news-details

دكتاتوريو الطوائف.. إن جنّوا قريباً| هاني عانوتي

لا أدري إذا

كان عبد الرحمن الكواكبي بوصفه للمستبد يقصد الطبقة السياسية الحالية الحاكمة المستبدة بأمر الله وعبيده، سواء في لبنان أو في غيره من بلدان عالمنا العربي. لربما كان طلائعيا ذاك الرجل في استشراف واقع أحوالنا العربية وفشل من في الحكم في بناء دول قوية قادرة مؤمنة بالإنسان، لا بل امعانهم في تشييد أنظمة دكتاتورية قاهرة وذاتية التدمير للكيان والانسان، حتى اصبحنا نعيش في ما يشبه “العصفورية العربية الكبرى”.

للأسف لم تُبنَ اوطاننا العربية وفق مفهوم الوطن والمواطنة والعقد الاجتماعي العادل. ما بُني كان عبارة عن انظمة دكتاتورية هشة. انظمة مبنية على ثالوث الجيش والحزب والقائد. وهي تُعتبر في علم السياسة من اسوأ أنواع الأنظمة الدكتاتورية وأكثرها رُعباً وبطشاً. وفق هذا النموذج، لا يرى الحاكم سوى نفسه عندما ينظر الى الدولة ومؤسساتها وشعبها. هو يختصر الدولة بشخصه والعسكر ببطشه والحزب بسياسته. ولا يكترث سوى لبقائه في الحكم حتى ولو أصبح البلد زنزانة كبيرة تتسع لكل الناس.

ولكن في حالتنا اللبنانية الشاذة، الدكتاتورية والقمعية والاستبداد لا تأتي ابداً من الدولة ونظام الحكم، على العكس. ففي علم السياسة لا يزال لبنان يُصنف كدولة نصف ديموقراطية، لديه حيز كبير من الحرية في الثقافة والصحافة والفن والسياسة والاقتصاد والتعليم قد تصل احياناً الى حد اللعنة، مما جعله مختلفاً عن محيطه ويشكل خطراً على العديد من الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة. ففي الماضي، كانت المنطقة العربية التي تجمعها أنظمة دكتاتورية من المحيط إلى الخليج، بحاجة الى متنفس ما، وكان لبنان هذا المسرح الخلفي الكبير للعديد من هذه الدول كسوريا والعراق وليبيا ومصر، وفلسطين، ودول الخليج وغيرها. ولكن في لحظة ما، اتخذ القرار بالقضاء على المتنفس فكان ما كان في العام ١٩٧٥.

والمؤسف والغريب، انه على عكس الدول العربية، لا تأتي الدكتاتورية او الممارسة القمعية في لبنان من الدولة ومؤسساتها. الاستبداد والدكتاتورية يأتيان من اركان المنظومة الحاكمة. من زعماء الاحزاب والطوائف والميليشيات كلٌ حسب مونته على رعيته. هؤلاء يسيطرون بقوة الخدمات والمال والسلاح والزعران على المشهد السياسي، والأمني، والاقتصادي، والاجتماعي. هؤلاء استطاعوا ان يعززوا سلطتهم القمعية الابوية والدفع نحو تأليههم وتبجيلهم. هؤلاء يمكن ان نُطلق عليهم لقب “دكتاتوريو الطوائف”.

هؤلاء اعتادوا الكذب تحت شعار “العيش المشترك”. العيش المشترك كذبة صاغها المستبد وأقنع رعيته بها. انها بكل بساطة العيش المشترك في ما بينهم. إن اختلفوا تحاربوا. إن تصالحوا سرقوا وعاثوا في الارض فساداً. حتى أصبحنا كلنا تحت رحمتهم ورهن استبدادهم، والدولة في خبر كان

غريبة هذه الازدواجية اللبنانية. على الصعيد الوطني، وحيث الهوية الوطنية اللبنانية ضعيفة او حتى غير موجودة، هم أحرار. اما على الصعيد الطوائفي، حيث الهوية الطائفية الحزبية قوية وراسخة، هم أسرى ومستعبدون لمصلحة مستبدٍ قمعي عنجهي متكبر لا يترك لهم أية هوامش. مستبد لا يكترث لاحد من أبناء رعيته. واغرب ما في تلك المعادلة أن كل دكتاتور هو حاكم بأمره على طائفته ومجموعته وجماعته.

فالمستبد الطائفي الحزبي، بطبيعته قمعي اناني وعصي عن الخطأ. هو مقدس ومؤله. لا يكترث لمجموعته بقدر ما يكترث لنفسه. يلجأ اليهم للحماية متى يشاء. يقمعهم الى حد الاستعباد متى يشاء. يعلم مدى سيطرته عليهم. يعلم جيداً مدى خوفهم منه. هو على يقين انهم لا يمكن ان يكونوا لولا وجوده واستبداده وعطفه عليهم. اليس هذا من افلام الخيال؟

من ينظر الى لبنان ونظامه السياسي الحر لا يمكن الا ان يرى ديمقراطية هشة. ولكن إذا دخلنا في عمق كل مكون نرى دكتاتورية مخيفة، تكاد تكون ابشع من بعض الدكتاتوريات المجاورة. بعض الاحزاب لديها سجونها، والبعض الآخر يستعمل الترهيب الجسدي والمعنوي ضد معارضيه. هناك من قُتل ومن اغتيل ومن اختفى ومن خُطف، فقط لان رأيهم مغاير لأكباش الطوائف، وكلما زاد الحاكم بأمر الرعية بطشاً واستبداداً كلما زاد ولاء الرعية له. وما الانتخابات النيابية الا الدليل الطازج على الولاء الاعمى من قبل جمهور الاحزاب. وإلا ماذا يُفسر أن يُعاد انتخاب مَن أفقر الناس وأذلهم وجوّعهم وجعلهم عرضة للموت البطيء؟ اين المنطق في ان ينتخب الناس مجدداً من حرمهم من ادنى حقوقهم وسرق ودائعهم وجنى عمرهم والاسئلة كثيرة؟

هؤلاء يجتمعون فيما بينهم حماية لأنفسهم ومنظومتهم التي يتحكمون فيها. هكذا خاضوا الانتخابات بتخادمهم المتبادل. بشد عصب هذا مقابل شد عصب ذاك. لعبة الأواني المستطرقة. هؤلاء اعتادوا الكذب تحت شعار “العيش المشترك”. العيش المشترك كذبة صاغها المستبد واقنع رعيته بها. انها بكل بساطة العيش المشترك في ما بينهم. إن اختلفوا تحاربوا. إن تصالحوا سرقوا وعاثوا في الارض فساداً. حتى أصبحنا كلنا تحت رحمتهم ورهن استبدادهم، والدولة في خبر كان. دولة ضعيفة محكومة من هؤلاء لا تقدر سوى على البعض الذين لا حول ولا قوة لهم سوى الرضوخ لبطش احزاب النظام الحاكم وضعف الدولة وقمع المستبدين.

ان أكثر ما يخيفنا اليوم هو احتمال فقدانهم السيطرة على جمهورهم في لحظة ما لا بد آتية. في السابق، اهتزت عروشهم ولم يسقطوا. في المرات المقبلة، ستهتز عروشهم وسنشهد زمن جنونهم. هذا هو حال كل من ينتمي إلى المدرسة الدكتاتورية!

*أستاذ جامعي لبناني. موقع 180

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب