news-details

رضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ

المطاف الأول: قرية البروة

أخو العرب 

 

اهتديت إلى شجرة الكينا التي قال لي والدي عنها؛ ولم يكن من الصعب الاهتداءُ إليها؛ فقد كان حضورها بارزًا، هي والصخرة التي تلامس جذعها، بين هذا الحشد من أشجار الزيتون التي غطت كل مِساحة أرض "المجاوبة" في قرية البروة.

-" خُذ وُجهتك ناحية الغرب، وعُدَّ عشر خُطوات فإذا بك تقف أمام زيتونة مُعمَّرة قديمة كنا نسميها زيتونة مار الياس، حباتها ناصحات طيبات نَقِّبلَكْ عنها سطل زيتون حتى نذوق خير السنة!".

ذُهِلتُ وقلت في نفسي:"يا ألله إنه يعرف أبعاد الأرض بالخطوات؛ حتى أن الأشجار لها أسماء."  لا غرابة في ذلك فهي بعضٌ من كينونته وذاته.

فرحت بالاهتداء إليها؛ واستبشرت خيرًا بالزيتون اللذيذ الذي سأقطفه عنها. كان الطقس ملائمًا؛ فشمس تشرين كانت حرارتها معتدلة، لأن الغيوم كانت تحجبها أحيانًا. فرشت قطعة قماش تحت الزيتونة وعيناي تجولان عليها باحثتين عن الجهة التي سأنتقي منها حبات الزيتون. شعور بالفرح ملأ كياني، فها أنا سأقطف زيتونًا عن زيتوناتنا في قريتي البروة؛ وهذا ليس كما كان يحدث عندما كنت أَذهب، وأنا صبيٌّ، مع أناس لأساعدهم في جمع زيتونهم في محطات اللجوء التي تنقلنا بينها بعد النكبة، وتركِنا القريةَ مُهجَّرين إلى لا مكان لتبتلعنا بلاد الله ! كان واضحًا انعكاس هذا الجو المفرح على أولادي؛ إذ أنهم راحوا يتقافزون ويمرحون حول أمهم التي افترشت لها بساطًا على الأرض. والكل منا كان بترقب شديد متى ستبدأ حبات الزيتون بالتساقط على قطعة القماش التي افترشتها تحت الزيتونة..

وما إن مددت يديّ إلى غصن الزيتون الذي اخترت حبات الزيتون التي عليه، وإذ برجل على فرس بيده كرباج، عاقد الحاجبين والشرر يتطاير من عينيه الحمراوين؛ شارباه "يقف النسر عليهما"؛ والكرباج يهتز في يده بعصبية جاهزًا للتحرك في كل الاتجاهات. خِلته أحد فرسان "داحس والغبراء" أو "حرب البسوس" أو أيِّ واحدٍ من تلك التي يسمونها "أيام العرب" التي كانت ولا زالت تُطِلُّ علينا وتعشش في عقولنا؛ فتوقظ جاهليتنا، وتُفرِّقنا وتبددنا.

توقف أولادي عن التقافز والمرح؛ والتموا حول أمهم صامتين؛ وارتخت يدايَ عن غصن الزيتون. كانت كل النظرات متعلقة بهذا "الفارس" الذي انشقت عنه الأرض فجأة؛ وكانت لحظات من الترقب المقلق لمعرفة غرضه وسبب وجوده. لم تَطُلْ لحظات الترقب تلك؛ فقد سأل بنبرة صوت فيها كل الاستغراب والاستنكار لوجودنا هناك؛وفيها ما يكفي من الوضوح في رغبته في طردنا.

-- "ممنوع"

-- "وما هو الممنوع؟"

-- "ممنوع أن تقترب من هذا الزيتون؛ أو أن تأخذ شيئًا عنه!"

-- "من أنت؟ وبأي حق تمنعني!"

-- "أنا "المخضر" أحافظ على الزيتون؛ وأمنع عنه السرقة؛ هكذا طلب مني الذين ضَمِنوه."

-- "ومن ضَمَّنَهُ؟"

-- "أصحابُه"

-- "ولكن أنا صاحب هذا الزيتون يا رجل! ومن ضَمِنَهُ؟"

-- "لا دخل لك في ذلك! هيا ارحل من هنا الآن وبسرعة!"

وكنت قد عرفت أثناء هذا الحوار أنه بدويٌّ، وأنّ اسمه حاتم؛ فأردتُ أن أكسب وُدَّهُ ليتعاطف معنا؛ فقلتُ:

--"يا أخا العرب! إسمك على اسم حاتم طيّ المعروف بكرمه؛ ألم تسمع عنه؟! دعنا يا رجل نقطف قليلًا من الزيتون!".

--" بَلا حاتم طيّ، بَلا أخو العرب، بلا بطيخ، إنت تغوطر (تقوطر؛ من كلمة قطار؛ يعني تذهب بسرعة) من هِينْ هَالحينْ! أوِ نْخَلِّي الشرطة تيجي!". واهتز الكرباج بيده. نظرت إلى زوجتي، وإلى أولادي، وإلى الكرباج بيده؛ وتخيلت قدوم الشرطة؛ فما كان منا والحالة هذه إلّا أن غادرنا المكان تاركين عُدَّةَ جمع الزيتون وراءنا شاهدة على خيبتنا وعودتنا خاويي الوِفاض؛ فقلت في نفسي: "السلامة غنيمة"؛ واكتفيت بعودتنا سالمين؛ ولكني رحت أبحث عن مكاني أنا نفسي في هذه المعادلة البائسة، والمستعصية على الإدراك، كما جاء على لسان "المخضر": "أصحاب الزيتون ضَمَّنوه! ولكن ألست أنا صاحب الزيتون، ولم أُضَمِنْهُ!".

وبحثت عن حلٍّ لهذه المعادلة؛ فتذكرت أن "عباقرةً " قد أوجدوا لها حلًا؛ فيه من التناقض ما يجعل الحل َّ نفسَه يتطلب حلًّا؛ فهو أغربُ وأبأسُ من المعادلة نفسِها؛ وهو أني: حاضرٌ غائبٌ. 

فلعنْتُ الذي ضمّن والذي ضمِن وأشفقتُ على المُضمًّنِ وعلى نفسي.



 

المطاف الثاني –عكا

"قَبَّة القميص تنقذ صاحبها  "

 

 -من لهجتكما يظهر أنكما لستما من عكا، وكنت قد طلبت أن أشتريَ منه اثنتين من القطائف.

- نعم نحن لسنا من عكا! ولكن لماذا أيُّها العَمُّ؟!

-  نصيحتي لكما أن تغادرا عكا الآنَ؛ لأنَّ أمرًا خطيرًا في طريقه إلى الحدوث في عكا، فالجوُّ مُكَهرَبٌ.

كان رجلًا متقدمًا في السِّنِّ؛ الطِّيبة والطَّويَّةُ الحسنة باديتان على وجهه؛ والنظافة تَشِعُّ من كل شيء فيه: من وجهه الأبيض، ومن ملابسه بَدءًا من طاقيته البيضاء المُثَقَّبَة التي كان يعتمرها، وجلبابه الرماديّ، وزناره بقماشه الأبيض، والمنشفة المتدلية من الزنار على جانبه؛ وانتهاءً ببضاعته التي كان يبيعها :قطائف مرصوفة بجانب بعضها، الواحدة منها تسند الأخرى بتناسق جميل، على صينية واسعة، موضوعة على منصة خشبية لها ثلاث أرجلٍ؛ تُكَوِّنُ شكلًا هرميًّا مع قمتها الدائرية كان يقف أمام الدرجات التي توصل صعودًا إلى سينما "البستان"  في سور عكا.

عندما نصحنا أن نغادر عكا وبسرعة، تأكدتُ من الشكوك التي ساورتني بالنسبة للتوقيت الذي اخترته لهذه المناسبة التي خطَّطْت ُ؛ فقد كان ذلك في بداية السنة الدراسية، في أواخر شهر أيلول من سنة 1961. وبحكم عملي مُدرسًا في قرية يركا، فقد كنت أُسافرُ إلى عكا مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع؛ كي أُراجعَ ما طُبِعَ من مسرحيَّة "وريث الجزار" للمرحوم الكاتب سليم خوري (أخي)، الذي كان يُدرِّس في قرية كفرسميع؛ فيتعذر عليه لذلك القدوم إلى عكا لهذا الغرض؛ وكان قد كَلَّفَ بطباعتها مطبعة "الزيبق" لصاحبها المرحوم أبو منتصر، إبراهيم الزيبق؛ وكانت بنايتها موجودة في آخر السّوق. وقد كانت لي متعةٌ لا توصف بهذا السفر إلى عكا وقطع السوق ذهابًا وإيابًا، والتعرف على المطبعة وصاحبها، وعلى عملية صفِّ الأحرف والطباعة؛ فرغبت بأن يشاركني بها نمر نجار، ابن عمَّتي، وكانت مشقة كبيرة لي في إقناع عمتي بالموافقة على السَّماح له بمرافقتي في مشواري هذا؛ فقد كانت تخاف عليه من كل طارئٍ مُحتَمَلٍ؛ وبَعدَ "دخيلَك يا عمتي مٍنْ شانْ ألله دير بالك عليه؛ والله فوق في السماء ونمر تحت على الأرض، و...."  وبعد أن أقنعتُها بأن لا تقلق وكل هدفي أن يستمتع معي بهذا المشوار ويتعرف على أشياءأخرى في الدنيا، غير المدرسة والبيت (وكان قد أنهى الصف الثاني عشر حديثً)، وافقت و "يدها على قلبها ".

أخذ القلق يتسرب إلى نفسي ونحن في طريقنا مسافرَين إلى عكا؛ فقد كانت الجماهير العربية في مختلف البلدات العربية في حالة الغَلَيانِ من الغضب والاحتجاج على مقتل الشباب العرب الخمسة (ثلاثة من حيفا، وواحد من سخنين، وواحد من أم الفحم) في 17\9\1961؛ عُبِّر عن ذلك الغضب والاحتجاج بالمظاهرات الصاخبة والإضرابات، والمطالبة بإقامة لجنة للتحقيق في حيثيات وأسباب مقتلهم. لذلك فإنَّ نصيحة بائع القطائف بأن نغادر عكا لخطورة الأحداث جعلت الخوف والقلق يتسارعان في داخلي؛ ظهر ذلك في مغادرتنا للمكان، راكضَيْنِ لنخرج من بوابة عكا الشرقيَّةِ مُتَّجِهَيْنِ إلى محطة الباص؛ مُتَنازِلَيْنِ عن كل ِّبرامجنا.

صعودنا إلى الحافلة تزامن مع وصول طلائع لمجموعة من البشر قادمين من الشرق مُتَّجِهين إلى داخل عكا؛ فهمنا بعد ذلك أنهم كانوا من العناصر والقوى المضادّة والرّافضة التي كانت تنوي قَمْعَ ما كان يُنَظَّم في عكا من مظاهرات واحتجاجات على مقتل الشباب العرب الخمسة. 

كان نمر آخِرَ مَنْ صعد إلى الحافلة بعدي؛ ولذلك فإنَّ واحدًا من هؤلاء الذين كانوا في حالةِ هياجٍ لا يوصف استطاع أن يمسك بقبة قميص نمر، بينما أنا أمسكت به من خاصرتيه؛ وأخذ هو يَشُدُّ وأنا أشدُّ؛ كلٌّ منا يُحاول جذبَ نمر إلى ناحيته؛ في تلك اللحظة أتتني قوَّةٌ وعزيمةٌ لم أعهدهما من نفسي من قبلُ؛ فقد أطلَّ وجه عمَّتي أمامي أثناءَ معركة الشَّدِّ هذهِ: "من شان ألله يا عمتي! دير بالك عليه"؛ هو يشدُّ وأنا أشدُّ، فتمزَّقَتْ القبَّةُ وانفصلت عن القميص؛ وبفعلِ ردِّ الفعلِ الارتِداديِّ إلى الخلف، سقط الرجلُ على الأرضِ، وفي يده قبَّة القميص؛ ولكنْ ليس قبل َأن يُسَدِّدَ بقبضته ضربةً قوية إلى صُدْغِ نمر؛ فأقفل السائق باب الحافلة؛ وتحت وابِلٍ من الشتم والضرب على جدار الحافلة شقَّ السائق طريقه مبتعدًا عن المكان. ولأنَّ "شرَّ المصائب ما يُضحك" فقد نظرتُ إلى نمر بقميصه المنزوع القبَّة، وهو يتحسَّسُ أَثَرَ الضربة على صُدغِهِ، فابتسمتُ لأنَّهُ هو نفسَه كان سالمًا؛ ولأنَّني سأقول لعمتي: "السَّلامة غنيمة؛ والمال فدا العيال ."

وبعد كُلٍّ من هذين المطافين، وما آلتْ إليه أحداثُهما، وجدْتُني أُرَدِّدَ معَ امْرِئِ القَيس 

وقد طوَّفتُ في الآفاق، حتى          رَضيتُ، منَ الغنيمة بِالإيابِ

(حيفا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب