news-details

بعد حكم الأزعر- إلى أين يذهب كوشنير ومشروعه؟| د. نجمة علي

أكتب هذا المقال في محاولة للنّظر إلى المستقبل ضمن قراءة معطيات الحاضر والتي من شأنها خلق فرصة- حتى لو كانت ضيّقة.

بعيدًا عن صور اقتحام الكونجرس الأمريكي، المؤسسة الرمزية للولايات المتحدة التي تصوّر نفسها على أنّها راعية الديمقراطية في العالم، فإنّ هذا الحدث يغير الكثير من المشهد في الشرق الأوسط الذي أصبح مسرحًا لتغييرات سريعة أهمها مشروع التطبيع الذي يقوده جاريد كوشنير،  والذي تواجد في السّعودية لحظة وقوع الاقتحام.

طوال فترة الانتخابات وما يليها من انتظار للنتائج، انشغل الأميركيون والعالم بأسرهِ بمشهد النهاية وخصوصًا بعد فرز الأصوات التي رجّحت كفة جو بايدن والتي قوبلت برفضٍ قاطع من قبل دونالد ترامب، مدعيًا وجود تلاعب وتزوير على نطاق واسع. وحتى بعد لجوئه إلى القضاء الأمريكي، والحسم لصالح بايدن، لم يغير ترامب موقفه واستمر بالتهجّم والتحريض على مؤسسات الدولة واتهامها بـ"سرقة الانتخابات" مؤججًا مشاعر داعميه ومحرّضًا لرفض النتيجة وإعلان الحرب "لاستعادة الانتخابات" كما أسماها، وصولاً إلى أحداث الكونجرس، مرتكزًا على قاعدته الشعبية، وعلى إمكانية تواصله بشكل مباشر مع مؤيديه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وضاربًا بعرض الحائط الدستور الأمريكي والمؤسسات الأمريكية- والتي هي أساسيات حفظ الديمقراطية الأمريكية.

 خرج داعمو ترامب في السادس من كانون الثاني/ يناير للتظاهر أمام الكونجرس في مسيرة حاشدة نقلت ببث حي ومباشر إلى كلّ العالم، الوجه الحقيقي لما يقارب نصف المجتمع الأمريكي- حيث أن 46.9% من المصوّتين دعموا ترامب في الانتخابات الأخيرة. هذه الصور ستلاحق السياسة الأمريكية وستحفر بقوة في ذاكرة العالم. سيتذكر العالم مجموعات بلباس غريب تذكّرنا بالعصور الوسطى، مجموعة أخرى داعمة للنّازية، ومجموعة تلوح بعلم اسرائيل بين الجموع. هذا الخليط المدجج بفكر الاستعلاء الاأبيض وجد مساحة وحاضنة سياسية له خصوصًا في السنوات الاربع الاخيرة.

 

 لستُ بصدد تحليل شخصية ترامب، لكن من المهم التذكر بأنه "أزعر مع ربطة عنق"، وبأنّ آخر أيّامه في البيت الأبيض رغم أنّها معدودة، هي الأخطر لما يمكن أن تحمل من مفاجآت. وهذا ما يجعل محاولات عزله قبل 20 كانون الثاني، تأخذ منحى جديًا خاصّة انه ما زال يملك صلاحيات تمكّنه من إعاثة الخراب قبل تركه البيت الأبيض. وهذا ما يحفز نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب على طرح إمكانية عزل ترامب خشيةً من سلوكه غير المتوقع، غير المسؤول والمدفوع برفض الخسارة.

 مما لا شكّ فيه أن "عهد الترامبية" جعل المنظّرين للديمقراطية الأمريكية يفكرون بإعادة تعريف شكلها وحدودها والتوجّه إلى نموذج "الديمقراطية المدافعة عن نفسها" - تمامًا كما حصل مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ووصول النازية إلى الحكم السياسي بطريقة ديمقراطية، مستغلين مساحة الحرية التي تسمح بذلك. على كلّ الأحوال، صحيح أن ترامب لم يبدأ حربًا خلال فترة حكمه، لكنّه أشعل حربًا داخل الولايات المتحدة والتي لم يتردّد بعض المحللين بوصفها  بـ"الحرب الأهلية"، مما يضع تحديات كبيرة أمام الادارة الجديدة التي ستكون مشغولة بترميم الدّمار الذي خلّفته سياسات ترامب- الدّمار الداخلي والعالمي- وأيضًا إعادة الهيبة للولايات المتحدة، الأمر الذي سيتطلب ترميم الخطاب السياسي الأمريكي وتوجيهه إلى الداخل.

وفي ظلّ انشغال الإدارة الأمريكية الجديدة بإعادة ترتيب البيت الداخلي الأمريكي ورأب الصدع بين مواطنيها في محاولة لإعادة الثقة بأسس الديمقراطية، فإنّ الشرق الأوسط وصراعاته الطويلة والمركبة لن تكون الساحة الخلفية لحصد الانجازات، والتي اتّسمت بشكل مستمر بتأمين فرض الهيمنة الأمريكية ومصالحها وربطها بالمصالح الاسرائيلية. ولكن الأهم، ان كل من هو مرتبط بإرث الادارة الامريكية الترامبية وبترامب نفسه، لن يكون له مكان في الإدارة الجديدة، حتى ان مجلة فوربس الامريكية تحذر الشركات من توظيف مسؤولين عملوا في إدارة ترامب، بحجة "الإضرار بالسمعة" وخصوصا انه سيكون هنالك افتراض دائم بأن المواد الاعلامية الصادرة عن الشركة هي أكاذيب. وهذا الأمر ساري المفعول أيضًا على جاريد كوشنير- الجندي غير المجهول في بناء وتفكيك التحالفات الأخيرة في الشرق الأوسط.

 حتّى يوم الأربعاء وقبل اقتحام الكونجرس، صُور كوشنير على أنّه "عراب السلام"، السوبرمان الذي فعل ما لم تستطع إدارة بوش وأوباما فعله وهو- إرجاع "السلام إلى الشرق الأوسط"، والوصول إلى حل شبه نهائي- طبعًا على حساب تصفية القضية الفلسطينية والصحراء الغربية. ان خطورة كوشنير لا تكمن فقط في قدرته على إعادة ترتيب رقعة الشطرنج واصطفافات اللاعبين التي أضحت واضحة ضمن تحالفات إقليمية،  بل على قدرته أيضًا بإفراغ الركيزة القيمية لمعنى السلام- من كرامة وتحرّر وخصخصة الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي وتحويلة إلى "بيزنس" وعقود بين شركات ومشاريع أمنية وعسكرية وتكنولوجية. ومع هذا، فإنّ هذه الانجازات التي يلوح بها كوشنير لن تشفع له ولن يستطيع أن يتخذ مكانًا في الادارة الجديدة. وما سيذكره الأمريكيون والعالم كله، انه زوج ايفانكا وصهر ترامب ومستشاره المقرب. وكل ما يتعلق بترامب وعائلته التي جلبها معه إلى البيت الأبيض سيكون بمثابة اللطخة السوداء التي تريد الولايات المتحدة التخلّص منها. وخصوصًا ان ايفانكا ترامب، كاتمة أسرار ابيها، خلال فترة حكمه لم تصدر أي بوادر معارضة او تناقض ضد سياساته، بل على العكس- فقد وصفت المتظاهرين بـ"الوطنيين" الحقيقيين. كذلك كوشنير، الذي صال وجال في الشرق الأوسط وحاك صفقة القرن التي قدّمها للعالم على أنها الحل النهائي والامثل للصراع في الشرق الاوسط، لدرجة انه حتى في حال تغيير الادارة الامريكية كانت هنالك فرصة لبقائه ضمن صلاحيات معينة، الى حين اقتحام الكونجرس واتهام ترامب بانقلاب على الشرعية الديمقراطية، التي قلبت كل الموازين.

لقد نجح الثلاثي ترامب-كوشنير ونتنياهو في خلق معادلة جديدة، وتقديمها للعالم المشغول بجائحة كورونا والذي لا يملك وقتًا وطاقات وأموالًا للمعارضة أو ليكونوا جزءًا من هذه المعادلة وخصوصًا الاتحاد الأوروبي. لكن مع سقوط ترامب وكوشنير، يبقى نتنياهو وحيدًا مع شركائه الجدد من الامارات والبحرين والمغرب والسودان- وربّما ستنضم قطر والسعودية إلى هذا التحالف الذي راهن على بقاء ترامب وكوشنير في الحكم لأربع سنوات إضافية لتأتي المفاجأة في اللحظة قبل الأخيرة وتهدم ما خطّط له. ليجد ترامب نفسه خارج اللّعبة السياسية ساحبًا كوشنير معه مثلما يسحب ذيله.

 مع هذا فإنّ الرهان على ان صفقة القرن سوف تتجمّد لوحدها هو رهان ساذج وخصوصًا ان علاقات التطبيع مع الدول العربية عبارة عن اتفاقيات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية – اتفاقات بدأت قبل مبادرة صفقة القرن، اذ جاءت الصفقة وتحت غطاء "السلام والتنمية" لتوفر غطاءً شرعيًا لمثل لهذه الاتفاقات. الفوضى الأمريكية ومقت كل ما هو تابع لإرث ترامب هي فرصة لن تتكرر، خاصّة في ظلّ مساءلة سياسات ترامب وتداعياتها ووصفه بالرئيس الأقل كفاءة في تاريخ الولايات المتحدة. وهي فرصة للجانب الفلسطيني، لاستغلال إعادة ترتيب الأولويات والنقاش حول الخطاب السياسي الأمريكي، كي يبادر لصياغة موقف مناهض لصفقة القرن ولسلام كوشنير وتقديمه للإدارة الجديدة التي من الممكن جدًا أن تتنصل من رعاية صفقة القرن أو على الأقل أن ترفض تبنيها كمرجعية اساسية للمفاوضات- ليس حبًّا بنا، بقدر ما هو كرهًا ومقتًا ومحاولة للتخلّص من بقايا الإدارة السابقة.  بالنسبة للطرف الفلسطيني ومعهم الفلسطينيين في اسرائيل، كون الصفقة تطرح تهجيرهم كجزء من الحل السياسي، عليهم القفز على هذه الفرصة، في محاولة لاسترجاع استقلالية القرار الفلسطيني، الذي سحبت السجادة من تحته وسلّم لأطراف عربية، لا تفقه شيئا من الصراع ولا تعنيها مصلحة الشعب الفلسطيني بالدرجة الاولى، لتتحدث باسمه، والمطالبة بإعادة ترتيب أوراق ملف الشرق الأوسط الذي حوّله كوشنير إلى ملعب مفتوح تتقاسمه عصابة ترامب-نتنياهو، الصديقان اللذان يشبهان بعضهما حتّى النّخاع.

للإجابة على السؤال- إلى أين يذهب كوشنير؟

- في أفضل الحالات (بالنسبة له) إلى البيت.

-وفي أكثرها سوءًا إلى السجن- في حال تمّت ملاحقة من كان مقربًا ومتورّطًا بأعمال تحريضية وغير قانونية.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب