news-details

سباعيّة السّنين الرّتيبة | محمّد علي طه

 

-1-

كان الرّجل السّتّينيّ يسير في صباح كلّ يوم من شاطئ أبو نصّور الذي صار اسمه "الشاطئ الهادئ" إلى "تلّ السّمك" بين الأشجار الخضراء وأزهار القرنفل والخبّيزة والورد الجوريّ ويسمع تغريد العنادل والشّحارير وسقسقة العصافير وكلّما التقى امرأة تسير على الرّصيف مرتدية ملابسها الرّياضيّة وتسلّل عطرها إلى أنفه غبط الرجل الذي شمّه في فراشها وسأل الله تعالى أن يحفظ له حواسّ الشمّ والنّظر والسّمع كي يستمرّ في حبّ الحياة. 

-2-

جلس الرّجل السّتّينيّ وحيدًا على مقعد خشبيّ في حديقة المدينة يراقب الرّجال والنّساء والشّبّان والصّبايا.

شاهد الرّجل السّتّينيّ صبيّة سمراء ترتدي بنطلونًا ضيّقًا وينطّ الشّباب من صدرها ويتدفّق الرّبيع من جسدها. كانت الصبيّة قادمة من هناك، وعبرت أمامه مثل المهرة. 

تذكّر أيّام زمان، ولعن أم مرض السّكريّ الذي حرمه من ثمرةالتّين الّتي يحبّها. 

-3-

في شهر شباط، في يوم عيد الشّجرة، كانا يقفان في "مفرق البير" ينتظران سيّارة ما.

كان العشب الأخضر يغطّي رصيفي الشّارع، وكان دوريّان يكرجان في ساحة البير، فرحين سعيدين، ويتغازلان. 

طلعت غيمة من الأفق الغربيّ وزحفت على مهل في السّماء الزّرقاء. 

حدّق ممدوح في وجهها الأبيض وفي حور عينيها والشعر الأسود المنسدل على الكتفين، يراقص النّسيم فأغرته الطّبيعة أن يحتضنها فتخلّصت منه مثل مهرة شموس قائلة: استحِ نحنُ في الشّارع.

تذكّر الرّجل السّتّينيّ بعد خمسين عامًا أن يشكر الغيمة التي أمطرت فهربا واحتميا في كوخ فلّاح بجوار مفرق البير.

يا بير.. يا بير. عندك للسّرّ مطرح!


-4-

كلّما شاهد الرّجل السّتّينيّ إنسانّا يرمي كسرة خبز في حاوية نفايات على الرّصيف اقشعرّ بدنه وتذكّر طفولته وقوافل اللاجئين والمخيّمات وأيّام القلّة وهمّ بأن يتناولها من الحاوية ويقبّلها ويضعها على جبينه الحنطيّ.

-5-

تناول الرّجل السّتّينيّ "لقمة طيّبة" وجلس على الكرسيّ فأخذته سنة من النّوم فرأى فلّاحة سمراء من ذرّيّة عنات تضعه على التّراب.. ويبكي.

تناولت الفلّاحة أفنان الميرميّة الخضراء وغطّته بها وكانت نجمة الغرّارمرضعته.

-6-

غزا الوباء البلاد فأوصى الرّجل السّتّينيّ أن يكتبوا على شاهد قبره: "كان يحبّ الحياة والوطن والنّاس" ثمّ أضاف: اذا كان هناك متّسعٌ فلا بأس أن تضيفوا "وكان يكره التّخلف والكذب والحقد" وبعد لحظة قصيرة جدًّا أضاف: ارجوكم أن تحذفوا كلمة "الحقد" وتكتبوا كلمة "الحسد" ثمّ أضاف : اسف اكتبوا "عدم الوفاء".

وعندما شاهد التّوابيت الإيطاليّة قال: إنّها طويلة. طويلة.

-7-

نظر الرّجل السّتّينيّ إلى زوجته السّتّينيّة الّتي تجلس بجواره على مقعد في متنزّه الشّاطئ في ساعة الأصيل فوجدها تتثاءب والكرى يداعب أجفانها المتعبة فتركها وراح يحدّق بالبحر وبالنّوارس التي تحوم فوق الأمواج إلى أن سمع قهقهة نسائيّة فالتفت إلى مصدر الصّوت فشاهد شابًّا يتأبّط خاصرة صبيّة ويسيران ويضحكان ثمّ يقفان على بعد خطوتين منه ويقبّلها بنهم وتقبّله بحرارة، فغضّ طرفه كأنّ أحد معارفه ضبطه متلّبسًا، والتفت إلى عجوزه فوجدها تغطّ في نوم عميق وعلى وجهها الأسمر ابتسامة حلم جميل.


 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب