news-details

تعليم بدون منطق – الأمة التي تخون ثقافتها| شادي نصار

"انّ منظومتنا التربوية والتعليمية العربية محكومة بالإقرار بالحاجة الى الدرس الفلسفي الذي يجعل هدفه الرئيس في نهاية المطاف تعليم أطفالنا وشبابنا الطريقة المنهجية في التفكير العقلاني النقدي في العالم وفي الإنسان. وليس هناك أدنى شك في أن هذه الطريقة المنظمة في التفكير لا يمكن لأية عملية تغيير واعٍ أن تتم من دونها.

"إن العامل الأبرز الذي تعانيه منظومتنا التربوية هو تخليها عن تكريس المنظومة الأخلاقية والمنطقية المتجذرة في الشعب والأمة والمنقولة عبر الذاكرة الاجتماعية والشروع – في مقابل ذلك – في ترويج نمط من الحياة خالٍ من المعنى يشجع على النجاح الفردي والانتفاع بكل الوسائل حتى غير المشروعة منها." - د. محمد محسن.

تكمن خيانة الأمة لثقافتها عبر تجريد مناهج التربية والتعليم في الدول العربية من دروس الفلسفة الحقيقية المتراكمة عبر إرث مجموعة كبيرة من الفلاسفة والعلماء العرب والمسلمين الذين أسسوا إنتاجهم وفقًا لتحليل ومعالجة واقع وتاريخ الشعوب والأمة في المنطقة – أي منطقتنا، تاريخنا وواقعنا، بل أسوء من ذلك، انّ هذا التجريد السافر يرتبط بترويجٍ أصم وأعمى لدروس الفلاسفة والعلماء الغربيين في الطبيعة والاجتماع وغيرها أمثال افلاطون وارسطو وكونت وهيجل وماركس، هذا الترويج الذي لا يؤمّن للطالب العربي في البداية قاعدة معرفية علمية وفلسفية متناسقة مع ثقافته المتوارثة والملموسة، والذي يتأخر في موعده أيضا لينتج صدامًا متأخرا في مرحلة التعليم الأكاديمي ما بين عقلية الطالب الذي تم عزله وتجريده خلال مسيرته السابقة وما بين هذا الكم المعرفي الغريب في قواعده من جهة والغربي في صِلاته من جهة أخرى.

للمنطق مكانة مهمة في الدراسات الفلسفية والعلمية، فقد اهتم الباحثون في الفلسفة والرياضيات بوضع أنظمة منطقية مختلفة القواعد والأسس والأفكار، والآن لم يعد هناك منطق وحيد هو منطق ارسطو فقط، بل ظهرت أنواع كثيرة في هذا العصر، وقد اتضح من دراسات الباحثين في شتى العلوم أن المنطق يكوّن القاعدة الأساسية لجميع العلوم، وطريقة التحليل المنطقي بشكلها الأول هي منهج رياضي فلسفي قبل أي شيء آخر، إذ يعتمد المنطق على تحديد معاني الرموز أو اللغة التي يستخدمها العلم والمنطقيون الذين يسعون الى المعرفة واليقين، وتبعا لذلك فإن التحليل المنطقي هو طريقة توضيح الأنظمة المؤلفة من كلمات ورموز بينها علاقات منطقية معينة.

يغيب المنطق عن مناهج ودروس تعليمنا وتربيتنا الاجتماعية العربية غيابًا تحيطه الشكوك والريبة، فاذا كان المنطق هو القاعدة الأساسية لكل العلوم التي نتعلمها في مدارسنا فذلك يعني بأننا نساهم من خلال مناهجنا المجردة من دروس المنطق الى تحديد وتضييق الخناق على المستويات المعرفية لدى طلابنا، بل نسعى أيضا الى تحويل هذه العلوم والمعارف الى شكلٍ ظاهريٍ محفوظ يتلقاه طلابنا بدون معالجة تحليلية عبر آلة الفكر الحقيقية القائمة على المنطق، وبهذا الشكل يخسر الطالب فرصة التطور من مستوى الاستهلاك الى مستوى الإنتاج في الفكر ليصل على حاله هذا الى مرحلة يصطدم فيها مع منهاج البحث الأكاديمي الذي لا يقوم نجاحه الّا على معرفةٍ مُنتجة لا مُستهلكة في الفكر.

ولا يقصد بالمنطق صيغة معيّنة من بين الصيغ المختلفة والمتراكمة التي توالت مع تاريخ الفلسفة، بل يقصد من ذلك الاطلاع على صيرورة المنطق المتطور من خلال مساهمات مختلف الفلاسفة، فمنطق ارسطو الصوري قد ولّى عليه الزمان وجاء من بعده المنطق المادي، ولكل صيغة فلسفية قوانين معينة مثل قوانين الهوية، عدم التناقض، القياس والوسط الممتنع عند ارسطو وصولا الى قوانين المثالية الجدلية عند هيجل والمادية الجدلية عند ماركس وغيرها من القوانين الأكثر "حداثة".

لن اتطرق في هذه المقالة الى مضمون الصيغ المنطقية المختلفة، البسيطة في معناها و"المعقدة" في عنوانها، الّا أنني سأشير الى تاريخنا العربي والإسلامي الذي يشهد على مجموعة عظيمة من الفلاسفة والعلماء الذين عالجوا وطرحوا صيغ مختلفة في المنطق كما فعلها أقرانهم الغربيين، فكيف يغيب عن تعليمنا وتربيتنا منطق ابن تيمية، الغزالي، الجاحظ، الفارابي، ابن سينا، ابن الهيثم والعظيم ابن خلدون، هذه المساهمات العظيمة والمختلفة في قواعدها وأسسها، الصورية والمادية، الاستنباطية والاستقرائية، وكيف يغيب عن واقع دروسنا هذا الإرث الذي تُعدّ قيمته بالضخمة في مسيرة العلوم والفلسفة البشرية، وكيف يمكن أن نُعطي مدارسنا الابتدائية والاعدادية والثانوية أسماء هؤلاء المفكرين والمناطقة بدون أن نخصص لصفوف هذه المدارس ساعات تدريسية بمنطق وفلسفة المذكورين آنفًا !.

ان تخلّفنا في النقد والجدل ناتج عن تخلفنا في دراسة ثقافتنا، بل اننا نتجاهل تماما في بعض المجتمعات العربية الاطلاع على هذا الإرث الواسع ظنًا منّا بأن التطور ينبع من دراسة أحدث المساهمات الفكرية بدون النظر الى علاقتها بالواقع الذي نعيشه أو بمسيرتها القائمة على عدة مساهمات متدرجة عبر التاريخ، انّ هذا الاغتراب عن مشاربنا الفكرية يسلبنا القدرة على فهم أزمة أمتنا وشعوبنا، ويسلبنا فهم العلاقات السببية وماهية التقدّم والتخلّف، بل أكثر من ذلك فهو يسلبنا القدرة على فهم فلسفات وانتاجات العلماء الغربيين وفك شيفرة هذه العلوم التي مرت بصيرورة خاصة لا عامّة.

تخلفنا في دراسة "منطقنا" هو سبب مباشر لفشلنا بتحليل مشاكلنا الاجتماعية كالعنف والذكورية والعصبية والعنصرية وغيرها، ومشاكلنا المادية كالاستغلال والطبقية والتبعية وغيرها، انني مقتنع بأنّ غياب المنطق الجدلي "المادي" الذي طرحه ابن خلدون مثلا في قانون التدريج وفي الإشارة الى احتواء الشيء على نقيضه عبر باب "البدو والحضر" هو غياب قاسي النتائج على وعي مجتمعاتنا العربية التي لا زالت عالقة في منطق ما قبل ابن تيمية والغزالي، أي في منطق "الشيء لا يمكن له أن يحوي نقيضه" وفي منطق " لا وسط بين الأشياء" وفي منطق القياس بالصورة الظاهرة لا بالمادة المحسوسة، انّ هذا الغياب يصحب معه غياب علم الكلام وعلم الجدل والمناظرة والحوار وفقا لقوانين حقيقية.

لماذا نخون ثقافتنا بهذا الشكل؟ وكيف نتراجع بسرعة عن هذه الخيانة التاريخية؟، يطاردني هذا السؤال منذ سنوات وسأحاول من خلال صحيفة الاتحاد الإجابة عن هذه الأسئلة عبر مقالات قادمة.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب