أكبر الأحزاب الليكود، بات تحت سطوة شخص بنيامين نتنياهو، دون أي أثر لهيئات الحزب؛ في حين أن حزبي "العمل" و"المفدال" من أقدم الأحزاب، يلفظان أنفاسهما الأخيرة، إن بقي منها شيء. وحزب ميرتس خاضع مرحليا للتنفس الاصطناعي.

وكل هذا مؤشر خطير لمستقبل السياسة الإسرائيلية؛ أخطر مما شهدناه حتى اليوم، فهذا يسهّل ضرب مؤسساتية الحُكم أكثر؛ لتكون مشاعا لأجندات وقوى عابرة، توحدها خدمة من بقدرته إيصال السياسيين على الحكم، حيتان المال، وكبار المحتكرين للاقتصاد ووسائل الإعلام، بصفتها ماكنة صناعة الرأي، ما سيخلق تعقيدات في شكل التعامل مع مؤسسة الحكم الإسرائيلي على مختلف الصُعُد.

ومثال على هذا، هو تراجع مكانة المؤسسة العسكرية و"الأمنية" في أعلى دائرة لاتخاذ القرارات، ومنها أيضا في الرأي العام. ومثال آخر، هو ما يظهر من تضارب مواقف بين العسكر والسياسيين، في مسألة فرض ما تسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنات ومناطق شاسعة في الضفة المحتلة.

كما سيكون لهذه الحالة تبعات على الساحة الداخلية، فإذا حتى الآن حافظت المؤسسة الإسرائيلية على توازنات، تضمن تعايش الحد الأدنى بين الشرائح المتضاربة، مثل العلاقة بين المتدينين والمتزمتين، وهي من أكثر القضايا الإسرائيلية الداخلية الملتهبة، فإنه مع تزايد نسبة المتدينين اليهود من مختلف التيارات، وزيادة تشددها الديني، فإن الصدام العلني سيعود لا محالة، وبقوة أكبر، بسبب تضييق الخناق أكثر على الجمهور العلماني.

كذلك، فإن هذه الحالة تعكس نفسها على السياسات الاقتصادية، التي لم تعد تختلف من حكومة إلى أخرى، منذ حكومة يتسحاق رابين في العام 1992 ولاحقا، فهي كلها حكومات خصخصة القطاع العام، حتى أن ما بقي منه هامشيا نسبيا، وبات العبء الضريبي الأساسي على كاهل الشرائح الوسطى، بينما تراجعت الضرائب بقدر ضخم، عن كبرى الشركات وحيتان المال، واتسعت الاحتكارات، وغيرها من السياسات الاقتصادية الوحشية.

 

خلفية

 

المؤسساتية الحزبية بدأت في التراجع منذ النصف الأول من سنوات التسعين من القرن الماضي، بعد أن اتبع الحزبان الأكبران، نهج الانتخابات المفتوحة، لانتخاب قيادة الحزب، وقائمته للانتخابات البرلمانية، وتدفق عشرات الألوف على كل حزب، منتسبين فقط لغرض المشاركة في الانتخابات الداخلية، ما فرض على كل مرشح ليضمن وجوده في موقع مضمون، وحتى متقدم في القائمة، أن يضمن أموالا طائلة لتمويل حملته الانتخابية الداخلية.

والغالبية الساحقة من هذه الأموال، جاءت من أصحاب رأس المال، وحتى حيتان المال، الذين تغلغلوا أكثر في الحكم، بتحالفهم مع اليمين الاستيطاني، بصفته القوة السياسية الأكبر. ومن هذا المدخل، بات ولاء النائب والوزير لمن يموله وليس للقاعدة الحزبية الأساسية.

يضاف إلى هذا، هو اتباع نمط الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة، في ثلاث انتخابات، 1996 و1999 و2001، ما أضعف حجم الحزبان الأكبران، برلمانيا، بسبب مقايضة أصوات القائمة لصالح قوائم الأحزاب الصغرى، بالأصوات للمرشح للرئاسة الحكومة.

وكلما تغلغلت قوة حيتان المال في الأحزاب وقراراتها، كان التغلغل في مؤسسات الحكم أكبر، وهذه ظاهرة قادت إلى مثول عشرات السياسيين وكبار المسؤولين في الجهاز الحاكم ومؤسساتها أمام المحاكم، بتهم الفساد، من بينهم بنيامين نتنياهو.

وعلى مر 25 عاما، شهدنا انهيارات تدريجية للأحزاب التقليدية، لصالح قوائم انتخابية، وأحزاب فقاعات تظهر لفترات قصيرة وتختفي، ما أدى إلى تفتت وشرذمة الحلبة السياسية البرلمانية أكثر، ومعها غابت البرامج السياسية الاستراتيجية، فعلى سبيل المثال، خاض الليكود الانتخابات منذ العام 2015 وحتى الآن، بمعنى 4 جولات انتخابية من دون برنامج انتخابي واضح.

ولكن حتى عشية انتخابات آذار 2020، كانت بقايا لمؤسسات أحزاب تدور في فلك الحكم، ولو صغيرة، إلا أن حالة تفتيت الكتل البرلمانية التي نجح بها شخص بنيامين نتنياهو بعد الانتخابات، من أجل تشكيل حكومته، بعثرت بقايا تلك المؤسسات، ولم يعد لها وزن.

 

التفتيت بعد انتخابات آذار

 

ظهرت نتائج آذار 2020، وكأن المشهد البرلماني أكثر تماسكا، ولكن أكثر تعقيدا في ذات الوقت. وتوالت التصريحات التي تعلن عن تماسك الكتل البرلمانية التحالفية بكل ثمن. ولكن بعد 72 ساعة، بدأت الشروخ تظهر، تمهيدا لانشقاقات في الكتل التحالفية. وكانت البداية هامشية، بإعلان النائبة أورلي أبيقسيس رئيس حزب "غيشر" الذي يتمثل بشخص أبيقسيس وحدها، عن تحالفها مع حزبي "العمل" وميرتس".

ولكن بعد ثلاثة أسابيع من الانتخابات، ظهر الشرخ الأكبر، حينما قرر بيني غانتس تشكيل حكومة قائمة على أساس المناوبة على رئاسة الحكومة، مع الليكود ورئيسه بنيامين نتنياهو، ما أدى إلى انشقاق التحالف الواسع لكتلة "أزرق أبيض"، إلى ثلاث كتل، الأولى تضم حزب "يوجد مستقبل" و"تلم"، ولكن الأخير شهد انشقاقا بانشقاق نائبين شكلا كتلة تحت اسم "طريق البلاد"، فيما حزب "مناعة لإسرائيل"، برئاسة بيني غانتس، أخذ لكتلته البرلمانية اسم "أزرق أبيض".

والانشقاق التالي كان بين حزب "ميرتس" و"العمل"، بعد أن قرر نائبان من أصل ثلاثة في "العمل" الانضمام إلى حكومة نتنياهو- غانتس، فيما ليس واضحا، ما إذا النائبة الرافضة للحكومة، ميراف ميخائيلي، ستبقى ضمن كتلة حزبها، أم أنها ستشكل كتلة منفصلة، أم أنها ستنضم إلى كتلة "ميرتس".

وعملية الانشقاق وصلت إلى تحالف "يمينا" الذي يضم ثلاثة أحزاب من التيار الديني الصهيوني، بقرار رئيس حزب "البيت اليهودي" (المفدال سابقا) رافي بيرتس، الانشقاق عن الكتلة، لينضم إلى الحكومة.

وبذلك، فبعد أن أفرزت الانتخابات 8 كتل برلمانية، وهو العدد الأصغر، لربما في تاريخ الكنيست، فإن في الكنيست حاليا 13 كتلة برلمانية، وكما يبدو هذا ليس نهاية المطاف، فمن كل الأحزاب التي تدور في فلك الحكم، بقي الليكود متماسكا. بينما كتلتي الحريديم، "شاس" و"يهدوت هتوراة" خاضعة أساسا لمجلسين لكبار الحاخامات؛ ونمط عملها، وشكل اتخاذ القرارات فيها، خارج مفهوم الأحزاب، فهي كتل برلمانية، لها مرجعيات دينية متشددة، نادرا ما يتمرد عليها أحد، لأن الثمن الذي سيدفعه المتمرد ليس فقط سياسيا، بل اجتماعيا أيضا.

وسرعة تفتت الكتل البرلمانية يدل بشكل كبير على هشاشة ما يوحدها، وعلى غياب الأيديولوجيات، والتوافق السياسي على المستوى السياسي، وباتت القوائم الانتخابية أشبه بقوارب صغيرة، لتمرير الأشخاص من ضفة نهر إلى أخرى وفق الظروف.

 

استعراض الحالة في الأحزاب

 

حزب "الليكود": من يتابع سير الأمور في هذا الحزب، سيلاحظ أنه في السنوات السبع الأخيرة، على الأقل، غابت عن الواجهة هيئات الحزب القيادية، مثل السكرتارية العامة، والمجلس العام، فمثل هذه الهيئات كانت تشهد من حين إلى آخر، صراعات على أمور داخلية، كتعديلات دستورية، تمنح قوة أكبر لطرف ما أو لرئيس الحزب، وغيرها من القضايا. ونذكر أنه حتى بنيامين نتنياهو كان يضطر أحيانا لسحب مشاريع قرارات، بعد أن يلمس أن لا أغلبية مضمونة لها.

أما اليوم، ومنذ سنوات، فإن مثل هذا بات غائبا كليا. مثال على ذلك، شكل توزيع الحقائب الوزارية، والمناصب البرلمانية على نواب كتلة الليكود، فعلى الرغم من أن نتنياهو استبعد شخصيات بارزة، وأسند مناصب رفيعة لنواب من مقاعد خلفية، فإنه لم يعمل حسابا لأي معارضة قد تظهر له في قيادة الحزب، تهدد سلامة كتلته البرلمانية، ما يؤكد أن نتنياهو جعل من الليكود حزبا تابعا لشخصه، لا غير.

حزب "مناعة لإسرائيل"، أو كتلة "أزرق أبيض"، فهو حزب أقامه الجنرال بيني غانتس في نهاية العام 2018، تمهيدا لانتخابات نيسان 2019، وهو ليس حزبا مؤسساتيا، فالقرار فيه لغانتس ومجموعة مستشاريه، ولبعض من الشخصيات في القائمة، ولكن التأثير الأساس هو لغانتس، لذا، فهو ليس حزبا حتى الآن، وإنما قائمة انتخابية، لا قواعد تنظيمية لها.

حزب "يوجد مستقبل"، بزعامة يائير لبيد، فعلى الرغم من أن هذا الحزب قائم منذ قرابة ثماني سنوات، إلا أنه ليس فيه قواعد تنظيمية، ولا مؤسسات حزب، ويبقى صاحب القرار شخص يائير لبيد، الذي يستعين ببعض مستشاريه، وأيضا لمن يدعم هذا الحزب، كما هو الحال في باقي الأحزاب.

وكذا بالنسبة لحزب "تلم"، بزعامة موشيه يعلون، وشريك يوجد مستقبل في الكتلة البرلمانية، وكلاهما كانا شريكين في التحالف السابق لأزرق أبيض. فهذا الحزب أقامه موشيه يعلون أيضا في نهاية 2018 تمهيدا لانتخابات نيسان 2019، ولكنه حزب قائمة انتخابية، كانت بعد انتخابات آذار 2020 تتمثل بخمسة نواب، وشهدت انشقاق نائبين لينضما إلى الحكومة، سوية مع غانتس.

حزب "العمل"، ولربما هو القصة الأكبر في هذه القضية، فهذا الحزب المؤسس لإسرائيل، بات تمثيله بعد انتخابات آذار الماضي، بثلاثة نواب، رئيس الحزب عمير بيرتس، والنائب ايتسيك شمولي انضما إلى حكومة نتنياهو- غانتس، فيما أعلنت النائبة الثالثة ميراف ميخائيلي تمردها، ورفضها الانضمام إلى الائتلاف.

وهذا الحزب بدأ يطفئ أضواء مقراته منذ انتخابات نيسان 2019، إذ تمثل بأدنى تمثيل له حينها 6 نواب، وتراجع لخمسة نواب في انتخابات أيلول 2019، ثم لثلاثة نواب في آذار الماضي. وتحت ستار أزمة الكورونا، قيل إن مجلس الحزب الذي يضم 3500 عضو، صوّت بغالبيته الكترونيا، لصالح الانضمام إلى الحكومة، وهناك شكوك كبيرة في كل عملية التصويت تلك، وعدد المشاركين.

وبحسب تقديرات، فإنه لو كان التصويت بالحضور الشخصي، لكانت حقيقة هذه الهيئة ستتكشف أكثر، إذ هناك شك في ما إذا هذا العدد من الأعضاء ما زال قائما.

حزب "البيت اليهودي" (المفدال)، الحزب التاريخي للتيار الديني الصهيوني، وكان حضوره في الساحة السياسية بقوة كبير في سنوات خلت، بات يتمثل بعد انتخابات آذار الأخيرة، بشخص رئيسه رافي بيرتس، الذي قرر الانسلاخ عن القائمة التحالفية، مع حزبين من التيار الديني الصهيوني، لينضم إلى حكومة نتنياهو، دون أن نسمع عن هيئات حزب تجتمع لتقرر.

حزب "اليمين الجديد"، بزعامة نفتالي بينيت، وشريكته أييليت شكيد، هو عمليا قائمة انتخابية، تشكلت في نهاية 2018، تمهيدا لانتخابات نيسان 2019، والقرار هو بيد هذين الشخصين، ولا مؤسسات لهذا الحزب.

حزب "التكتل القومي" (هئيحود هليئومي) الشريك في تحالف "يمينا" مع "البيت اليهود" و"اليمين الجديد"، فهو حزب انشق قبل أقل من 20 عاما عن المفدال، ولكن مرجعيته الأساس حاخامات من المستوطنين، ولا هيئات تذكر للحزب.

"يسرائيل بيتينو"، فهذا حزب "اللغز" في الخارطة السياسية الإسرائيلية، إذ أنشأه في العام 1999 زعيمه أفيغدور ليبرمان، صاحب القرار الأول والنهائي في الحزب، لا يمكن أن يعترض عليه أحد، يتعامل مع نوابه كأحجار شطرنج، ولا يسمح لأي أحد أن يطيل بسنواته البرلمانية.

و"اللغز" فيه، هو أن كل الأحزاب التي أقيمت بمبادرة شخص، لم تصمد طويلا، وبات هذا الحزب حالة استثناء، إذ يبرع ليبرمان، حتى الآن، في القفز على الألواح العائمة، في نهر السياسة الهائج في كل انتخابات، ليضمن بقاءه على الساحة.

وبقدر ما، فإن لحزب "ميرتس" ما تزال هيئات، أوضح من باقي الأحزاب، ولكن هذا الحزب يواجه أزمة حادة، ويصارع البقاء على الساحة السياسية، فممثليه في الكنيست اليوم، ثلاثة نواب، اثنان منهم، ليسوا من صلب التنظيم، ولكن كما يبدو من استطلاعات تظهر في الأسابيع الأخيرة، أن "ميرتس" يستفيد من انهيار حزب "العمل" ويعزز قوته في ما لو جرت الانتخابات مجددا في هذه المرحلة.

شرذمة الخارطة السياسية الإسرائيلية لم تبدأ من اليوم، ولكن في الماضي، كان الحديث عن تعدد الكتل البرلمانية، أما اليوم، فإن الشرذمة باتت تطال الأحزاب من داخلها وتفتتها، وهذا من شأنه أن يزيد من التعقيدات على مختلف الصعد، وأولها على شكل اتخاذ القرارات في المؤسسة الحاكمة، وسيكون لهذا معالجة أوسع لاحقا.

 

("المشهد الإسرائيلي"- مركز مدار- رام الله)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب