news-details

سقوط الرّأسماليّة الأخلاقيّ 

*الأغنياء يأكلون الحصرم والفقراء يضرسون* 

//

     لسنا بحاجة إلى أدلّة على انحلال الرّأسماليّة الأخلاقيّ، فما ارتكبته من جرائم، ومن حروب، مذ صعودها على رقاب المجتمعات البشريّة، وحتّى اليوم يقنع الحجر بوحشيّتها في سبيل الرّبح، وما ترديدها للشّعارات الطّنّانة الرّنّانة، عن حقوق الإنسان، والدّيمقراطيّة، وحرّيّة التّعبير...  سوى ذرّ للرّماد في العيون. 

     ودعونا لا نعود إلى الوراء، في الزّمن، لئلّا نكرّر أنفسنا في الاستشهاد بأمثلة جرى تداولها بكثرة، ولئلّا يشغلنا الماضي عن الحاضر الذي يعجّ بالأمثلة الحيّة، النّازفة والمستغيثة. لذلك تعالوا نلتفت إلى ما يحيطنا من جرائم الرّأسماليّة، وإن اختلفت الأنظمة بشخوصها ومسمياتها، إلّا أنّ جوهرها الرّأسماليّ الإجراميّ واحد أحد.

     نبدأ بعظام الرّقبة، بأهلنا في غزّة المحاصرة للعام الرّابع عشر، من جميع الجهات، برًّا وجوًّا وبحرًا. أكثر من مليوني إنسان محاصرون، على مساحة لا تتعدّى 360 كيلو متر مربّع، تتقلّص الأرض تحت أقدام الفرد فيها، حتّى أنّه لو بنينا على مجمل الأرض الغزّيّة بناء واحدًا، لم يحظ فيها الفرد إلّا بأقلّ من غرفة صغيرة، لا يتعدّى طول جدارها خمسة أمتار، فماذا مع مرافق الحياة الضّروريّة، والملحقة بالأبنية، من شوارع، ومواقف سيّارات، وملاعب، وساحات عامّة، ومدارس، وروضات أطفال، ومراكز ثقافيّة...؟! هذا السّجن الكبير المتعطّش لشروط الحياة الأوّليّة، المحروم من الهواء النّقيّ، والمياه الصّالحة للشّرب، أصبحت فيه الحريّة، وشعارات الرّأسماليّة المتعدّدة، ترفًا استغنت عنه أحلام الجائع والعطشان والمريض والمـُعطّل عن العمل... 

     وفوق هذه المعاناة المتفاقمة، ساعة بعد ساعة، تكشف لنا حركة "حماس" يوم الثّلاثاء 31/3/2020 في مؤتمر صحفيّ، أسماء الضّباط الذين يعملون على المعابر بين غزّة وإسرائيل، الذين يضغطون على المرضى، الذين يطلبون العلاج في مستشفيات إسرائيل، كي يتعاملوا مع سلطة الحرب والاحتلال والحصار، كشرط للخروج.

     أين جمعيّات حقوق الإنسان، على مختلف مسمّياتها، التي أسّستها الرّأسماليّة كأجهزة رقابة غير رسميّة على أنظمتها؟! أهي لا ترى أكبر سجن في العالم؟! أم هي تشارك في الحصار على غزّة بصمتها؟! وإذا غضّت هذه الجمعيّات الطّرف عن جرائم هذه الأنظمة بحق الإنسانيّة، فمن يراقب المجرم، ويكشف جرائمه للعالم، كي لا يصبح "حاميها حراميها"؟! أربعة عشر عامًا تغفل هذه المنظّمات جريمة حصار غزّة، حتّى في زمن "الكورونا"، وهي تؤكّد أنّ هذه المنظّمات مجرّد أدوات في يدّ المجرم، وهذا بعض من السّقوط الأخلاقيّ للرّأسماليّة. 

 

***

                                      بلاد العرب أوطاني    من الشّامِ لبغدانِ

                                      ومن نجدٍ إلى يمنٍ       إلى مصرَ فتَطوانِ 

لقد استطاعت الرّأسماليّة المجرمة أن تفتّت بنيان الوحدة العربيّة، هذا المشروع الذي أسّس له الزّعيم الخالد، جمال عبد النّاصر، حتّى أنّنا رأيناه يتحقّق على أرض الوطن العربيّ. لقد استطاعوا هدم هذا البنيان في الواقع، فانظروا إلى الأحوال المحزنة التي ورّطوا فيها الدّول العربية، من العراق إلى ليبيا ... لتروا أنّ نواة الدّول التي من الممكن أن تبني الوحدة العربيّة قد تحطّمت. لقد هدموا البنيان على الأرض، لكنهم لم يهدموا الفكرة، ولن يستطيعوا ذلك؛ بناء عليه سنلتفت إلى اليمن لنسجّل جريمة أخرى يرتكبها النّظام في السّعوديّة بمشاركة أمريكيّة وإسرائيليّة وإماراتيّة وسودانيّة. خمس سنوات من الجرائم المتواصلة بحقّ الشّعب اليمنيّ، أمام أنظار العالم كله، بما فيها منظّمات حقوق الإنسان، ولا تحرّك بالأفق ينهي هذه الحرب؟! إذا لم يكن هذا هو السّقوط الأخلاقيّ، فما هو السّقوط، إذن؟! 

     لنوسّع دائرة الرّؤية لنصل إلى إيران المحاصرة أمريكيًّا، التي تطلب فكّ الحصار عنها لمواجهة وباء "الكورونا" الذي يجتاحها، فكيف تردّ زعيمة العالم الحرّ، سوى بتشديد الحصار، وإزاء هذا السّقوط كيف تردّ إيران؟ إيران ترسل مساعدات إلى أمريكا لمواجهة الوباء، أجهزة كشف عن المرض، فماذا بقي من الأخلاق الرّأسماليّة الغربيّة، أمام هذا الموقف الإنسانيّ؟! 

     فنزويلّا تطلب قرضًا من "صندوق النّقد الدّوليّ" لمواجهة وباء "الكورونا" فيرفض الصّندوق الطّلب، والصّندوق هو إحدى أدوات الرأسماليّة في العالم، هو أداة اقتصاديّة سياسيّة تستغل من خلاله الدّول، وهو يزيد من أرباحه على حساب جوع الشّعوب، وحين يتّخذ الصّندوق هذا القرار، أفلا تسقط الرّأسماليّة أخلاقيًّا مرّة أخرى؟!  

     أمّا إيطاليا حليفة "الولايات المتّحدة الأمريكيّة"، والشّريكة في "الإتّحاد الأوروبيّ"، وفي حلف "النّاتو"، فلا تجد لها معينًا، سوى روسيا والصّين وكوبا، فيثبت لكلّ من يفكّر موضوعيًّا زيف شعارات الرّأسماليّة الدّعائيّة الفارغة، فليس لها صديق وفيّ ثابت سوى الرّبح، وكلّ المجتمعات البشريّة بالنّسبة لها، سوق مفتوح، متحلّل من أيّ ضوابط، في سبيل تحقيق المزيد من الأرباح. ويثبت أيضًا أنّ هناك أنظمة أخرى تغلّب الرّوح الإنسانيّة، على طابع الرّبح الذي طُبِع عليه النّظام الرّأسماليّ، تمثّله هذه الدّول، وعلى رأسها كوبا بكلّ إنسانيّتها، وأمميّتها، وشيوعيّتها، ورغم إمكانيّاتها الاقتصاديّة المتواضعة. 

     

إنّ مراقبة الأحداث الجارية في العالم، تجعلنا نتيقّن أنّ انتشار وباء "الكورونا" يمكن منعه، وفي أبسط تقدير، الحدّ من انتشاره، فما فعلته الصّين، تستطيع أن تفعله دول أخرى، بتبادل الخبرات، وتقديم المساعدات، وتخصيص الميزانيّات المطلوبة لهذه المهمّة الإنسانيّة؛ فما معنى أن يموت المسنّون في إيطاليا وإسبانيا بالمئات يوميًّا، نتيجة نقص في أجهزة التّنفّس الاصطناعيّ، والعالم يتفرّج؟! أليس توفير هذه الأجهزة ينقذ حياة النّاس، فكيف تجد الدول المال الكافي لشراء الأسلحة، وتعجز عن شراء الأجهزة الطّبّيّة؟! إنّ سعر طائرة واحدة من نوع "F 35" يصل إلى 400 مليون دولار، وتستطيع الدّولة أن تشتري بهذا المبلغ، في أقلّ تعديل، أكثر من 80 ألف جهاز للتنفّس، فأين المعيار الأخلاقيّ في الحكم الذي يرفع قيمة السّلاح على قيمة أرواح النّاس، أيّتها الرّأسماليّة الأخلاقيّة، جدًا؟! 

 

 ***

    أمّا في إسرائيل، فما يجري يثير الكثير من الأسئلة، ويقوّض كلّ ادّعاءات هذا النّظام بديمقراطيّته المزعومة، ويؤكّد عنصريّته، حيث ينصبّ الجهد الأكبر على مكافحة وباء "الكورونا" في الوسط اليهوديّ، رغم المطالب المحقّة التي يطالب بها ممثلو الجمهور العربيّ، بالاهتمام بالوسط العربيّ كما يجري بالوسط اليهوديّ، من مراكز الفحص، إلى مراكز الحجر ...؛ فأين المعيار الأخلاقيّ أيّتها السّلطة العنصريّة، التي ترسل إنذارات هدم البيوت في الوقت الذي تحاول العرب أن تقي نفسها من وباء "الكورونا"، فيتّضح لها أنّ وباء "الكورونا" يمكن الفرار منه، لكن وباء العنصريّة كالقدر المستعجل، لا فرار منه؟! 

     إنّ التّفريط بأرواح البشر في الأنظمة الرّأسماليّة، من أجل العامل الاقتصاديّ يثير الشّكوك والأسئلة، بل يعزّز الرّأي أنّ هذه الأنظمة توفّر الشّروط للرّأسمال الذي يحرّك هذه الأنظمة لإدارة الأزمة، من أجل الاستفادة القصوى من انتشار الوباء؛ فإذا سألنا أنفسنا من المستفيد من هذا الموت الجماعيّ لكبار السّنّ، بالأساس، وليس فقط كبار السّنّ؟ من يستفيد من موت عشرات ألوف النّاس، بل مئات ألوف النّاس، وجلّهم من كبار السّنّ؟ 

     هل تستفيد شركات التّأمين العالميّة من هذا الموت؟ هل تستفيد البنوك منه؟ هل تستفيد الدّولة نفسها التي تقدّم خدماتها لهذه الشّريحة؟ هل تستفيد شركات الأدويّة، وشركات صناعة الأجهزة والمعدّات والأدوات الطّبيّة؟ ونستطيع أن نعدّ جهات أخرى؛ ولكن يمكن أن يواجهنا أحد بالسّؤال: من يفرّط بأرواح مئات الآلاف في العالم من أجل الرّبح؟ ونجيب بكلّ يقين، بناء على تجارب الماضي والحاضر، أنّ الرّأسماليّة لا تتورّع عن هذه الجرائم في سبيل الرّبح، فالغاية عندها تبرّر الوسيلة، وما الحربان العالميّتان: الأولى والثانية، والحروب التي تفتعلها وتذكّيها الرأسماليّة في مختلف بقاع الأرض، وبأقنعة متعدّدة، ولمنطقتنا نصيب الأسد منها، إلّا دليل على إجرام هذا النّظام الرّأسماليّ، الذي يلبس ثوب الحمل فوق جسد الذّئب، هذا الذّئب الذي يتغذّى على أرواح البشر ويملأ خزينته بالمزيد من المال. 

     تشير تقديرات الخبراء الاقتصاديّين في العالم، إلى أنّنا ذاهبون إلى أزمة اقتصاديّة، أعمق من الأزمة الكبيرة التي هزّت العالم الرّأسماليّ، عام 2008، بسبب نتائج مواجهة دول العالم لوباء "الكورونا"، وما ينتج عن ذلك من انكماش اقتصاديّ عالمي. وقد رصدت دول العالم ميزانيّات خاصّة لمواجهة هذه النّتائج، فـَ "الولايات المتّحدة" أعلنت على لسان ترامب أنّها رصدت ترليونيّ دولار، و"الإتّحاد الأوروبي" رصد 400 مليار يورو، وحكومة إسرائيل خصّصت مبلغ 80 مليار شاقل ... وكل ذلك من أجل إنقاذ اقتصاد هذه الدّول في هذه الأزمة العالميّة.

     

***

ولنعد إلى عام 2008، لكي نرى كيف صرفت الدّول الرّأسماليّة، الميزانيّات الطائلة، مئات المليارات، من ميزانية الدّولة التي من المفروض أن تخصّص للخدمات العامّة للمواطنين، على البنوك من أجل إنقاذها من الإفلاس، فَـ "الولايات المتّحدة" وحدها صرفت أكثر من 800 مليار دولار لدعم البنوك، لقد سخّرت الدّول الميزانية العامّة لإنقاذ القطاع الخاص، فكانت الخسارة للأكثريّة السّاحقة،من الطّبقات العمّاليّة والشّعبيّة، وحتّى المتوسّطة أنّى وجدت، أمّا الاستفادة فكانت للقلّة الغنيّة القليلة القليلة. 

     وأعراض تكرار نفس طريقة التّمويل الحكوميّ، بدأت تظهر في دول النّظام الرّأسماليّ، وذلك بحسب ما أعلنه كحلون، وزير الماليّة، مساء الإثنين 30/3/2020، حول الخطّة الحكوميّة الاقتصاديّة لمواجهة فترة "الكورونا"، ويظهر من قراءة أوليّة، أنّ حصّة الأسد ستكون للمصالح الكبيرة، وهذه الخطّة بحاجة إلى قراءة متأنّية، لإثبات هذا الادّعاء. وستشهد الأيّام المقبلة أنّ ما سيجري في "الإتّحاد الأوروبيّ"، وفي "الولايات المتّحدة" الأمريكيّة"، وفي دول رأسماليّة أخرى، لن يكون مختلفًا عمّا حصل في إسرائيل. 

     ويتبيّن للقاصي والدّاني أنّ ما قاله ماركس (ماركس، 1986، ج3، ص1128)، في كتابه رأس المال، من عام 1885، حول تسخير الميزانيّة العامّة لاحتياجات الرّأسمال، ما زال صحيحًا، لأنّ هذا يعتبر جزءًا من طبيعة النّظام الرّأسماليّ: "إنّ المنبع المسحور، الذي كان الرّأسمال الأوّليّ يصل منه مباشرة إلى الصّانعين، في شكل سلفة، بل وحتّى في شكل هبة مجّانيّة، كان غالبًا هو الخزينة العامّة". (مصدر الاقتباس وسائر الاقتباسات: ماركس، كارل. رأس المال، نقد الاقتصاد السّياسيّ، مكتبة المعارف، بيروت، 1986).

     ولنقف وقفة قصيرة مع ماركس، الذي حلّل نشوء النّظام الرّأسماليّ، من رحم النّظام الإقطاعيّ، بأدق التّحليل، وبأوضح الشّرح، فهو ينهي الفصل الحادي والثلاثين، من الجزء الثّالث، بما يلي: "فإذا كانت النّقود حسب قول أوجييه (Augier)، قد ظهرت إلى الوجود وعلى أحد وجهيها بقع طبيعيّة من الدّماء، فإنّ الرّأسمال يأتي إلى الوجود وهو يتصبّب دماء ووحلًا من جميع مسامه"(ماركس، 1986، ج3، ص1133- ص1134).

     وينهي ماركس هذا الباب بملاحظة في هامش كتابه، لكنّها هي مركز هذه المقالة، أريد أن أقتبسها للقرّاء لأهميّتها: "يقول أحد النّقّاد في إحدى المجلّات التي تصدر كلّ ثلاثة أشهر: "إنّ الرّأسمال ينفر من الصّخب والمنازعات، وهو وجل بطبعه. هذا صحيح جدًا، ورغم ذلك فليست هذه الحقيقة كلّها. إنّ الرّأسمال يكره فقدان الكسب، كما يكره الكسب الضّئيل، وكما تكره الطّبيعة الفراغ. وليكن مضمونًا 10%، عندئذ يمكن استخدام الرّأسمال في كلّ مكان. أمّا إذا كان 20% مضمونًا، فإنّه يتحمّس ويحمى. وإذا كان 50%، كان جسورًا جنونيّ التّهوّر. وعند 100%، يدوس بقدميه جميع الشّرائع البشريّة. وعند 200%، لا يكون ثمّة جريمة لا يجرؤ على ارتكابها، حتّى ولو تعرّض للمشنقة. وحين تكون الفوضى والشّقاق ملائمين للرّبح فإنّه يشجّعهما كليهما؛ والدّليل على ذلك أعمال التّهريب وتجارة الرّقيق" (ماركس، 1986، ج3، ص1134). 

     إنّ الملامح التي تميّز رأس المال من أكثر من 150 سنة، بحسب الوصف أعلاه، ما زالت هي هي هي، بل تطوّرت في عصر الإمبرياليّة، وأصبحت أكثر وحشيّة، وعدوانيّة، وإجراميّة؛ وبناء عليه، لن تتورّع البنوك، والشركات عابرة القارات، والإمبرياليّة عن افتعال أزمة "الكورونا"، أو إدارتها لمصلحتها، بحيث تكون مناسبة لتخصيص الدّول ميزانيّات خاصة، يستأثر بجلّها الرّأسمال في هذه الدّول. فتكون المشاكل رأسماليّة، والحلول اشتراكيّة، القطاع الخاص يخلق المشكلة، والقطاع العام يحلّها، "الأغنياء يأكلون الحصرم والفقراء يضرسون".  

 

 (كفرياسيف) 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب