news-details

جبال الريح (ج2- الحلقة 10)

كان الوصول الى موسكو واحدا من أحلامي، هي المرة الاولى التي اسافر خارج البلاد، بعت إسوارة ذهب لزوجتي، و"لوزة" مع سلسلة ذهب تعلق في العنق، اشتريت بعض الملابس والباقي للمصروف، جاء الكثير من الرفاق والأقارب والأصدقاء والجيران ليلة السفر للوداع في ليلة شاتية. احد الخبثاء من ذوي النوايا السوداء والذي عمل مع المخابرات وعنده متجر صغير قال لزوجتي: يا مسكينة، محمد يسافر ويتركك ولا يعود، مثل والده الذي سافر الى الارجنتين وظل هناك اكثر من عشرين سنة. كانت زوجتي قد اشترت بعض الحاجيات ودفعت الثمن، فما كان منها الا ان رمت كيس المشتريات في وجهه وشتمته، وحكت لوالدي الذي غضب غضبا شديدا وبهدله.

من هناك بدأت ارسل بطاقات جميلة لعدد كبير من الاصدقاء في القرية، بطاقات بريد عليها صور الكرملين والساحة الحمراء والبولشوي تياتر ومبنى وزارة الخارجية وفندق اوكرايينا. أحد من الاصدقاء يحتفظ بالبطاقة حتى اليوم، الرفيق جمال موسى كتب لي: ارشفوا من كأس السعادة حتى الثمالة..

الرفيق عبدالله زقوت كان يغضب عندما يرى سيارة شحن صغيرة ويصرخ: لويش هاي!! هاه!! يريد كل شيء كبيرا، يجد امرأة ناصحة وبصحة جيدة فيسألها: كم ولد عندك!!

ترفع إصبعها: واحد! فيجن جنونه ويحدث نفسه: قدّك قدّ البقرة مع ولد واحد!!

زرنا ليننغراد والمقبرة الجماعية مع ست مئة ألف شهيد في حصار المدينة إبان الحرب الوطنية العظمى ضد النازية، ومتحف الارميتاج، وكذلك العريشة التي اختبأ فيها لينين عند بحيرة رازليف زمن حكم كيرانسكي.

شاهدنا مظاهرة أول أيار في الساحة الحمراء وهتاف: هورا...ه في العرض العسكري وقادة الاتحاد السوفييتي برجنيف وبودغورني وكوسيجين على اسوار الكرملين، وبصمت مهيب ألقينا نظرة على لينين المسجّى في الضريح.

أخذنا معنا العديد من الهدايا من خشب الزيتون، من الناصرة والقدس، لكن احد الرفاق كان يستولي على بعضها ويهديها الى صديقته، فجنّ جنون الرفيق نصري المُرّ رئيس الفرقة.

من ضمن الوفد الذي سبقنا كان محمود درويش عضو الحزب الشيوعي فرع حيفا، لكنه لم يعد الى ارض الوطن، فما كان من الرفيق الشاعر عصام العباسي إلا ان كتب في جريدة الاتحاد: زِدْتَ اللاجئين لاجئًا.

أردت ان ارتشف من كأس السعادة حتى الثمالة مع ديلارا من جمهوريات وسط آسيا، ولليوم احب سحنة صبايا الاذربجان والأوزبك وكازاخستان والقيرغيز، وكان الفشل حليفي إلا فيما ندر، الذي ندَر اكثر من الذي حضَر.

سكنّا في الطابق الثالث من المسكن الداخلي في غرفة 347، في الطابق الرابع كان هنالك رفاق من المانيا وفنلندا، يشربون البيرا ويصخبون، تلقيت دعوة وتعرفت على فتاة من فنلندا اسمها كويا سِرْفالي، جميلة جدا ولطيفة، اما زوجها الرائع: "بِسوى مِني عشرة"، شاب حلو هادئ ولطيف، دعوتهم الى غرفتي وهي معهم فنويت ان أغازلها بعد ان اطردهم، كانوا سكرانين، او على الاقل مزهزهين، افاق زميلي في الغرفة وبسرعة خاطفة ضمّها وقبّلها، فهربت تاركة الغرفة بحياء جميل، وبقيت احتفظ بصورتها، وعندما أثار الوفد الفنلندي قضية خليج فنلندا عند ليننغراد، فترتْ العلاقات ومحاولة الارتشاف من كأس السعادة، وكذلك مع اليابانيين الذين يطالبون باستعادة جزيرة سَخالين، فنحن دائما مع الاتحاد السوفييتي، ايضا في إنزال قواته في هنغاريا، وفي تشيكوسلوفاكيا ضد دوبتشيك سنة 1968، وكنا نود ان يتدخل في بولونيا ضد حركة "تضامن ولِخ فاليسا"!!

أحببت درس الفلسفة عند المعلمة بكروفسكايا، عن المادية الديالكتيكية وقوانين نفي النفي، ووحدة وصراع الاضداد، والتراكمات الكمية والتحولات الكيفية، خاصة ولي بعض الالمام من دورات دراسية قدمها لنا الرفيق نمر مرقس. اما كيف صار اسمي – الرفيق نفاع – تفارِش نَفوخا بالروسي فلم افهم ذلك.

في تلك السنة تعرفنا على الوفد العراقي من عرب وأكراد وهم ينشدون: هَربجي، هربجي، كرد وعرب رمز النضال. كانوا اثني عشر رفيقا، وعندما عادوا الى العراق الوطن، صُفوا جميعا، قتلهم النظام بمنتهى الوحشية، وكذلك رفيق من الاورغواي، تخلص من كل شيء يمتّ بصلة الى وجوده في الاتحاد السوفييتي، ونسي ساعة اليد، فقتلوه في مطار بلاده.

في درس التطبيق زرنا جمهورية جورجيا بلد ستالين، مع معلمة الفلسفة، وأحببت مدينة تفليس وضواحيها، وأنا أرى اشجار البطم والسنديان والتين ودوالي العنب، وثمار الخورْما اللذيذة، كان مرافقنا هناك الرفيق نادار الذي يتقن دور – التمادا – أي رفع الانخاب في الوليمة، ذكرني اسمه بالكاتب الجورجي نادار دومْبادزِه وكتابه الرائع: أرى الشمس، طلبنا اللقاء معه، لكنه كان خارج البلاد، في كولخوز – مُهران – شعرنا وكأننا في قرية من قرانا، ذبحوا لنا خروفا، وأطلوا برأس الذبيحة احتراما قبل ان يقدم المنسف مع مشروب قوي جدا "التشاتشا" 90% منه كحول – سبيرتو.

بعدها اختلفت مع رفيق من البعث العراقي الذي رفع كأس ان تعود جورجيا دولة اسلامية فتصديت أنا وقلت: كأس ان تصبح العراق جمهورية اشتراكية، صفّق الشيوعيون وغضب البعثيون..

وكم تعرضت الى شتائم قذرة من نوفل الجنابي العراقي وجدعان السوري – اعضاء البعث، وأبو زياد ومنصور من الجماهيرية الليبية، والى مقاطعة فظة في البداية من شبيبة الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، حزب جنبلاط، وبعدها محاولة اعتداء على الرفيق كمال أبو أحمد من شبيبة حركة أمل ونبيه بري، كانوا يهتفون: اسرائيل شرّ مُطلق، ويوجهون الكلام لنا وكأننا مع اسرائيل وعدوانها وجرائمها.

أستبق الاحداث واقول: في احدى زياراتي الى جمهورية كوريا الدمقراطية، كنت في طريقي الى المنصة لالقاء كلمتي امام اكثر من الف انسان، فما كان من غازي صعب من الحزب الاشتراكي التقدمي في لبنان الا ان انسحب من القاعة ومعه عدد من الوفود العربية، لاقيته وهو ينسحب وقلت له: استقبلتم شمعون بيرس في المختارة ولا تريد ان تسمع كلمة الشيوعي، ثم اني "درزي" مثلي مثلك، ويكفينا صديقنا الدكتور من ابو سنان!!

ضحك وعاد واستمع الى موقفنا باحترام وتقدير، كنت أمزح مع الدكتور حمد صعب وله عيادة في عكا، هو يشتم الشيوعيين وأنا اشتم المفدال، لكن غازي صعب قال لي: رفضنا استقبال الدكتور حمد عندنا، عندما عدت الى عملي في عكا التقيت الدكتور حمد وقلت له: إلك معي سلام!!

  • هَه من مين!! يا ملحد
  • من قريبك غازي من لبنان
  • لأ! بعِرفُش، قد يكون لا يذكره فعلا،

فقلت له: مْبلى رفض استقبالَك!!

  • صحيح آه – الله يلعنك ويلعنه

أما منصور الليبي الذي جاء ممثلا لمعهد دراسات وتحليل الكتاب الاخضر للاخ العقيد معمر القذافي فقال:

  • لازم تِنِذْبح انت واليهودي، اما اليهودي فكان الرفيق دوف حنين، قلت له لماذا عندنا يحبون الاخ العقيد وكثيرون اطلقوا اسم معمّر على ابنائهم.
  • هذا واجبكو قال،

لكن خطابه في كوريا بسلامته استغرق دقيقة واحدة:

  • "بقرأوا من الورقة، انا أخطب ارتجالي، عيب، مخصص للواحد سبع دقائق، انا استطيع ان اخطب سبع ساعات، وكما قال الاخ العقيد: طُز طز عا امريكا"،

هذا كل ما جاء في الخطاب، فكيف لا يوجعنا قلبنا على هذه المستويات.

في برلين هاجمني نوفل الجنابي لأني احمل جواز سفر اسرائيلي، فما كان من ليلى السومرية العراقية إلا ان هاولتْ عليه بصرمايتها وتقول: هذول لقضيتنا اشرف منك ومن امثالك، كانت جميلة جدا وبلباسها التقليدي الذي اضفى عليها المزيد من الحلا والجمال بصوتها الرائع الممزوج ببحة خفيفة محببة جدا، هؤلاء رفاق فهد والجواهري وقصيدته "دجلة الخير". اما اول من جرى عليهم الاعتداء سنة 1968 في مهرجان صوفيا فهم محمود درويش وسميح القاسم وبقية رفاق الوفد.

وللحديث تتمة: في كوبا التقيت مرة اخرى مع الجنابي وشخص آخر من البعث العراقي، سلّما علي بحرارة فقلت: هَه شو عدا مما بدا!!

فقال نوفل: صرنا نعقل شوية.

في جورجيا التي وصل اليها العرب وتحدثوا عن نهر "كورا" والملكة تمارا تحت اسم جورجان وجدنا الكثير من الكتابات العربية المحافَظ عليها، وظل تمثال ستالين قائما هناك وحوله باقات الورد حتى بعد ان عمل خروتشوف عملته وحملته المسعورة ضد ستالين، هناك سمعنا نكتة تقول: ان الرئيس الامريكي قال لخروتشوف: توصلنا الى اختراع إحياء الموتى، فقال الرئيس الروسي: عندنا توصلنا الى مسابقة ركض يقطع فيها الواحد مئة كيلومتر في الساعة، وعرف الرئيس السوفييتي انه تورط، فجمع المستشارين وسألهم كيف نخرج من هذه الورطة!! قال احدهم: الامر بسيط، قل لهم ان يعيدوا ستالين حيّا، عندها ستجد نفسك انت تركض بسرعة مئتين كيلومتر في الساعة.

كم كنت أود اللقاء مع الكاتب القيرغيزي جنكيز ايتماتوف مؤلف قصص: المعلم الاول، ارض الأم، جميلة، ووداعا يا غوليساري، لم انجح في لقائه هناك، بعد الانهيار حل ضيفا على ممثل مؤسسة رسمية في اسرائيل تابعة لوزارة المعارف والثقافة، وزار قرية المغار، ودعيتُ الى اللقاء معه فرفضتُ ولستُ نادما، فقد تنكر لأدبه الرائع بتصريحات ومواقف ووظائف رسمية جارحة جدا.

ونجحنا في اللقاء مع "رسول حَمْزاتوف" وابنته "باطمة" في سهرة ثقافية غنية ممتعة، وكتابه داغستان بلدي، بإهداء منه.

 

 

الصورة//زرنا جمهورية جورجيا بلد ستالين، مع معلمة الفلسفة، وأحببت مدينة تفليس وضواحيها

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب