news-details

بين غول الامتحانات الدوليّة وتغوّل منظومة التعليم: قراءة بيداغوجيّة لنتائج البيزا

لعلّي بهذا أغرّد خارج السرب؛ إذ كنت ولا زلت من المتحفّظين على امتحانات القياس والتقويم، القطريّة والدوليّة، بضمنها البيزا، وعلى الرغم من أهمّيتها، منذ شغلت منصب المفتشة المركزة للغة العربية في وزارة التربية والتعليم. يأتي تحفّظي هذا لأسباب كثيرة، أهمّها أنها امتحانات مضلِّلة، ولا يمكن من خلالها اكتساب صورة صحيحة ودقيقة عن الواقع التربوي الذي يعيشه أولادنا، خاصة في دول ذات مجتمعات مركّبة بقضاياها ومشاكلها مثل إسرائيل. والسبب الثاني، أن هذه الامتحانات قد استعبدت جهاز التربية والتعليم على مدار العقدين الماضيين، وعندما تدخل الدولة في منافسة عالميّة مع باقي الدول، تكون مستعدة لفعل أي شيء لتحقيق النجاح، وإن كان على حساب أهم جهاز في مؤسّساتها. 

منذ بداية القرن الحالي، ومع تطوّر تيّار التربية المقارِنة في العالم، انضمّت إسرائيل إلى فيضان من الامتحانات القطريّة والدوليّة أبرزها: (מיצ"ב, TIMSS,PIRLS, PISA)، سأعرض لها باختصار: 

امتحانات "النجاعة والنماء" (מיצ”ב) (מדדי יעילות וצמיחה בית ספרית): هي امتحانات قطريّة، تفحص بالأساس تحصيل طلاب صفوف الثوالث والخوامس والثوامن في مواضيع النواة الأربعة وهي: لغة الأمّ، الرياضيّات، اللغة الإنجليزيّة، العلوم والتكنولوجيا.

البيرلز: Progress in International Reading Literacy Study، امتحان دوليّ، يُجرى كلّ أربع سنوات، مُعَدّ لطلاّب الصف الرابع، ويفحص مقدرة الطالب في التنوّر القرائيّ في لغة الأمّ. 

البيزا: Program for International Student Assessment، امتحان دوليّ، يُجرى كلّ ثلاث سنوات، للطلاب من عمر 15 عامًا، تشرف عليه منظّمة التعاون والتنمية (OECD)، بهدف معرفة مدى امتلاك هؤلاء الطلاب للمهارات والمعارف الأساسيّة في مواضيع العلوم والقراءة والرياضيّات.

امتحان "التيمس": Trends of the International Mathematics and Science Studies جزء من بحث دوليّ، يُجرى مرّة كلّ أربع سنوات، معدّ لطلّاب الصفوف الرابعة والثامنة والثانية عشرة، ويفحص التحصيل الدراسيّ للطلّاب في الرياضيّات والعلوم. 

في السنوات العشر الأخيرة، استعبد غول هذه الامتحانات منظومة التعليم في بلادنا،  وتم قلب مناهج التدريس، وكتب التدريس، وطرائق التدريس، وأساليب التقويم والتقييم، وتطويعها وفقا لأساليب هذه الامتحانات؛ خاصّة في مواضيع لغة الأم والرياضيات والعلوم، على أمل أن تضمن إسرائيل لنفسها مكانة معتبرة في سلّم الدول الأخرى المشاركة. 

ولأن اللغة العربيّة مقصدي وهمّي، ولأنها حلّنا وترحالنا في عملية التدريس، يأتي السؤال هنا، كيف أثّرت هذه الامتحانات على تدريس اللغة العربيّة في مدارسنا العربيّة وبين طلابنا؟ وما سبب النتائج الصادمة التي رأيناها في البيزا؟ 

في أعقاب هذه الامتحانات حلّ في العقد الأخير مصطلح "التنوّر اللغويّ" و"التربية اللغويّة"، وأصبح يسِمُ عمليّة تدريس اللغة العربية بأهدافه ومجالاته. هذا النهج يشدّد على تطوير كفاية الطالب الثقافيّة واللغويّة والتواصليّة بصفة عامّة. بمعنى أن دور الطالب يتمركز حول اكتساب المعرفة من خلال القراءة والفهم، وتطوير تحصيلاته في إطار امتحانات ومهام مشابهة. هذا النهج، على الرغم من أهميته وفوائده التي أقرّ بها، قصر مبدأ القراءة والفهم على النصوص الوظيفيّة؛ فمعظم النصوص التي يقرأها طلابنا في كتب التدريس ويتقدّمون لها في الامتحانات هي نصوص وظيفيّة (إخباريّة وإرشاديّة وإقناعيّة)، وتهدف في المقام الأوّل إلى دراسة وسائل النصّ، وتطوير القدرات القرائيّة لدى الطالب من خلال تمارين في أبعاد الفهم؛ كالاستنتاج والتفسير والتركيب والتقويم. 

ومن الأوجه الكارثيّة لهذا التغيير كان تبنّي القراءة الشكلانيّة الأسلوبيّة والاستغناء عن القراءة الإبداعيّة المفتوحة، المنتِجة لتأويلات جماليّة وأخلاقيّة وتاريخيّة وأيديولوجيّة  للنّصّ. وباتت عمليّة فهم النصّ في الغالب عبارة عن تحليل الأساليب والتقنيّات داخل هذا النصّ، واستكشاف البناء المنطقيّ والتدريجيّ في مبنى فقراته وأقسامه، وإعادة تركيب الطالب له عن طريق تمارين تعبيريّة واستراتيجيّات مختلفة في الفهم.

وإذا كنت لا أقلّل من أهمّيّة فهم الأبعاد الدلاليّة الشكليّة للنصّ من خلال هذه المهارات، إلا أنّها ينبغي أن تكون وسيلة، لا غاية في قراءة النص وفهمه. فلا يجوز أن تحلّ دراسة وسائل النصّ وتقنيّاته محل دراسة المعاني والقيم والجماليّات التي هي غايته، كذلك لا يمكن أن تكون تجربة الطالب في دراسة اللغة العربية، وفي اكتساب مهارات القراءة حقيقيّة وناجعة،  إلا إذا تعامل مع النصّ لا بنظرة أحاديّة، و"ليس بوصفه "لعبًا بالكلمات"، -كما أشار الباحث محمد الداهي (2007)- "وإنّما باعتباره عالمًـا من التمثّلات الثقافيّة والأنساق الجماليّة تتحكّم فيهما معًا عمليّتا الإنتاج والتلقّي".  

كذلك صرفت هذه الامتحانات المعلم عن رسالته، وشغلته بالأنشطة والبرامج والفعاليات التي تخدم مبدأ الامتحانات، بل إنها قلبت عملية التدريس من مبدأ محاسبة المعلّم على كفاءته وقدرته على تحقيق الأهداف التعليميّة، إلى مساءلته عن تحصيلات الطلاّب، ومحاسبته على نسبة المعدّلات النهائيّة في الامتحانات القطريّة والدوليّة. باتت هذه الامتحانات بمثابة الغول الذي يؤرّق المفتّش والمدير والمعلّم على السواء، وهنالك العديد من مدارسنا العربيّة باتت تقصر تدريس اللغة العربيّة على حلّ أكبر عدد ممكن من نماذج هذه الامتحانات!

لن تكون قراءة طلابنا أفضل ولن يتأتى لهم استثمار القراءة في تطوير قدراتهم الفكريّة والاجتماعيّة والإبداعيّة، إلا إذا خاطب النص وجدانهم وأحاسيسهم. كذلك لا يجدي أي فرع من فروع اللغة في تجويد القراءة وتعزيز مستويات الفهم مثل النصوص الأدبيّة، لأن الأدب هو ما يصنع اللغة التي نتواصل بها ويحدد مستواها.

إن النتائج المتدنّية المخزية في امتحان البيزا ليست إلا نتيجة طبيعيّة لمنهجيّة جديدة لم يحسن العاملون في الوزارة تطويعها في واقعنا ومدارسنا، ونتيجة طبيعيّة للتصريحات الفارغة وخطط التدريس الصاروخيّة التي تصدر كلّما حمل وزير جديد حقيبة التعليم ودقّ بمطرقته على رأس قسم التعليم والتفتيش العربيّ. هذه الخطط أكبر من الحقل ومما يحتمله طلابنا، وهي موسومة بالشعاراتيّة والتنظير أكثر من كونها واقعيّة وقابلة للتطبيق وتلائم وسطنا العربي وطلّابه. 

كذلك لا يمكن النظر إلى حصر عملية القراءة والفهم في اللغة العربية في الجانب الوظيفي والتواصلي، إلا كسياسة مبيّتة من وزارة التربية والتعليم في إسرائيل، وسعيها إلى تمييع عمليّة تدريس اللغة العربية، وإفراغها من مقوّماتها القوميّة والهويّاتيّة والأيديولوجيّة. وما زال جهاز التعليم العربيّ في وزارة التربية والتعليم – إداريٍّا ومهنيٍّا- لا يقوم بالدور المنوط به فيما يتعلّق بمنظومة تدريس موضوع اللغة العربيّة، كلغة أقليّة قوميّة لها الحق في المحافظة على هويّتها الجمعيّة وإرثها التاريخيّ والثقافيّ، كما هو الحال في موضوع اللغة العبريّة في المدارس اليهوديّة، أو اللغة العربيّة في العالم العربيّ. نعلم جميعًا أنه لا يمكننا تغيير الواقع التربوي لطلّابنا ما دمنا نُنكر نواقصه، كما أن إنعاش المنظومة التعليميّة عن طريق تقديم التنفّس الاصطناعي بفتات الميزانيّات وخطط الإشفاء لا يجدي. 

ونصيحتي للأهل، لا تخافوا من امتحان البيزا وشاكلته، فقط اقرأوا قصصًا جيّدة  لأولادكم قبل النوم، واجعلوا القراءة نهج حياة في بيوتكم. هذا رأس مال حقيقي لاكتساب مهارات القراءة والتفكير الإبداعيّ. ونصيحتي للمعلّمين، حثّوا طلابكم على قراءة المزيد من الأدب الجميل الذي يعترف بالروح الإنسانيّة والإبداع، املأوا حياتهم بمهام وتجارب ذات مردود دراسي عال.  هكذا فقط سنربّي نموذج "الطالب المستقل"، القادر على قراءة النص وفهمه واستثماره في مجالات تفكيريّة أخرى. هكذا فقط يستطيع الطالب كتابة نصوص جيّدة الصياغة والتعامل بذكاء مع عصر تفجّر المعرفة. هكذا نحظى بطلاب يستثمرون قدراتهم الفكريّة والاجتماعيّة والإبداعيّة في المدارس والمجتمع، وهكذا يصبح اقتصاد المجتمع والدولة أفضل. 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب