news-details

جبال الريح: الجزء (2) الحلقة (14)

راجي الناصر – حنا – من الرامة، من اوائل الذين التقوا بسلطان الأطرش، وقد تكون الصورة المعلقة في بيته من اقدم الصور، وهو من محبيه الى درجة عُرف بها في القرى المجاورة، نُقل إليه ان احد الشباب من قريتنا – أمين – يحكي على سلطان، وهي مزحة، فما كان منه إلا ان سحب عليه البارودة.

حلّ احد الوزراء ضيفا على واحد من وجهاء قريتنا، زيارات عديدة يقوم بها الحكام، بعدد مواقع الارض التي صادروها، وعدد الضحايا والجرحى في حروب اسرائيل العدوانية، اصطف الناس للاستقبال وكانت المحوربة لسلطان الأطرش، كشَّر الوزير وبرطم، حتى جاء احد الاتباع الإمّعات وقاد المحوربة:

سلطان باشا يا زعيم

  ديّان يا حامي البلاد

فكيف لا نقول الله يسبل ستره على عبيده، وعبيد الدولة.

اما الحادي فراح يحدي:

صاح الطفل في لِسْرير

  أهلا وسهلا في الوزير

يا بارك الله على هلفَطْنِه، موهبة من الباري.

في حلقة الدبكة، واحد من ذوي هذه المواهب يغني بلقمطة حماسية، وصوت كالبعاق حتى يسمع من به صممُ:

شُفِت طيارة في السما تطيرِ

  فيها الرئيس افرايم كتسيرِ

الأطفال ينتظرون انتهاء الوليمة لمصمصة العظام، المخ، وما عليها من بقايا لحم وشحم وشمْرميق، لكن الوزير وربعُه لملموا العظام وأخذوها لكلابهم، بجِّل الرّفق بالحيوان.

أنا وزوجتي وهشام زرنا بيت الرفيق نمر مرقس – البرَكْس – وأمل مرقس الاكبر من هشام بنتفه تقول: هيْسَم، من مزْغرها وهي تغني بصوت متموج، نمر يضحك بسعادة ومحبة ويقول: إسمع بشَرفك متل عوالم مصر!! واليوم بمشوارها الغني وصوتها المونَّس بنسمات الربيع الجبلية، وأنفاس القمح في السهل، ونوّار الزيتون العمَري، وصداح القُبّر المرتعش في الجو، ونقاوة الثلج في المرجات، وحرارة القلوب العامرة بالحب والنضال نستعيد تلك الذكريات.

سيدي (...) في شبوبيته، كان يترك المعزى في الصيرة من راس المغرب، ويقطع الطريق الوعري والنقّار و"ينام" على قبر خطيبته ومحبوبته التي توفيت قبل العرس، يمشي من بلد لبلد، طلب من الأهل خصلة من شعرها، فقُدمت له، حُب نقي كالطفَل على النفَل، لو نعرف كل قصة حب من تلك الايام، كلها مرشومة ومرشوشة في مواقع الارض، على العيون ودروبها، في احواش المعزى والصيَر، في مغر الخيط وعيون العرب وعند جبّ الربيض، حول مواقد الخبز، ودرب الزتون والحقالي والبيادر، وعلى السطوح، 

ياما العليق غمرنا تنّقي كْبوش

                     عشجارِك تعرْبشنا تنطول عْشوش

عسطوحِك ياما فْرشْنا ونِلتم دْغوش

                        طير الليل يوَشوِشنا ويُنقل سْرار

في احد الكتب، خبأت خصلة شعر على شكل خاتم، وأخرى على شكل إسوارة مجدولة، أشمها وأعود بخيالي الى تلك الأيام البعيدة...، كنت قد نشرت عشرات عديدة من القصص القصيرة، الاديب اللبناني محمد دكروب مدح قصة "حميد أحمد وآخرون"، توفيق زياد قدّر قصة "بدَلا من الرغيف" سالم جبران كتب عن "خفق السنديان": ذات النكهة القروية المدهشة، جمال موسى في اجتماع موسع شبّه قصة "حتى لا يموت الطفل" بكتابة احد مشاهير الكتاب السوفييت من حيث الرد على الهزيمة، في البقيعة استحلى الرفاق وغير الرفاق قصة – ورقة نور الحمراء – فقدتها هي و"رسالة الى فيروز" وهي تقول: يا صوتي ظَلّك طاير، زوبع بهالضماير، خبّرهُن علّلي صايِر، بلكي بيوعى الضمير.

سلّمت مجموعة قصصية لدار نشر – عربِسْك، لكن اصدارها تعسّر لأكثر من سنتين، بعدها صدرت بعنوان "الأصيلة" كنت أحبذ عنوان "خفق السنديان"، لكن حنا ابرهيم كان قد أصدر مجموعة: أزهار برية، وخفق السنديان، كأننا نعيش في الوعور!!، وبالمناسبة اقول انه وُزع من مجموعة الاصيلة اكثر من اربع مئة نسخة في القرية مع ان طباعتها رديئة وكذلك الورق العتيق مع ملاحظة من سميح تقول: 

تعسّر صدور هذه المجموعة، ثم جاء التعتيم وقت الحرب، لكن قصص محمد نفاع تُقرأ حتى لو كُتبت على الخَيْش.

ومعذرة على هذه الكلمات التي قد تفوح منها الذاتية المقيتة، لذلك ومن اجل التوازن أستبق المشوار وأقول:

عندما أصدرتُ المجموعة الثانية بعنوان "ريح الشمال" زيّنت صورة الغلاف المورَّد فتاة فلسطينية تمتشق بندقية، لم يتحمس الرفاق في منطقة عكا لهذه الصورة مع بندقية، واعتقد اننا تأثرنا ببعض الروايات السوفييتية التي تتحدث عن جرائم النازية والنضال ضدها، لكن وبشكل متكلف جدا ومصطنَع يحشو بعض الكتاب جملا ومقاطع عن السلام والتسامح!! لا تسامح ولا مجاملات مع المجرمين، وكأن ما ينقص الشعب الفلسطيني هو الدعوة الى السلام تحت حراب الاحتلال والنكبة والاستيطان.

والأنكى من ذلك انني كثرت غلَبة ورحت أفتش عن معاني "ريح الشمال" وتبين ان احد المعاني كما جاء في لسان العرب لابن منظور، ويا للغرابة: عضو التذكير!! كُتبت بكلمة واحدة واقفة بمعنى الهواء باللغة الانجليزية!! قلتها لجمال موسى وراح يضحك بتواصل وتقطع ويقول: هيك غلاف وهيك صورة بدها هيك عنوان!! على وزن هيك مزْبَطه بدها هيك أمْضا. الرفيق الشاعر الرائع نايف سليم كان قد اصدر ديوان شعر يحمل نفس الاسم، لكن أية علاقة بين ريح الشمال، والهوا الشمالي المنعش وهذا المعنى!!

على دَلعونا وعلى دلعونا

  الهوا الشمالي غيّر اللونا

الهوا الشمالي غيّرلي حالي

  حبي جفاني مْبيرِح واليوما

الريح الشمالي يزوغِر بعنف وقوة من فوق الجبال وينعف اشوال القمح عن البيادر، ويُطير قصَف الشيح عن الخصاص في المقاثي والكروم، ويقبّ جوانح العنب وبيوت البطيخ.

والآن، ليس من الضروري تعيين الزمان والأيام لما اقول، ليس من المناسب الاشارة الى الماضي البعيد، او الحاضر، للهاتف فوائد جَمّة، بعد عناد طويل وملاحقة من جانبي لتلك الرافضة، صرنا نتهاتف، وأنا أمسّد الجبين الناعم الحي، والخدود القوية الطريقة الحنطية المعْطي على بياض رائق، وأقبل الشفاه، كله عبر الأثير، على الهاتف وفوائده الجمّة، طالت هذه المقدمة ونحلم باللقاء، حديث وكلام منعش يشرح القلب كالنسائم الـ... غربية الآتية من البحر والمتهادية فوق الجبال، المتغلغلة في الوعر بأنفاس شذية نقية ترد الروح، وتزحزح تلافيف هذا الزمن المجرم الناشف الكالح اللئيم، يتعزز الصمود والبقاء المعطاء، حتى تدور الدائرة على المعتدين الفاشيين مترامي الاطراف، ويكون مصيرهم مصير النازيين والفاشيين والعسكريين يشربون الدم حتى يختنقوا به، هي ليست تنبؤات، هو مصير محتّم ومحتوم، في كل بيت ثأر ويا محلَى سَداد الطّار – الثأر -، ويكون هذا عندما تعم العاميّة.

هذه السيرة واحات عذبة في قلب البوادي، ينهل منها ريم البوادي، حاجي نسمع شي بعوّي وشي بنوّي.

واحد في الزنزانة أشغل فكره بقياس الزنزانة الضيقة بأقدامه وشبره وفتره على الدوام، المهم ان يخرج عاقلا ليكمل المشوار، وآخر راح يستعرض ذكرياته الحية معهن، ويبني احلاما زاهية، حتى يتحرر سالما غير منقوص وغير مبلّد.

يا نافر البيض الصغار النهودي

                      من تحِت طيّ الناعم الطيلساني

وجْبين يشبه للهلال قْياسو

                           كل من نظرها بارك الرحماني

وِجهه مثِل بدر الدجى لا باني

                               في ليلة ارْبعطعش من نيسانِ

كيزان تين أبيض حلمهم خمري

                                والعنق ريم الفلا الجفْلاني

وَلو!! يا شبلي الأطرش: هل النهد فقط قد كوز التين لبياضي، كثير زْغير. يمكن في أول عمرها!! او اكواز التين في الغوطة وحوران مَلْو الكف!!

جون فوستر دالاس دَب حاله من كم طابق وكابوس الجيش الاحمر يدهمه في صحوه ومنامه.

عندما عمّت عامية الشعب الايطالي، شنقوا موسليني الهارب المتخفي بالمشقْلب، شنقوه بالقِلب.

الفوهرر عقد قرانه على صديقته إيفا براون، بعد يوم يومين ثلاثة، قتل كلبته المدللة، وانتحر، وانتحرت زوجته إيفا، تعم العاميّة من الجِنْجي للزنجي وما بينهما.

ويأبى الصديق إلا ان يسألني عن معنى اللمّة!! وأردّ، البركة في اللمة وكثر الأيادي، واللمة موضع من شَعر الرأس، في اللسان الأفغاني يسمون حركة النساء "لَمْلم حريم"، واللمة سمار خفيف في الشفتين تشبها باللّمام من فصيلة النعنع. رفض كل هذه المعاني وشرح ان اللمة هي القبلة، الذنْب الصغير، ورحنا نشرب كأس اللمة بكل معانيها، وقصفة لُمّام مغرقة في ابريق عصير الليمون.

ويقترب شهر تشرين بعد أيلول، وأيلول ذيله في الشتا مبلول، غبار ورياح، غيوم بعيدة متحفزة، وشمس حامية، طيور مهاجرة من الشمال الى القِبل، رفوف جماعية، والدلول او الدليل يسبق الحشد ويعود يراقب وينظّم الصفوف، وطيور السُّرّك بأصواتها التي تشبه السرسكة تحط على شجر الميْس العالي وتنقد الحب الصغير الاسود، هي والزرازير والزّاغ، يجندلها الصيادون على الطايِر، 

وفي الزرازير جُبن وهي طائرة

                           وفي البُزاة شموخ وهي تحتضر

هو الممات الذي يغيظ العِدا.

الزجال ابن البقيعة الجارة يغرد:

يا ريم الفَلا تمخْتري بهالقَدّ

  كإنه مِن حبال الشمس مِنْقَد

عصِدْرك صوّب العصفور منْقَد

  نقدْ نقْدِه قطف كرْزِه وهرب

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب