news-details

بعد القرار الشجاع المفروض تبديل السياسة الفلسطينية| فيصل حوراني

الصحافي الأشهر في تاريخ الصحافة العربية، وربما العالمية، التقى صديقه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران؛ التقى الصديقان، محمد حسنين هيكل وميتيران بعد الاحتفال المبهر الذي جرى في البيت الأبيض الأميركي احتفاءً بإبرام اتفاق المبادئ الفلسطيني - الإسرائيلي الذي أشتهر أيضا باسم اتفاق أوسلو. وكان من الطبيعي أن يتطرق حديث هيكل وميتيران إلى هذا الاتفاق.

في السياق، روى الرئيس ميتيران للصحافي هيكل واقعة أتيح لي أن أسمع حكايتها من فم هيكل نفسه، وأن أصدّقها. فأنا، بوصفي الكاتب الفلسطيني المتفرّغ للكتابة، كنت قد استخلصت بشأن اتفاق أوسلو رأياً مطابقاً لمدلول رواية ميتيران.

قال ميتيران لرئيس تحرير "الأهرام" إنه أستقبل، بعد الإحتفال بإبرام اتفاق أوسلو، من كان آنذاك وزيراً للخارجية في حكومة إسرائيل، شمعون بيريس فوجه إليه هذا السؤال: "كيف وافقتْ إسرائيل على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلةً للشعب الفلسطيني؛ وكيف عقدت مع هذه المنظمة، التي طالما وصفتها هي ذاتها بأنها منظمة إرهابية، اتفاقاً يجيز للمنظمة أن تتفاوض مع حكومة إسرائيل حول مستقبل الأرض الفلسطينية"؟

يهمّنا في مطلع هذه المقالة ردُّ شمعون بيريس على سؤال الرئيس الفرنسي. وها انا ذا أورده كما سجلته حين سمعته من فم هيكل ذي الذاكرة الموصوفة بالحديدية: "ما الذي ستخسره إسرائيل إذا إستدرجنا مشاغبي الشرق الأوسط إلى المجيء إلى أرض - إسرائيل ليصيروا تحت سيطرتنا فيصير بإمكاننا أن نروّضهم على تخفيض سقف مطالبهم أولا بأول"؟

وفي واحد من مقالاتي التي خصّصتها لتسويغ معارضتي اتفاق أوسلو، رويت هذا الذي سمعته من هيكل عن الترويض لتخفيف سقف المطاليب، وأضفت تعقيبا من عندي عليه، وَصَفتُ فيه ما يضمره بيريس وأمثاله من حكام إسرائيل الصهيونيين: " إلى أن يتلاشى هذا السقف".

فهل أوصلَنا الولع القديم باتفاق أوسلو إلى مرحلة بداية التلاشي هذه؟

وجوابي على هذا السؤال توجزه اللفظة التي من حرفين: لا، كبيرة.

لقد مضى على إبرام الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي حتى الآن قرابةُ سبع وعشرين سنة بالتمام والكمال. انقضى من هذه السنين الكثيرة كثيرٌ من سنينها عوّل فريق أوسلو الفلسطيني خلالها على حكومة الجنرال إسحق رابين، ثمّ على خلفه شمعون بيريس. ولم يكف هذا الفريق عن التعويل على حكومات إسرائيلية تعاقبت بعد رابين وبيريس، إلا بعد أن آل منصب رئاسة الحكومة الإسرائيلية الى بنيامين نتنياهو. حتى بوجود نتنياهو هذا،  لم تسقط أوهام فريق أوسلو إلا بعد انعقاد مفاوضات آنّابوليس، التي جهر نتنياهو بعدها ببعض ما أضمره بشأن مستقبل الأراضي الفلسطينية والأراضي العربية الأخرى، التي سيطر جيش إسرائيل عليها في العام 1967.

بعد سقوط التعويل الفلسطيني على حكومات صهيونية، انتقل التعويل ذاته، فتحول الى إنشاء أوهام أخرى ارتبطت هذه المرة بالإدارات الأميركية، خصوصا في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري. وراحت هذه الأوهام الفلسطينية تتلاشى أولا بأول منذ خلف دونالد ترامب باراك أوباما في منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية. وقتها، تمّ تلاشي الأوهام الفلسطينية بشأن الفروق بين إدارة أميركية وإدارة أميركية أخرى، وتكشف للفلسطينيين أن المصالح الأميركية، خصوصاً كما آل إليه تطورها بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة، هي التي تصوغ قرارات الإدارات الأميركية بشأن الصراع العربي – الصهيوني. والواقع أن إدارة دونالد ترامب أوغلت كثيراً في الجهر بما تنويه، أكثر مما أوغلت فيه أي إدارة أميركية سبقتها.

هذا الوضع الأميركي الذي قد لا يتكرر مرّة أخرى شجّع بنيامين نتنياهو وناس فريقه على التصرف وكأن أوان تلاشي سقف المطالب الفلسطيني قد حان. فأمعن هؤلاء في الافصاح عن مضمرهم، فيما استمروا في توسيع الاستيطان لخلق وقائع على الأرض تهيء لهم تحقيق مضمرهم هذا. بل ان نتنياهو ذاته، وأكثر منه بعض مؤيديه، راحوا يمهدون الجو، ليس لتحقيق مضمرهم التوسعي في الأرض الفلسطينية وحدها، بل في الأراضي العربية الأخرى بما فيها أراضي سورية والمملكة الأردنية الهاشمية. وفي هذا الذي يجري إسرائيلياً التمهيد له ما يفسّر تشدّد سورية والمملكة الاردنية الهاشمية ضد صفقة القرن الترامبية وضد الضمّ الإسرائيلي الزاحف لما بقي بغير ضم الى إسرائيل من أرض الشعب الفلسطيني.

فهل سيقدّر لسياسة الضمّ التوسعي الزاحف هذا أن تحقق أهدافها المعلنة وأهدافها المضمرة، خصوصا هذه المضمرة؟ للإجابة على هذا السؤال الهام جداً، أجد من الضروري أن أوجز فيما يلي الأسس التي أصوغ في ضوئها الإجابة المطلوبة على سؤال الأسئلة هذا.

 

المصالح الامريكية هي

التي ترسم سياسات إسرائيل

أول هذه الأسس، ولعله أن يكون أهمّها، أن المصالح الأميركية، كما قدّرتها الإدارات المتعاقبة منذ قرّرت الولايات المتحدة الخروج من عزلتها القارية للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، أي في عهد الرئيس ثيودور روزفلت، هي التي صارت تحدد السياسة الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط، وبضمنها قضية الصراع العربي – الصهيوني. وهذه المصالح هي التي أطلقت الدعوات الأميركية لتأييد المشروع الصهيوني الطامع لتأسيس دولة لليهود في فلسطين منذ ما قبل روزفلت، وهي التي جعلت الرئيس الأميركي روزفلت يؤيد وعد بلفور البريطاني، وهي أيضا التي جعلت خلفاء روزفلت يؤيدون تحقيق هذا الوعد ويحتجون على أي إجراء بريطاني تشتمّ فيه رائحة أي تلكؤ في تحقيقه. وهذه المصالح هي التي حملت إدارة الرئيس الأميركي ترومان الى ممارسة ضغوط شتى لإمرار قرار تقسيم فلسطين بين أهلها واليهود، وإلى ممارسة تطبيق القرار في نحو أباح لإسرائيل، حين تأسست، أن تستولي في توسعها الأول الكبير على أجزاء من الأرض التي خصّصها القرار ذاته للدولة الفلسطينية.

وقتها، حثت إدارة ترومان حليفتيها حكومة بريطانيا وحكومة فرنسا فشاركتهما إصدار البيان الثلاثي الذي ضمن لإسرائيل أن تظل خطوط الهدنة حدوداً دائمة لدولتها، بعد ان حققت هذه الدولة توسّعها الأول الكبير. وثابرت السياسة الأميركية منذ فك عزلتها القارية على مقاومة ايّ إجراء يبيح لشعب فلسطين ممارسة حقه في تقرير مصيره بحرّية، وحثت أتباعها العرب على مقاومة هذه الحق، في نحو يبيح لهؤلاء ان يزعموا أن مقاومتهم هذه تتم من أجل تحقيق السلام للشرق الأوسط، وأن يزعموا أيضا أن في السلام مصلحةً لشعب فلسطين، ليسوّغوا بهذا الزعم ضغوطهم على القيادة الفلسطينية لتأخذ الأمر الواقع المتحقق على الأرض بعين إعتبارها.

ثاني الأسس، وهو استطراد للأساس الأول، أن المصالح الأميركية هي التي صارت، منذ إنتهاء الحرب الباردة لصالح الإدارات الأميركية، ترسم سياسات إسرائيل، وليس العكس الذي ما زال يستقرّ في أذهان عدد من الفلسطينيين. فإسرائيل في رؤية كاتب هذه السطور لوضعها هي مجرد برغي هام في الماكينة الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة؛ أو لأقل إنه برغي يُذكر بدور القاتل الماجور الكفؤ وقليل الكلفة الذي يخدم الماكينة. ولأن هذا البرغي هام بخدماته للماكينة، فقد تدرجت الإدارات الأميركية المتعاقبة في مكافئته، فسمّته تابعاً ثم شريكاً ثم حليفاً إستراتيجياً لها. أمّا الماكينة الإمبريالية ذاتها فيديرها من يمثلون مصالح الإمبرياليّة الأميركية في الإدارات المتعاقبة. وفي هذا ما يعزّز الرأي الذي يتبناه كاتب هذه السطور، الرأي الذي يؤكد أن إدارات الولايات المتحدة، هي والخاضعين لها وأتباعها في البلدان العربية ،هم الذين يقفون، منفردين ومجتمعين، حجر عثرةٍ رئيساً في مواجهة السعي الفلسطيني الى تأسيس دولة محترمة ذات سيادة كاملة على أرض فلسطين. وهناك كثيرون، كاتب هذه السطور واحد منهم، يرون أن الإدارة الأميركية، خصوصاً في عهد ترامب، هي التي ضغطت على حلفائها وأتباعها العرب وغير العرب ليوائموا سياساتهم مع سياستها هي، الى أن تتلاشى المطاليب الفلسطينية او يُستكمل تأسيس الأمر الواقع المتحقق على الأرض فيحول دون تطبيق قرارات الشرعية الدولية، التي قبلتها القيادة الفلسطينية ورفضها حكام إسرائيل من بن غوريون الى نتنياهو.

وثالث الاسس تجسّد في أن حكام إسرائيل الصهيونيين، على اختلاف أحزابهم وتنوّع التسميات التي أطلقت على هذه الأحزاب، هؤلاء جميعهم بغير استثناء، يعلمون أن ممارساتهم المستمرة ضدّ الشعب الفلسطيني لن تصير مقبولة من أي طرف نزيه في هذا العالم، لأنّ في هذه الممارسات ما يخالف كل قانون محلّي في أي بلد، وفيها ما يجافي القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وقيم البشرية المعاصرة؛ المخالفة والمجافاة اللتين يعرفهما كل صهيوني. لهذا لم يأبه هؤلاء لأيّ موْقفْ سوى الموقف الذي يفرض ذاته بالقوة المهيمنة على العالم الإمبريالي كُلّه، قوة بريطانيا وفرنسا حين كانت هاتان الدولتان هما المهيمنتين وقوة الولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك. أما مواجهة تأثير المصالح غير المواتية لتحقيق مشروع التوسع الإسرائيلي فحكام إسرائيل الصهيونيون مارسوا، كلّهم بغير استثناء أيضاً، تكتيكات تضليل ومخادعة انتحلوها ممّا مارسه حكام الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وطوّروها لتصير أكثر مواءمة لإسرائيل، ثم ممّا مارسه نظراؤهم في الإدارات الأميركية، منذ كرّست إدارة ثيودور روزفلت فك العزلة القارية الأميركية. ولأن حكام إسرائيل يشهدون بأمّهات أعينهم كيف يؤثر الرأي العام في دول الاتحاد الأوروبي على حكام  هذه الدول، كما يشهدون ايضا كيف لا يؤثر الرأي العام الأميركي على حكامه، فإنها، إسرائيل، جارت الحكام الأميركيين في الإستهانة بالرأي العام الإسرائيلي وكذلك الأميركي، ومارست ما في وسعها لتضليل وتحويل غالبيتهما الكبيرة الى مؤيدين للصهيونية أو ما ماثلها من الآخرين.

رابع هذه الأسس، مما لا تقلّ أهميته عن الأسس الثلاثة السابقة، أن اتفاق أوسلو أعتُبر من قبل التابعين للإدارات الأميركية من العرب وغير العرب على أنه إجازةٌ تبيح لهم أن يهرولوا هرولة ويجروا جرياً في ميدان تطبيع علاقات دولهم مع إسرائيل، أي في ميدان خدمة الأهداف التوسّعية لحكام إسرائيل. بدأ تطبيع العلاقات سريا قبل اتفاق أوسلو بسنوات كثيرة، وصار علنيا بعد أوسلو. ولم يتورع حكام التبعية العرب عن ترويج مزاعمهم الكثيرة التي أُورد أعلاه بعضها، مثل هذا التطبيع هو ما شجع حكام إسرائيل الصهيونيين على الجهر ببعض مضمرهم التوسّعي.

خامس الأسس التي أمهد بتعدادها لأبْسطَ إجابتي على سؤال الأسئلة الذي أوردته في بداية هذا المقال، أن إسرائيل لم تتورّع ولا تتورع الآن ولن تتورع في المستقبل عن إلحاق أذاها بمن قدّموا لها أجل الخدمات. فقد قلبت إسرائيل ظهر المجنّ لبريطانيا، ثم لفرنسا بعد كل الخدمات التي قدمتهما هاتان الدولتان لها؛ الم تقدّم لها بريطانيا وعد بلفور، والكثير مما ماثله في مجال دعم المشروع الصهيوني؟ الم تقدّم لها فرنسا الوسائل كلها التي مكنتها من إنتاج ما يكفي من القنابل الذرية لتدمير المدن العربية كلها؟ وإذا كان الدعم الأميركي، خصوصاً في عهد إدارة دونالد ترامب، هو الذي أجاز لإسرائيل أن تضم القدس الفلسطينية ومحيطها الفلسطيني كلّه، فمن الذي سيلجم إسرائيل عن قلب ظهر المجنّ للولايات المتحدة؟ الا تقوم إسرائيل الآن بتنويع علاقاتها بالتقرّب من دول مثل روسيا والهند والصين.. الخ. أي بالدول التي قد تشكل في المستقبل المحور الوحيد القادر على مناوأة الإدارة الأميركية؟ ألا يُشير سلوك إسرائيل هذا الى استعداد إسرائيل لقلب ظهر المجنّ لحاميتها الأميركية؟ وممّا لا يندرج إلا في باب السذاجة ولا يرد إلا في معرض تسويغ التبعيّة الكاملة للإدارة الأميركية أن يظنّ حكام الأنظمة التابعة، خصوصا أولئك منهم الذين يشتطون في الجري لممالأة إسرائيل، أنّهم سيكونون مستثنين من إعتياد إسرائيل قلب ظهر المجنّ لمن وفّروا لها أجل الخدمات. وما يجري الآن من قبل حكام إسرائيل الصهيونيين ضد المملكة الأردنية، لمجرد أن سلطاتها اتخذت موقفاً  ينتقد صفقة القرن الترامبية ويعارض ضمّ إسرائيل منطقة الغور الفلسطيني، يوفّر العبرة اللازمة لمن هو مؤهل للاستفادة من العبر ساطعة الدلالات.

 

لإلغاء التعويل على عرب التبعية للسياسة الأميركية

سادس الأسس أن إسرائيل ألِفتْ التصرّف منذ تأسيس الحركة الصهيونية، الذي تُوّج بتأسيسها هي ذاتها في العام 1948، أن يُواجه تحقيق مشروعها الاستيطاني بمقاومة شعب فلسطين وعرب آخرين له، وأن يتكبد يهودها خسران عدد من الضحايا. ومنذ إبرام اتفاق أوسلو الذي سبقته انتفاضة فلسطينية استمرت من أواخر العام 1987 الى أواسط العام 1993، أدارت إسرائيل الصراع دون ان تعبأ بحقيقة أن من بين ضحاياه يهوداً إسرائيليين وغير إسرائيليين، ودون أن تتوقف عن إجراءاتها التي تحفز الجانب الفلسطيني على تشديد مقاومته لها وزيادة عدد الضحايا، وبضمنهم زيادة عدد ضحاياه من اليهود. ولكي تحصن إسرائيل ذاتها ضد الرضوخ لأيّ ضغوط تنصبّ عليها من الفلسطينيين ومن أيّ عرب آخرين، إسرائيل هذه أسهمت بدور حاسم الأهمية في فصل قطاع غزة عن الضفة الفلسطينية، واستكملت بناء الوضع الذي يخسر الجانب الفلسطيني فيه إن اعتدل وإن تطرف، إن مارس الكفاح المسلح وإن كفّ عن ممارسته، إن استمر في العمليات الاستشهادية وإن نبذها، وإن استمر في الالتزامات التي فرضها عليه اتفاق أوسلو وإن نبذها، وإن ألزمت إسرائيل ذاتها ما يفرضه عليها هذا الاتفاق وإن تنصلت من أي التزامات .. إلخ.

وبالعودة الى السؤال الذي طرح منذ البداية، أود أن استطرد في التمهيد لإجابتي عليه بالتذكير بحقيقة يعرفها من ألمّوا بتجارب ثورات التحرر الوطني في البلدان التي تعرضت للاستعمار، خصوصا الإستعمار الإستيطاني. فهذه الحقيقة تؤكد عبرة أساسية هي هذه: "ليس كلّ ما يرسمه أو يتمنّاه مستعمرو الأوطان قابلاً للتحقيق". ولو لم تكن هذه الحقيقة شديدة الرسوخ لما تحرر أي وطن في العالم من الإستعمار.

مؤخراً أعلن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، رئيس دولة فلسطين، وهو الذي وقع بإمضائه على اتفاق أوسلو، أن فلسطين صارت في حل من أي التزام أوجبه هذا الاتفاق عليها، كما أعلن أن فلسطين في حل من أي تفاهمات عقدتها القيادة الفلسطينية مع الإدارة الأميركية. وبهذا، نفذ الرئيس الفلسطيني ما تراكم من قرارات أصدرتها مؤسسات م.ت.ف. المجلسان الوطني والمركزي وغيرهما، ومؤسسات "فتح" ، فصيل م.ت.ف الأكبر، اللجنة المركزية والمجلس الثوري الذي يهتدي بتوصيات هذه اللجنة، وغيرهما.

كاتب هذه  السطور واحد من كثيرين يعتقدون ان هذا القرار وما يترتب عليه من إجراءات ليسا كافيين للجم حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة عن تنفيذ ما ورد في برنامجها عن ضمّ أراضي فلسطينية أخرى، ناهيكم بالنوايا المضمرة التي لم ترد في برنامج هذه الحكومة. وما زال مطلوبا من الجانب الفلسطيني الذي نبذ أيّ أوهام سابقة أن يُرمّم أي مظهر من مظاهر ضعفه التي سببتها سياسة إسرائيل، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي ظل فيها اتفاق أسلو قائما.

ترميم مظاهر الخراب في الساحة الفلسطينية يوجب إتباع سياسة ناجعة تحمي القرار الشجاع الذي اتخذه الرئيس محمود عباس وتحصّن الجانب الفلسطيني من أي أوهام أو رهانات خاسرة في المستقبل. وهذا الترميم المطلوب بشكل سريع هو المرشح لاستنهاض معارضة فلسطينية حاسمة لما تعدّه حكومة إسرائيل. كما أن هذا الترميم هو المرشح للجم الجري العربي نحو إسرائيل، وهو المرشح لاستنهاض معارضة عالمية لسياسة إسرائيل التوسّعية، المعارضة التي يتوالى التعبير عنها منذ أعلن نتنياهو برنامج حكومته الجديدة ومنذ أعلن الرئيس الفلسطيني أن فلسطين صارت في حل من التزامات أوسلو.

إذاً، يوجد الآن ما يشير الى ان ضمّ الغور الفلسطيني إلى إسرائيل قد لا  يتحقق. غير ان منع إسرائيل من تحقيق ما أعلنه برنامج حكومتها يقتضي إحداث تبدل جوهري في السياسة الفلسطينية الراهنة. وهذا التبدل يبدأ، نعم، يبدأ بإلغاء الانقسام الفلسطيني القائم حتى الآن بين الضفة الفلسطينية وبين قطاع غزة.  وبأخذ عبرة ما جرى من محاولات إلغاء هذا الانقسام، لا بدّ من اتفاق جانبيه، "فتح" و "حماس" على برنامج مشترك، ولا بد من نبذ المحاولات السيزيفية لإرغام كل طرف الطرف الآخر على الانجرار الى برنامج هذا الطرف الآخر.

كاتب هذه السطور يقترح، مما يسّهل التوصل الى برنامج مشترك، أن يُنصّ في هذا البرنامج ذاته على أن كلّ إنجاز يتم تحقيقه من خلال الكفاح الموحّد سوف يفضي إلى تطوير أهداف ووسائل هذا الكفاح الموحد. تبدّل آخر سيحفز عليه إنهاء الانقسام هو التبدل المطلوب لإلغاء سياسة التعويل على عرب التبعية للإدارات الأميركية، وذلك دون معاداة هؤلاء العرب ودون استفزازهم، واستبدال هذا التعويل بالتحالف، أو بتعزيز التحالف مع القوى المحلية والعربية والإقليمية والعالمية التي تناوئ سياسة الولايات المتحدة الأميركية، سياستها المعلنة والمضمرة على حد سواء.

ولا غنى، بعد تبديل السياسة الراهنة، عن استكمال الإجراءات التي يفرضها هذا التبديل.

 

*  بالاتفاق مع هيئة تحرير فصلية "أوراق فلسطينية" التي تصدر في مدينة رام الله، تنشر "الاتحاد" هذه المقالة التي تصدر أيضا في العدد 24، صيف 2020 من الفصلية المذكورة

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب